فقه النكد.!!

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١٠ - ديسمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


1 ـــ هذا العنوان من إختراع الصديق الراحل الدكتور فرج فودة رحمه الله جل وعلا.
عندما احتفل الناس بإغنية " من غير ليه " التى غناها الموسيقار محمد عبدالوهاب وهو فى الثمانيين من عمره ، أصدر الشيخ عبدالله المشد رئيس لجنة الفتوى بالأزهر فتوى تعترض على الأغنية وتساؤلها عن سبب مجيئنا إلى هذه الدنيا وإلى أين سنذهب بعدها ، وتعطى درسا دينيا للفنان محمد عبد الوهاب ...!!
كانت جلسة نتندر فيها على أحوال الشيوخ وعقلياتهم فقال فرج فودة رحمه الله " يبدو أن الشيخ المشد سأل عن الأغنية وهل تقبلها الناس ، فقيل له نعم ، فاغتاظ من وجود شيىء يفرح به الناس فأصدر هذه الفتوى، وهذا هو " فقه النكد " الذى ينغص به الفقهاء على الناس"، وضحكنا .. وكتب فرج فودة مقالا بهذا العنوان حسبما أذكر .
2 ـــ قام الموسيقار محمد عبدالوهاب بتلحين أول أغنية للسيدة أم كلثوم وهى " أنت عمرى " وسعد بها الجميع ماعدا فقهاء النكد ... أتذكر أن الكاتب الراحل " عباس محمود العقاد" مدح الأغنية فى حوار له فى جريدة الأخبار ، ومدح المقطع الأول فيها والذى قامت أم كلثوم بتغييره . ولكن أشهر واعظ فى حينها وهو الشيخ محمود كشك شن هجوما صارخا على أم كلثوم وعلى أغنية " أنت عمرى " وشاع شريط الخطبة وذاع ، وأتذكر أنه كان يصرخ فيه قائلا" اذهبوا إلى المرأة التى تقول – خذنى لحنانك خذنى ... عن الوجود وابعدنى ... بعيد بعيد ... أنا وانت ..بعيد بعيد وحدينا ..على الحب تصحى أيامنا . على الشوق تنام ليالينا "،وقد ذكر الأغنية كاملة على المنبر فى خطبة الجمعة ، متوقفا مع كل بيت فى الأغنية بالهجوم على أم كلثوم والسخرية من الأغنية ، فكانت مأساة ملهاه تدل على أن فقه النكد لا يخلو أحيانا من طرافة ، تحقيقا للمثل القائل ( شر البلية ما يضحك ).
3 ـ واليوم فإن فقه النكد صناعة رائجة بسبب سيادة الدين الوهابى المتزمت المنغلق الذى يكشر لكل ما هو جميل ويقطب حاجبيه لكل ما هو مستحسن ، يغضب إذا فرح الناس ، ويفرح لما يحزن الناس . إذا إحتاج الناس للإستفادة من المخترعات الحديثة بادر إلى تحريمها ، وإذا حاقت بالناس كارثة أسرع إلى تأنيبهم ولومهم .
فقهاء النكد لديهم رغبة سادية فى تعذيب الناس وإيلامهم ، وتضييق رحمة الله تعالى عليهم ، وهم يتطوعون بهذه الرغبة مع سبق الأصرار والترصد ، وليس لهم عذر فيما يفعلون .
قد يكون هناك عذر لتشدد زعيمهم ابن تيمية فى العصر المملوكى، فقد كان تشدده إنعكاسا لمحنة معاناته من السجن والاضطهاد ، ولكن أولئك بالملايين يلعبون ،وبزينة الحياة الدنيا يرفلون وبالنعيم يتمتعون ولديهم من الشهرة والحظ ما لم يحظ به الفقهاء السابقون، ثم يلتفتون للناس بوجه محزون وبفقه النكد مفتون .
4 ـــ من جرائم فقه النكد أنه يقف حائلا دون إنقاذ المرضى والمصابين فى الحوادث ؛ فتاوى فقهاء النكد تحرم التبرع بالأعضاء وتحرم إستنساخ قطع غيار بشرية ... وتقف بالمرصاد لأى تقدم علمى يستفيد منه البشر ...
وكل البشر بمنجاة من فقه النكد وفقهاء النكد إلا أولئك الذين يحترمونهم ويستفتونهم ، ولهذا ففى كل دقيقة يتقدم العالم للأمام فى ثورة الإتصالات والمعلومات والاختراعات بينما يتخصص الوهابيون فى مطاردة هذا التقدم العلمى بفتاوى التحريم وفقه النكد . .
لو افترضنا وجود فقهاء النكد فى مجتمع متحضر لتم وضعهم فورا فى غرف العناية المركزة فى مستشفيات عقلية ونفسية يتم تعقيمها وعزلها عن العالم الخارجى ، لتقام عليهم التجارب العلمية.
فقهاء النكد الوهابيون يتقدمون بالمسلمين الى الخلف فى تقديسهم إفرازات السلف وفرضها على التعليم والاعلام ، وبهذه الافرازات السلفية المقدسة يطاردون التقدم الغربى ، فما لم يعرفه السلف يكون بدعة ، (وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار ) حسب زعمهم . فالابتداع والاختراع ضلالة فى النار،أى فالاسلام غير صالح لهذا الزمان ،أى جعلوه متهما بالتخلف والسلفية والماضوية والرجعية .
5 ـــ ولهذا فإن أكبر جريمة يرتكبها فقه النكد هو أنه ينسب نفسه زورا الى الأسلام ، وهو ضد الأسلام على طول الخط ...
إن تشريع الأسلام يقوم على التيسيروالتخفيف ورفع الحرج، وهو نقيض الحظر والمنع والنكد الذى يقوم عليه الفقه السنى ....
أن الأصل فى تشريع الأسلام هو الحلال المباح ، ولكن الأصل فى تحريم الدين السنى الوهابى هو التحريم . إن التحريم فى تشريع الاسلام إستثناء من القاعدة ، ولكن التحريم فى الدين السنى الوهابى هو القاعدة، والحلال هو الاستثناء. فى الاسلام لا يصح تحريم ما أحله الله تعالى ، ولكن التحريم فى الفقه السنى له قواعد مطاطة تجعل كل المباح الحلال حراما إذا أرادوا.
طبقا للاسلام فإن الحلال المباح هو 99% من تفصيلات الحياة البشرية ، والباقى إما واجب فرض مأمور به أو حرام منهى عنه ، وليس لبشر أن يتدخل فى تحريم ما أحلّ الله جل وعلا أو استحلال ما حرم ،ومن يفعل ذلك فقد جعل نفسه إلها مع الله – سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا- لأنه شرع من الدين ما لم يأذن به الله ... وفقهاء النكد السنى يستحلون قتل المرتد و الزانى ( المحصن ) و الخارج على السلطان المستبد ، فى نفس الوقت الذى يحرمون فيه الحلال والطيبات من الرزق ، وسائر المستجدات التى لم يعرفها السلف .
الحلال المباح ( وهو 99 % من تفصيلات الحياة ) قد يحتاج إلى تنظيم وتقنين فى إطار المعروف والمنكر ، وهنا نحتاج إلى علماء متخصصين،وليس فقهاء سلفيين .. ففى نطاق الأدارة نحتاج لمتخصصين لصياغة قوانيين الإدارة ، وهكذا فى الإسكان والمرور والطب وغيرها ... يقدم الخبراء رأيهم ، وتصاغ فى قوانين على أساس المعروف أو القيم العليا الاسلامية والانسانية المتعارف عليها وهى العدل والتيسير وحفظ حقوق الأفراد ،ثم يتم إصدار هذه القوانيين وفق برلمان حرّ يعبر عن رأى الشعب ويأتى بإنتخابات نزيهة فى دولة ديمقراطية .
وكل دولة ديمقراطية هى دولة إسلامية،وكل دولة مستبدة هى دولة كافرة فاسدة .
وبينما لا تحتاج الدول الديمقراطية إلى فقهاء النكد فإن الدول الظالمة المستبدة لابد لها من فقهاء نكد لتعذب بهم شعوبها ولتنغص حياتهم ، فالنكد من ملامح التعذيب، وهم شيوخ التعذيب و شيوخ النكد .
6 ـ وعندما ظهر القرآنيون يبشرون بحقائق الاسلام وجمال الاسلام و تيسيرات الاسلام و(إنسانية) الاسلام وصلاحية الاسلام لكل زمان ومكان هاجمهم فقهاء النكد والتعذيب ، واستعدوا عليهم أسيادهم الحكام المستبدين ..
ومع ما يعانيه القرآنيون من مشاق وعنت واضطهاد ومطاردة وتشرد وسجن وتعذيب وانعدام الاحساس بالأمن إلا إنهم يواصلون طريق الآلام ...فى صبر وابتسام ..
وأتذكر أننى عندما كنت فى السجن عام 1987 كانت مباحث أمن الدولة قد قبضت عشوائيا على بعض رواد المساجد التى كنت أخطب فيها ، وكانوا أناسا عاديين لا شأن لهم بالفكر ، مجرد ناس اعتادوا الصلاة فى هذا المسجد أو ذاك، فتم اعتقالهم معنا.
فى بداية السجن كانوا ينظرون لى شذرا ، يعتبروننى السبب فيما حصل لهم ، فبذلت وسعى فى التخفيف عنهم وإضحاكهم . فى هذا الوقت كانت هناك مسرحية مشهورة معروضة للفنان سعيد صالح اسمها ( نحن نشكر الظروف ) فكنت كلما مررت بهم أسلّم عليهم قائلا : نحن نشكر الظروف،وأظل أداعبهم حتى حلّ الابتسام محل الخصام، وأصبحوا من أعز الأصدقاء. ثم كانوا من أوائل من أفرجوا عنهم ، وهم من بلاد شتى من الصعيد الى الاسكندرية والقاهرة و الدلتا ،وقد كانوا يبكون وهم يودعوننى فبكينا لبكائهم ، وفى صدق شديد كانوا يريدون البقاء الى أن نخرج معا، وفى صدق شديد كنا نهنئهم بالافراج عنهم ليعودوا الى حياتهم العادية وعائلاتهم بعيدا عن مشاكلنا.. وأتذكر أن رجلا منهم ـ يرحمه الله جل وعلا ـ فى الثمانين من عمره، وكان صاحب سطوة فى الحى الذى يعيش فيه فى الاسكندرية ، هذا الرجل الثمانينى كان يبكى وهو يحتضننى ويقول إن (حى ّ ) كذا فى الاسكندرية يرحب بمجيئى لخطبة الجمعة ، وأنه سيفدينى بروحه، وأن أولاده طوع أمرى ولا بد أن أزوره فى منزله دون خوف...
ولم نلتق بعدها.

7 ـ واجهوا فقهاء النكد بالابتسامة.. وبالاستهانة ..

اجمالي القراءات 21228