قواعد النظام القرءاني عند النيلي – الحلقة الاولى

محمود دويكات في السبت ٠٦ - ديسمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

 في اغسطس 2000 ميلادية ، توفي عالم سبيط النيلي تاركاً وراءه كماً كبيرا من الدفاتر و المخطوطات ، و قام ورثته بتحويل بعض هذه الدفاتر و المخطوطات الى كتب مقروءة ، في حين بقي البعض الاخر (من مثل الجزء الثالث من كتاب اللغة الموحدة و الذي يحوي معاني أكثر من ثلث الحروف الصوتية في اللغة العربية) ما زال مخطوطا أو متناثرا أو مفقودا.

عالم سبيط النيلي من أتباع المذهب الشيعي و هو يؤمن بالاثني عشرية الامامية ومعصومية اولئك الائمة ، و مع ذلك فهو في كتبه أحيانا يعرض لأراء الكثير من هؤلاء الائمة و يظهر تناقضها أو أخطائهم (رغم إقراره بمعصوميتهم أو ولايتهم و هو أمر غريب فعلا و مثير للدهشة) و تحمل الكثير من كتبه نظرة تميل الى تهميش كل شيء أمام القرءان العظيم ، و قد لاقت كتبه بسبب ذلك معارضة متفاوته فيما بين علماء أو كتاب الشيعة ، ويمكن اعتبار كتابي اللغة الموحدة و النظام القرءاني من أبرز و اهم ما أنتجه عقل ذلك الكاتب. لكن لسوء الحظ لم يتم اكتمال نشر مخطوطات كتاب اللغة الموحدة (نظرا لوجود خلافات بين ورثته بخصوص نشر كامل آراءه) في حين تم نشر كتاب النظام القرءاني بعد إعادة تجميعه و لكن بمتن يتفاوت ، فهو مرتب و مركز في البداية لكنه يميل الى التبعثر في نهايته. لكن يبقى الكتاب حافلا و غزيرا بمادته ، على العموم ، تستطيع العثور على كتب ذلك الرجل من خلال هذا الموقع (إضغط هنــا).

/ فيما يلي يكون اللون الازرق منقولا من كتاب النظام القرءاني و القاتم دائما تعليقي في حين يكون اللون الأحمر لتمييز النص القرءاني:

يقول (المنهج اللفظي: هو منهج تحليلي لآيات القرآن العظيم يعتمد على قواعد معينةٍ تخصه، ويعمل بطريقةٍ اعتمدها القرآن نفسه، وله غاياتٌ ومبادئٌ وطرائقٌ مختلفةٌ عن مناهج التفسير المعتادة يأتيك بيانها في هذه المقدمة.) .. قوله المقدمة يعني بها كتاب النظام القرءاني الحالي فقد كان يعتقد أن الله سيمد في عمره لإكمال مشروعه بحيث تكون هذه الدفاتر مجرد مقدمة لعمل اكبر. و هذا المنهج الذي ينادي به قائم في أسسه على عمله في اللغة الموحدة كما قلنا في مقال سابق ، و قوله (ويعمل بطريقةٍ اعتمدها القرآن نفسه) أي بطريقة الارتباطات و الاقترانات و التكرارات كما سيبين خلال هذا الكتاب ، و طريقته هذه هي نسخة قريبة مما أشرت أنا إليه في نظرية الاشتقاق (في هذا المقال) من قبل علمي بمنتجات النيلي ، و فيه يوجد تقارب ملفت للنظر حيال موضوع الاشتقاق والتعويض عبر استعمال الاقترانات فيما بين آيات القرءان.

يتابع فيقول (لهذا المنهج أسس نظريةٌ تسبق القواعد التفصيلية هي بمثابة المبادئ الأولى له. فهي مثل البديهيات في العلوم الإسلامية الأخرى اّتفق المؤمنون بالقرآن على صحتها على نحوٍ ما ، يضعها المنهج لإثبات فرضية (النظام القرآني) وإلزام المؤمنين بالقرآن بها.) و هذا المنهج قائم على عدة مباديء يعتبرها هو بانها بديهيات ، و هذه المباديء هي:

1- مبدأ عدم الاختلاف في القرءان:

يقول (يؤمن هذا المنهج أن القرآن يخلو من أي اختلافٍ بصفةٍ مطلقةٍ، ويندرج تحت ذلك إيمانه بانعدام التناقض الذي يؤمن به بعض علماء الدين. فالمنهج يرى أن الاختلاف أعم من التناقض، وأن انعدام الأول يعني بالضرورة انعدام الثاني لأنه جزء من كلٍّ.) قوله المنهج يقصد به منهجه اللفظي القصدي ،و الذي سيقدمه خلال هذا الكتاب ، وقد أوضحنا المقصود بهذا سابقا، و أما قوله أن القرءان يخلو من أي اختلاف بصفة مطلقة فيبدو مناقضا لكلام القرءان نفسه ، فالله يقول (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)نساء:82 ، فظاهر هذه الاية قد يدل أن الله قد نفى الاختلاف الكثير مما يعني بوجود اختلافٍ قليلٍ فيه! من المدهش أن النيلي لم يتطرق لهذه الاية في كتابه النظام القرءاني بتاتاً، و ذلك لأن الاية إن أخذت على هذا المعنى فإنها تنسف ما يقوله من عدم وجود اختلافات في القرءان ، و لكن هذا المعنى نفسه فيه نظر ، فمن الواضح أن قوله تعالى لا يمكن حمله على المعنى الذي قد يتبادر لذهن الكثيرين ، فلا يمكن أن ننسب وجود اختلاف قليل في القرءان بسبب مجرد نفي الله للاختلاف الكثير فيه ، فالحقيقة في الاية السابقة من سورة النساء تقول أنك لو فتحت كتابا آخر غير القرءان لوجدت فيه (أي في ذلك الكتاب الاخر) اختلافا كثيرا ، و هذا لا يعني بالضرورة أن الاية تقول أن اختلافا أقلًّ موجودٌ في القرءان ، و لكن الاية تشير الى أن الاختلافات في الكتب الاخرى هي اختلافات كثيرة ، لكن في هذا الكتاب (القرءان) فهو كتاب لا ريب فيه (حسب نص آيات أخرى) ، وعدم وجود ريب في القرءان يستتبع بالضرورة عدم وجود اختلافات فيه لأن الاختلافات من مسببات وجود الريب.

أما قوله عن التناقض الذي يؤمن به بعض رجال الدين فهو بلاشك يشير الى الناسخ و المنسوخ ، و ذلك لأن اجتماع الايات التي يعتبرها بعض رجال الدين ناسخا و منسوخا يؤدي الى تناقض في عقلهم فلم يستطيعوا فهمه ، لذلك قالوا بوجود ناسخ و منسوخ في القرءان. .. و هو امر يتفق النيلي على فساده.

2- مبدأ قصور المتلقي:

يقول (يؤمن هذا المنهج أن المخلوق قاصر عن الإحاطة بكلام الخالق قصورًا دائمًا. ومعنى ذلك أّنه مهما بلغ من المعرفة بالقرآن فسيظلّ محتاجًا إلى النظر فيه والتفّكر في شأنه. ولتوضيح ذلك: إن المتكلِّم إذا تكّلم عن شيءٍ ما فقد تكّلم ضمنًا عن نفسه أيضًا، ولما كانت معرفة الله لا نهائية، فتبقى معرفة كلامه لا نهائية أيضًا. ) وهذا كلام لا غبار عليه.

3- مبدأ التغاير عن كلام المخلوقين:
يقول ( يؤمن هذا المنهج بأن كلام الخالق مغاير لكلام المخلوقين وإن تشابهت بعض الألفاظ اتفاقًا. وفائدة هذا المبدأ هي في أّنه يطبق لأول مرةٍ عمليًا داخل منهجٍ تفسيري ليكون جزء منه ودعامة من دعائم حركته، وبذلك يمكنه وضع الحدود الفاصلة بين الكلام المعجز والكلام غير المعجز.) نلاحظ هنا أنه يقول ان منهجه منهج تفسيري في حين كان قد ذكر من قبل أن منهجه (له غاياتٌ ومبادئٌ وطرائقٌ مختلفةٌ عن مناهج التفسير المعتادة). على كل حال هذا المبدأ يدعو للتفكير ، فالله يقول لنا أن القرءان قد نزل بلسان عربي ، فإذا كان المقصود باللسان العربي هو نفس لسان المخلوقين فعندها يسقط هذا المبدأ و يصبح ما يفعله معظم المفسرين من مقارنة كلام الله بكلام البشر جائزا. للتخلص من هذا المأزق نقول أن معنى كلمة عربي قد يكون أعمق من معناها الظاهري المرتبط باللغة العربية كلغة و العرب كجنس ، و لكن يبقى المادة المصنوع منها القرءان هي نفس مفردات كلام العرب ، و بالتالي يكون معنى عربي مرتبط بشيء يشترك به كلام العرب و القرءان و ليس بالضرورة كونه فقط من تلك اللغة. بمعنى أخر إن كلمة عربي هي صفة تنطبق على ما يتكلمه العرب و على نصوص القرءان ، و ليس بالضرورة أن كلمة عربي أسم بذاته ، و إنما قد تحصل من إطلاق الصفة على المسمى ، فاللغة المسمارية مثلا أصبحت تسمى بذلك لأن رموزها شكلها كشكل المسامير ، و هي صفة فيها و لكن لا نقول أن تلك اللغة تحتوى مسامير فعلا، فهذا محال ، فأطلقت الصفة على الاسم ،و كذلك العربية قد تكون صفة أطلقت على اللسان المقصود.

و يتابع النيلي فيقول (إن اللفظ عند المخلوق له معنى اتفاقي (اصطلاحي) جرى عليه العرف. أما في كلام الخالق فله معنى أصلي يسميه المنهج اللفظي بالمعنى الحركي، وهو أصل جميع المعاني. فإذا صادف أن يكون الاستعمال الاصطلاحي في مجرى المعنى الحركي فهو جزء منه، وإلا فهو خلاف الأصل، وإذن فهو استعمالٌ مخطوء وإن كان موغلاً في القدم.). أول ما يتبادر للذهن هو إن كانت فعلا مقاصد الكلمات في القرءان تعود للمعنى الحركي (و سنقوم بتعريف هذا المصطلح لاحقا لكن باختصار هو معنى اللفظة بحسب اجتماع معاني الحروف الصوتية فهو معنى واحد للفظة الواحدة مهمها كان موقعها في السياق لكن يتم "توجيه" معنى اللفظة بحسب مقتضيات السياق .. سنشرح هذا لاحقا) فكيف نستطيع تبرير ذلك للخالق و على أي أساس أراد الله سبحانه من المتلقي البحث بسبيل الوصول الى المعاني الحركية للمفردات؟ فمن المحال أن نظن بالله أنه أعطى العرب كتابا تكون معاني مفرداته مدفونة في غياهب الاصطلاحات وركام المعاني! .. لقد قال النيلي في أحدى محاضراته كلاما ثقيلا بخصوص نقطة مشابهة لهذه ، و هي أن القرءان يفترض به البساطة و الوضوح و أن يكون مبّيناً و أن تكون آياته بينات و مبينات و مفصلات و لا لبس فيها! و لكن بمجرد النظر في كيف تلقاه العرب أنفسهم لاحقا نلاحظ أنهم لم يتفقوا على إعراب آية واحدة و اختلفوا بخصوص معظم مفرداته! هذا القول يفضي الى واحدة من اثنتين: إما أنه لا يوجد إله! و أن هذا القرءان ليس بكتاب من عند إله! و أن القضية كلها كذب. أو أن هؤلاء العرب ألبسوا أنفسهم و أربكوا أنفسهم بما اخترعوه من قواعد لغوية و بلاغية وضعوها لفهم مفردات القرءان و نصوصه بما لا يقل عن 100 عام من نزول الكتاب. و أنا شخصيا أؤمن و أعتقد بصحة النتيجة الثانية و الامثلة في كتاب النيلي هذا كثيرة جدا على تخبط تلك القواعد التي وضعت بعد القرءان بزمن و ألبست الأمر على المؤمنين به.

4- مبدأ خضوع المتلقي للنظام القرءاني:

يقول ( يؤمن المنهج اللفظي بأن على الباحث الخضوع للنظام القرآني إن أراد التوصل إلى معارف القرآن. فأما معنى النظام القرآني فهو: أن في القرآن نظامٌ محكم شديد الصرامة منتشرٌ في جميع أجزائه بحيث أن اللفظ مفردًة كان أو حرفًا والترتيب أو التسلسل المعين للألفاظ في كلِّ تركيبٍ هو جزء من هذا النظام، والخطأ في تصور شيء منه في أي موضعٍ يؤدي إلى الخطأ في تصور فروعٍ كثيرةٍ متصلةٍ بذلك الموضع. فالعبارة الأصح ليست قولنا (أن في القرآن نظامًا محكمًا) بل (القرآن هو بذاته نظامٌ محكمٌ). وأ ما معنى الخضوع فهو: أن على المتلّقي السير على ذلك النظام والتحرك وفقه واكتشاف مسالكه وطرقه. وهذا مثلما يبحث عالِم ما في أسرار الطبيعة، فهو يفسرها بما فيها من قوانين ولا يفسرها من تلقاء نفسه. وحينما يفترض فرضًا ما فإّنه يصححه على ضوء ما يكتشف من حقائق في هذا النظام. فمهمة عالم النبات مثلا عند تفسيره لعمليات النسغ الصاعد والنازل والتركيب الضوئي هي ملاحظة هذه الفعاليات ثم ترجمتها بصياغةٍ علميةٍ. وبالتالي فهو لا يملي على الشجرة نظرياته، بل يفسر ظواهرها هذه ضمن قوانين الطبيعة وما فيها من نظامٍ محكمٍ. وإن لم يفعل ذلك وأسقط أفكاره الخاصة على نظام الشجرة فستختلط لديه الحقائق بالأباطيل ليصبح بذلك جاهلا ليس بمقدوره أن يكتشف شيئًا من حقائق فسلجة النبات.) فسلجة يعني الوضائف العضوية – الفسيولوجية- لأعضاء النبتة ، ، نستطيع تلخيص ما يقوله هنا بالدعوة الى البحث الموضوعي خلال القرءان ، هذا يتم عن طريق ملاحقة المفردات داخل القرءان و دراسة ترابطها تماما كما تتم دراسة ظاهرة معينة في هذا الكون ، و هذا الكلام لا غبار عليه ـ بل هو عين ما ندعو إليه.

5- مبدأ التبيين الذاتي:

يقول (يؤمن المنهج اللفظي بأن القرءان مبين لكل شيء و مبين لذاته ، فأما كونه تبيان لكل شيء معلوم من النص القرءاني نفسه (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)نحل:89 ، و مع ذلك فهو يطبق قواعده على الاية ليبرهن أن المقصود بـ(كل شيء) هو فعلا (كل شيء)، و ليس كما قال المفسرون من أنه (الأمر المشكل) من أمور الدين.) و هذه النقطة بحاجة الى وقفة ، فهل فعلا أن القرءان يمتد ليشمل تبيان كل شيء؟ أولا إن سياق الاية التي استشهد بها النيلي هو الاتي (الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ * وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ...الخ) نحل:88-91 يشير الى موقف الرسول عليه السلام يوم القيامة و هويحمل الحجة كشهيد ضد اولئك الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله ، فيكون ذلك محفزا لأن نقول إن التبيان المقصود إنما هو لما أمر الله به من أوامر و نواهي كما تتابع الايات بعد ذلك (آيات 90-95 لاحقا) و كانت تلك عينة مما أمر الله به ، و بالتالي فليس من المنطق ان ندعي ان القرءان نزل تبيانا لأمر لم يذكره الله بتاتا في القرءان ، و إنما كان التبيان محصورا بتفاصيل الدين الجديدة و المطلوب من البشر الالتزام بها ، و هذا الرأي يقول به الدكتور منصور و جمع كبير من العلماء.

يتابع النيلي فيقول (وأما كونه مبين لذاته فيعتمد على ثلاثة أسسٍ هي:
الأساس الأول: إن القرآن هو (نظامٌ محكمٌ). ومعلومٌ أن كلَّ نظامٍ محكمٍ مبينُ لنفسه من خلال النظام نفسه. فكلّ جزءٍ من هذا النظام هو في حقيقته وصفٌ لطبيعته ولعلاقته بالأجزاء الأخرى منه. وهكذا فالنظام (أي نظامٍ) كاشفٌ عن نفسه لا محالة، وبخلافه فلا يمكن وصفه بالانتظام فضلا عن وصفه بأنه نظامٌ محكمٌ. إن إثبات كون القرآن نظاماً محكمًا هو الموضوع المحوري لهذه المقدمة عن المنهج اللفظي.)
هذه النقطة هي تحصيل حاصل للفرض بخصوص وجود نظام محكم في القرءان، و دعنا نقف قليلا حول ما يقوله هنا: فهو يعتبر أن أي نظام لا بد أن يكون مبينا و كاشفا عن نفسه حتى يكون نظاماً ، و قد يبدو هذا منطقيا ، فلا يمكن التنّبؤ بقوانين أي نظام معين إذا لم يكن يظهر نفسه من خلال الاعادة و التكرار ، و من المعلوم أن التكرار هي من أهم صفات القرءان ، فتجد الكثير من الامور و الالفاظ تتكرر في القرءان بشكل ملفت للنظر ( إنظر هذه المقالة ) – إذن التكرار قد يكون دليلا على وجود نظام محكم فيه ، وكان من جملة ما حاول النيلي دراسته هو الارتباطات و التكرارت للألفاظ عبر القرءان ، و هو ما أحاول أنا دراسته لكن باستحداث طرق يمكن تكميمها عدديا بغية توحيد المقاييس و هو أمر لم يهتد اليه النيلي رغم أن له كلامٌ بخصوص استخراج الثوابت الطبيعية و استخدامها في فهم الانظمة الطبيعية (و القرءان أيضا) إلا أنه حديث لم يرقَ الى التطبيق بعد.
يتابع النيلي فيقول (الأساس الثاني: وردت في النصوص القرآنية صفة التبيين على ثلاثة مستوياتٍ: الأول منها: أّنه (تبيان لكلّ شيء) كما مر سابقًا. والمستوى الثاني: أّنه (قرآنٌ مبينٌ) أي مبينٌ بنفسه. وأما المستوى الثالث: وهو على مستوى الآيات (آياتٌ بّيناتٌ) أي بنفسها، وبالبناء للمجهول (آياتٌ مبينَّاتٌ "بالفتح") بنفسها مرة وبغيرها من الآيات مرة أخرى، و(آياتٌ مبينِّاتٌ "بالكسر") لنفسها مرة ولغيرها من الآيات مرة أخرى.) ، ويتابع قائلاً (الأساس الثالث: إن المّلة المسلمة قد أجمعت وأقرت للقرآن اتصافه بصفتين كان قد وصف هو بهما نفسه. الأولى أّنه كتابٌ للهداية والثانية أّنه كتابٌ معجِزٌ. واجتماع الصفتين يحّتم أن يكون مبينًا لذاته، بل انفراد كلٍّ منهما يحّتم ذلك. إذ لو كان مبهمًا لفقد القدرة على الهداية، فلا بد أن يكون (مبينًا) وآياته (بينات). وإذا لم يكن مبينًا لذاته كان خلوًا من أي نظامٍ فيسقط الإعجاز إذ أن فاقد النظام لا يكون معجِزًا. فمثله مثل النور يمكنك أن ترى به الأشياء، فهو مرئيُّ بذاته فلا يحتاج إلى وسيلةٍ لرؤيته، فكذلك القرآن فإّنه (مبين) بذاته (وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا)شورى:52) أ.هـ.

6- مبدأ العلو والشمول و الحاكمية و الامتناع:

يقول (يؤمن هذا المنهج بأن القرءان ممتنع عن قبول أي علم او معرفة غيرعلمه هو، فهو متعالٍ عن كل علم آخر لأنه كلام الله الذي (أنزله بعلمه). فهو حاكم على كل علم و غير محكوم بأي علم.) ..قد يوحي هذا الكلام بنوع من التناقض ، إذ كيف يقول أن القرءان غير محكوم بأي علم في حين يجاهد النيلي من أجل الوصول الى منهج يبين النظام في القرءان و بالتالي يحكم من خلاله على القرءان نفسه؟ لم يتنبه النيلي لمثل هذا التساؤل و لكنه يفهم من كلامه بان المنهج إنما هو جزء من القرءان نفسه و ليس علما من الخارج جيء به للحكم على القرءان ، و بالتالي فإن فهم القرءان يؤدي بالضرورة الى تحسين فهم المنهج و الذي بالتالي يؤدي الى تحسين فهمنا للقرءان ، غير أن هكذا علاقة لايمكن أن توجد طبيعياً (لأنها دائرية) إلا إذا وجد عامل خارجي يغذي فهمنا لللمنهج أو القرءان أو كليهما ، و هذا العامل الخارجي هو ما كان يستنتجه النيلي في أبحاث اللغة الموحدة - رغم أنه لم يقولها بصراحة- . إذن يسقط هذا المبدأ بحسب مقدمات النيلي نفسه ، إلا إذا تم وضع محددات تحدد هذا المبدأ و تجعل فهم اللغة الموحدة من متلازمات فهم القرءان ، و هذا بدوره يوقعنا في حيرة أخرى ، إذ كيف يستوجب أن يكون القرءان مبينا و موضحا لنفسه في حين يلزم التوضيح و التبيين علماً من خارج القرءان؟ إذن التوضيح و التبيين لابد و أن يكون من خارج القرءان و هو ما يعتبر تناقضا صارخا بحسب فروض النيلي هذه.

رغم صعوبة المسألة و حساسيتها، إلا أن جوابا آخر قد يقبع في أذهان الكثيرين رغم غرابته الشديدة. هذا الجواب يكمن في افتراض ان الاختلاف في فهم القرءان هو أمر متلازم و القرءان نفسه!! .. قد يبدو هذا غريبا بعض الشيء و لكن لنعد الى آيات الكتاب نفسه ، قوله (وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) بقرة:253 ، الاية تشير الى الاختلاف الحاصل من بعد مجيء البينات ، و آية أخرى هي قوله عن بني إسرائيل (فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يونس:93 ، فهذه الاية تشير الى أن العلم (أي الموحي اليهم عبر كتب سماوية) كان هو المسبب لاختلافهم ، و لم يعقب الله سبحانه على شرعية الاختلاف ، هل كان يجب أن لا يختلفوا من الاصل أم لا؟ أي هل هناك مبرر لهذا الاختلاف بسبب العلم؟ أية أخرى تلقي ضوءا على ما قد نعتبره كمبرر لهذا الاختلاف ، قوله مرة أخرى عن بني أسرائيل (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) جاثية:17 ، فقد يكون المقصود بالبغي هنا هو التعدي على بعضهم البعض أو على النص نفسه و تفسيره بدوافع ذاتية لا تمت للعلم المنزل بشيء ، و هذا ما يحصل في القرءان في هذا الزمن. و نلاحظ أن الايتين انتهيتا بنفس التعليق (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) مما قد يوحي بأن الاختلاف في فهم القرءان هو امر قد يكون مسموحاً ، و لكن نلاحظ آية أخرى قد تنفي هذا الاستنتاج و هي قوله تعالى (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ)نحل:64 مما يعني أنه من المفروض ان القرءان هو الذي يحسم الاختلافات! و لكن قد يجادل أحد ما بأن الاية الاخيرة هذه تتحدث عن اختلافات محددة هي تلك التي وقع فيها أهل الكتاب السابقين ، وهذا لا يعني أن أهل القرءان سوف لن يقعوا في اختلافات أخرى..,و يؤكد مشروعية الاختلاف أية أخرى قوله (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يونس:19 ، فهذه الاية تقر لنا و كأن الاختلاف أمر طبيعي و حاصل مع البشر! و أن الله قد أراد أن يؤجل الحكم في اختلافهم ليوم القيامة. بصراحة لم أستطع حسم الخلاف حول هذه النقطة.

كانت هذه المباديء التي اعتبرها أسس و ثوابت في منهجه الذي اعتبره منهج القرءان ، و هي كما ترى مرجعيات اعتقد أنها تحمل طابعا بديهيا لدى معظم المسلمين... على كل حال سنخوض في الحلقة التالية في بعض التعريفات و قد نستعرض بعض القواعد التي وضعها بناءً على أبحاثه من أجل فهم القرءان ، و سوف نلاحظ أن تلك القواعد ماهي إلا هدم للقواعد التي وضعها علماء اللغة و التي – برأيه – أفضت الى الكثير من الخلافات و الاختلافات في فهم النص القرءان المبين.

 

اجمالي القراءات 13268