(1 )تحديد المصطلح القرآنى من خلال السياق فقط..
فى الرّد على الأحبة فى مقال (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِه

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٦ - نوفمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة

أكرر دائما أننا جيل الحوار و النقاش ، وأسعد بحوار الأحبة معى فى كل ما أكتب ، وأصفهم جميعا بالأحبة مهما بلغت درجة الخلاف بيننا ، طالما نلتزم بأدب الحوار ورقى النقاش .
وقد عارضنى بعض الأحبة فى موضوع التفريق بين الرسل وكون شهادة الاسلام واحدة فقط ، وأشكر لهم أدب الحوار فى المعارضة والاختلاف ، كما أشكر لمن اتفق معى فى الرأى .
سعادتى بهذا الاختلاف له أسباب :
1 ـ إن هذا الاختلاف أساس فى هذه المرحلة فى جيلنا ،ولا بد أن يصل الحوار الى مناقشة عقائد المسلمين ومدى اتفاقها واختلافها مع القرآن الكريم بعد قرون طويلة من الابتعاد عن منهج القرآن الكريم ،ورثنا فيها أوزار من سبقنا تراثا وعقائد و طقوسا وعبادات ما انزل الله جل وعلا بها من سلطان . المهم ترشيد الخلاف والحوار بالرقى الحضارى للاسلام والقرآن الكريم.
وقد يقال : طالما أنتم مختلفون فى العقائد ، وعلى رأسها شهادة الاسلام و ونوعية الايمان بالرسل فماذا يجمعكم إذن ؟
وأقول : يجمعنا أننا نجتمع حول القرآن الكريم وحده نتدبره ونتعلم منه وحده ،ونحاول أن نصلح به أنفسنا وعقائدنا . ومن الطبيعى أن نختلف فى فهمنا للقرآن الكريم تبعا لاختلاف خلفياتنا العلمية و قدراتنا البحثية ومدى تاثر كل منا بموروثاته الثقافية و الدينية ،بالاضافة الى نوازع النفس البشرية من عناد ومكابرة واعتزار بالرأى حتى لو تبين خطؤه.. وكلنا يقع فى هذا. ولذلك فنحن نحاول إصلاح انفسنا بهذا الحوار ، وهو حوار معلن ومفتوح ، ونتوجه به لاصلاح المسلمين.
2 ـ إن كل خلاف يقع بينى وبين الأحبة سبق أن عانيت منه بينى و بين نفسى . لم أولد هكذا ، ولو قابل (أحمد صبحى منصور ـ الذى يقترب الآن من عامه الستين ) (أحمد صبحى منصور الذى كان فى الخامسة والعشرين ) لربما قام الأخير بقتل الأول معتقدا أنه يحسن صنعا.!!. لم يكن سهلا أن أتخلص من الموروثات الصوفية ثم السنية ، وليس سهلا على شيخ ازهرى عريق أن يصلح من عقائده ، خصوصا وأنه يتصدى لاعلانها خطيبا وكاتبا ، وعليه إن كان يخشى الله جل وعلا أن يعلن خطأه فيما قال من قبل وفيما كتب ، وعليه أن يعلن ما تعلمه من القرآن الكريم. ولكن عليه أيضا أن يتسامح مع من يختلف معه ـ خصوصا إذا كان خلافا راقيا ـ لأن هذا الشيخ سبق أن عاش تلك العقائد ودافع عنها من قبل قبل أن يتبين له خطؤها . عليه ان يتذكر قوله جل وعلا (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) ( النساء 94)
3 ـ إن الخلاف فى العقيدة لا يمنع الحب و التآخى طالما رفرف السلام على المختلفين فى العقائد ، وطالما احترم كل منهما حق الآخر فى الاختلاف ، وآمن بمسئوليته الشخصية عن معتقده أمام الله جل وعلا يوم القيامة. وفى حالة الحوار بين المختلفين فان المحبة ينبغى أن تنعكس فى لغةالحوار وطريقة الخطاب ..وفى النهاية فكل منهم مسئول عن اختياره العقيدى . ولهذا أخاطب الجميع ـ من اختلف ومن اتفق ـ بالأحبة . لن أستفيد شيئا إذا اتفق معى أحد ، ولن أخسر شيئا إذا خالفنى ..وأنا وهو وجميعنا سنلقى الله جل وعلا يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون.
4 ـ هنا يكمن الفارق الأساس بينا ـ أهل القرآن ـ وبين الحركات الدينية التى تستخدم الدين للوصول الى مطامح سياسية ودنيوية .
العمل السياسى عموما يعتمد أساسا على إرضاء الجماهير ـ بل وخداعها بالأكاذيب و الشعارات ، ويتجنب إثارة الناس والعوام فى معتقداتهم وثوابتهم الدينية ،ولأن السياسى يريد أن يمتطى ظهور الناس فلا بد له من خداعهم بمعسول القول ، ومجاراتهم فيما يعتقدون حتى لو كان ذلك على حساب معتقده الشخصى ، فلو كان مثلا يعلم أن تقديس الأضرحة خرافة وأن الاعتقاد فى كرامات الأولياء دجل ، فلن يستطيع أن يعلن هذا خوف أن ينفض الناس من حوله ، بل هو مرغم على أن يبتلع عقيدته وان يشارك مع الناس الاحتفال بالموالد الصوفية وأن يقف قانتا يقرأ الفاتحة أمام القبر المقدس ليحصل على رضا القطيع الذى يؤمن بهذا الولى المقبور.
الأمر أصعب فى الحركات السياسية التى تتلاعب بالعواطف الدينية للجماهير للوصول الى الحكم . لا يمكن أن يكون الاصلاح الدينى ضمن أجندتها ، بل على العكس فالاصلاح الدينى هو عدوها الأكبر الذى يصرف الناس عنهم ، والذى يوقظ فى الناس عقولهم بما يحبط آمال الطامحين منهم للوصول الى الحكم .
حسن البنا ـ مثلا ـ ظهر فى وقت كانت هناك مناقشات عنيفة حول الوهابية وتكفير هائل لها ، فلم يكن المناخ مواتيا للجهر بالوهابية ، فقام بتأجيل كل الخلافات الدينية و المذهبية بهدف تجميع كل (المسلمين) ليكونوا ( إخوانا ) تحت شعار تطبيق الشريعة و الحكم بما أنزل الله ، حتى دون السماح بمناقشة تلك الشعارات.
نحن غير ذلك.
لسنا جماعة ولسنا تنظيما وليست لنا طموحات سياسية، ولسنا مجبرين على ارضاء احد ، ولسنا مضطرين لخداع احد ، ولسنا محتاجين لأحد ، لأن واجبنا ان نرضى ربنا جل وعلا وحده ..وبالتالى فما يهمنى هو ان أقول ما اعتقده حقا ، وأكون مسئولا عنه امام الله جل وعلا فقط يوم الحساب. هى مسئولية كل انسان يعى الاختبار الذى وضعنا فيه الخالق جل وعلا ، فلم يخلقنا ولم يخلق هذا الكون عبثا (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ )( الأنبياء 16) (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ )(الأحقاف 3 )، ولن يبعثنا يوم القيامة عبثا (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)(المؤمنون 115 ).

أبدأ فى الرد لإثبات أن تحديد المصطلح القرآنى لا يكون إلا من خلال السياق فقط..

أولا : ( صفات الله جل وعلا واسماؤه الحسنى )

(1 ) اتفق معى د. عثمان محمد على ، ولكنه بدأ تعليقه بقوله (بارك الله فيك أستاذى العظيم ).
ـ ردّ عليه الاستاذ عمار نجم فقال : (وبالمناسبة هل يجوز للمعلق السيد عثمان ان يصف البشر بالعظيم هذا مجرد سؤال فقد سمعت مرة ان ذلك حرام ولا يجوز لان القران لم يصف اي انسان بانه عظيم وانا متأكد من هذه المعلومة 100 %. نرجو منكم التوضيح وشكرا لكم ).

ـ ردّ عليه د. عثمان فقال (وأشكرك على الملاحظة حول كلمة عظيم ،فيا صديقى هى من الصفات التى يسمح لنا أن نصف بها المخلوقات فى التقدير والإحترام ، ولا تعنى أبداً التقديس أو الإقتراب منه . فهى تشبه صفات رؤوف ورحيم ومبدع وخلاق التى نطلقها على البشر .وهى تختلف عن أسماء الله العلى الكبير التى لا يمكن أن نطلقها على غيره سبحانه وتعالى من أمثال ( الرحمن - الصمد – الأحد) )وقال : ( يجوز إطلاق بعض الأسماء أو الصفات من اسماء الله جل جلاله وصفاته على بعض من خلقه ،وذلك لقصور اللغة فى التعبير عنها ليس إلا ،ولا يدخل فيها التقديس أبدا أبدا .وقد عبر عن هذا القرآن الكريم فى قوله عن نبيه ومصطفاه (بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ..وفى قوله سبحانه ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) ..وهناك الكثير والكثير ايضاً ، وإنظر حضرتك لكلمة رؤؤف - و- رحيم - وأحسن الخالقين ..... )
(2 ) ندخل هنا باشارة سريعة على كلمة ( عظيم ) فى موضوع صفات الخالق جل وعلا..
ـ طبعا لا أحتاج لمدح من ابن أخى د. عثمان ، وليس هو محتاجا لن ينافقنى ، فهو بمثابة ابنى البكر. ولكنها فلتة لسان ، أو كبوة قلم ، ف(العظيم ) باضافة الألف واللام يجب أن يكون وصفا لله جل وعلا وحده وما يتصل به . أما بدون الألف والام فقد يوصف بها غير الله جل وعلا.
وليس الأمر بهذه البساطة :
* ـ فهناك صفات مشتركة يوصف بها الله جل وعلا ويوصف بها غيره من المخلوقات ، وليست مقترنة بأل ، والمثال الواضح وصف (رءوف رحيم ) للنبى محمد عليه السلام وللخالق جل وعلا أيضا . فقد وصف الله تعالى خاتم الأنبياء فقال (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة 128 ) وقال تعالى فى المؤمنين من أتباع عيسى عليه السلام (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) ( الحديد 27 ).
ولم يأت ـ مطلقا ـ وصف الله تعالى بأنه ( الرءوف الرحيم )أى بالألف واللام ، فمثلا يقول جل وعلا (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) ( البقرة 143 ، 207 ) (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( النحل 7 ) وفى سورة التوبة قال جل وعلا عن ذاته (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )( 117 ) وقال عن رسوله (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )( 128 ) أى هو نفس الوصف (رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )
والواضح أن الذى يحدد المقصود هو السياق.
وأرجوكم ضعوات تحت كلمة ( السياق ) ألف خط وخط ، لأنه موضوع هذا المقال.
ـ وهناك من الصفات المشتركة ما يكون مقترنا ب(أل ) ويأتى وصفا لله جل وعلا وللمخلوقات. والسياق هو الأصل وهو الفصل فى فهم المراد.
مثلا . وصف (الحىّ )عن رب العزة يأتى مقترنا ب (أل) مع إضافات فى السياق لينطبق الوصف على الله جل وعلا وحده ، كوصفه جل وعلا بأنه الحى الذى لا يموت تمييزا له عن غيره ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) ( الفرقان 58 )أوالحى القائم على كل شىء الذى ينام ولا يغفل :(اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ) ( البقرة 255 ).
ويأتى (الحىّ ) وصفا للمخلوقات التى توصف بالحياة والموت ، أحيانا نكرة بدون (أل ) كقوله جل وعلا (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) ( الأنبياء 30) والسياق هنا أنها مخلوقات من ماء خلقها رب العزة. ويأتى نفس الوصف غالبا لها مقترنا ب(أل ) كقوله تعالى : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) ( آل عمران 27 ) (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ )( الأنعام 95 ). ومقابلة الحياة بالموت تكرر فى وصف المخلوقات ليدل السياق على ان المقصود هو المخلوق و ليس الخالق ، مع وجود صفة (الحى ) هنا وهناك.

3 ـ وفى صفة (عظيم ) نلاحظ ـ عموما ـ أنها تأتى صفة:
* لله جل وعلا (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) ( البقرة 255 )
*للعرش العظيم لله جل وعلا (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( التوبة 129 )
للفضل العظيم من الله جل وعلا (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )(آل عمران 74 )
*للقرآن العظيم (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ( الحجر 87 )و القرآن الكريم هو الخلق العظيم أى المنهاج الذى يتمسك به خاتم الأنبياء ، وهذا معنى قوله جل وعلا :( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )( القلم 4 )
للأجر عظيم من الله جل وعلا :(لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران 172 )
للعذاب العظيم من الله جل وعلا : (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( البقرة 7 )
وكقوله تعالى عن مكافأة ابراهيم و اسماعيل عليهما السلام(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )(الصافات 107 )

4 ـ وتأتى وصفا لأعمال البشر السيئة مثل سحر سحرة فرعون :(وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)( الاعراف 116 )
وقول الكفر يوصف بالعظمة ، أى كنحو قولك (خطر عظيم ) أو (هائل )، فليس هذا مدحا بل أكبر أو (أعظم ) ذنب ، يقول جل وعلا :(أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا)( الاسراء 40 ) ونحوه البهتان ( العظيم ) (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) ( النساء 156 )
(فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) ( يوسف 28 )

4 ـ واختلاف معنى العظمة يأتى حتى فى السورة الواحدة ، كما جاء فى سورة النور حول حادث الافك ، فقال جل وعلا عن المتآمر الأكبر لحادث الافك :(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ )
وحذّر رب العزة المؤمنين من عذاب (عظيم ) بسببه :( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ).
وعن استهانة بعض الصحابة بهذا الذنب قال تعالى لهم : ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) فهنا اختلاف فى التقدير. بين تقدير الله تعالى وحكمه وبين حكم الصحابة . ثم يقول تعالى عن جريمة رمى المحصنات (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النور 11 :16، 23 ).
وهناك تنويع فى سورة الواقعة فى استعمال مصطلح (العظيم):
إذ يأتى وصفا لاسم الله جل وعلا (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) وبعدها للقسم الالهى عن مكانة القرآن الكريم ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) ووصف لمعتقدات المشركين بأنها حنث عظيم : (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ) ، ثم يتكرر فى خاتمة السورة وصف اسم الله جل وعلا بالعظمة :(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ( الواقعة 74 ـ )( 96 ) ( 46 ، 76 ). ونلاحظ هنا أيضا أن (الْحِنثِ الْعَظِيمِ ) جاء مقترنا ب( أل ) مثل نفس الاقتران ب(أل ) فى قوله تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ )

5 ـ وأشرنا الى اختلاف التقدير فى موضوع ( عظيم )بين رب العزة و الصحابة فى حادث الافك ،إذ كانوا يحسبونه هينا وهو عند الله جل وعلا أمر عظيم.
وقلنا فى مقال سابق إن ( الصاحب ) فى مصطلح القرآن الكريم هو الذى يصحب صاحبه أى يوجد معه فى نفس الزمان والمكان ، ويتفاعلان معا بالعداوة أو الصداقة أو بأى علاقة . وبالتالى فهناك صحابة أمنوا وكانوا مع النبى ، وصحابة كفروا وأشركوا وكانوا ألد أعداء النبى محمد عليه السلام من قريش وغيرها ، وهناك صحابة نافقوا.وفى الآيات السابقة من سورة النور عن حادث الافك رأينا كيف اختلفت مواقف بعض الصحابة مع حكم رب العزة جل وعلا.
يذكرنا هذا بموقف آخر من صحابة آخرين ـ كانوا أعداء النبى ، وكفروا حقدا عليه :لماذا نزل عليه القرآن الكريم ولم ينزل عليهم وحى ايضا مثيلا للقرآن . ورد الله جل وعلا بأنه هو الأعلم اين يضع رسالاته : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام 123 ـ )
بعضهم كفر لأنه يرى أن محمدا عليه السلام لا يستحق أن ينزل عليه القرآن الكريم لأنه ليس عظيما مثل عظمائهم . وندخل بذلك على موضوع العظمة و اختلاف تحديده بين الله جل وعلا و المشركين.المشركون الكافرون لديهم مقياس للعظمة ، هو المال والجاه المترتب على هذا المال ، ولأن محمدا عليه السلام لم يكن ثريا ولأنهم كانوا أكثر أموالاوأولادا وجاها ونفوذا فليس محمد عليه السلام عندهم عظيما يستحق ـ فى رأيهم ـ أن ينزل عليه القرآن الكريم ..
ورد رب العزة عليهم يؤكد لهم أن مقياس العظمة ليس المال الذى رزقهم به ،أو الطبقة الاجتماعية التى ترتبت على اختلاف توزيع الثروة ،لأن الله جل وعلا هو الذى أعطاهم المال ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليختبرهم ، فكان أن اتخذوا بعضهم بعضا سخرية ، يقول تعالى :(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف 31 : 32 )
نرى هنا نقلا لأقوال البشر ورؤيتهم لمعنى العظمة ، مع التعليق عليها بالتصحيح .
وهناك نقل آخر لأقوال البشر استعمل كلمة ( عظيم ) فى محلها وسياقها فلم تكن هناك حاجة للتصحيح ، إقرأ قوله تعالى فى قصة يوسف عن ذلك الرجل من أسرة إمرأة العزيز والذى حكم عليها بالذنب وبرّأ يوسف عليه السلام ،ثم التفت اليها مؤنبا وقال:(إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) ( يوسف 28 ).
نفس الاختلاف فى التقدير بين الرؤية الالاهية ورؤية المشركين فى العظمة نراها فى قصة قارون ، أغنى أهل الأرض فى عهده . فالمفتونون بالدنيا اعتبروا قارون ذا حظ عظيم ، ورد عليهم أهل العلم والايمان يصححون لهم معنى الحظ العظيم ، ثم خسف الله جل وعلا الأرض بقارون وثرواته فعلم المفتونون سوء تقديرهم . إقرأ فى ذلك قوله جل وعلا ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) ( القصص 79 ـ ).
وبالمناسبة فإن الحظ العظيم فى تقدير رب العزة هو من نصيب الداعية للحق الذى يرد على السيئة بالتى هى احسن ، متسامحا مع من يتطاول عليه من الجهلاء ، وهذا خلق عزيز ونادر لا يصل اليه فعلا إلا من يكون ذا صبر عظيم فيستحق ذلك الحظ العظيم .. يقول جل وعلا : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (فصلت 34 : 35 )
6 ـ تلك نظرات سريعة وفوقيه فى فهم سياق بعض الآيات القرآنية التى جاء فيها وصف ( عظيم ). هى نظرات سطحية لأن هناك درجات فى فهم السياق القرآنى تعتمد على قدرة الباحث وتمكنه . وبالطبع ليس هنا مجال التعمق فى بحث السياق القرآنى لمصطلح ( عظيم ). ولكن أعطى أمثلة أدعو بها عقول أهل القرآن للتفكر فيها.
مثلا :
* سبق الاستشهاد بقوله جل وعلا عن المتآمر الأكبر فى حادث الافك ، ووصفه جل وعلا له :(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ). وسبق فى كتابنا ( القرآن وكفى ) أن أثبتنا أن حادث الافك لا علاقة له مطلقا بالسيدة عائشة ، ولكنه كان اتهاما مشاعا أصاب جماعة من المؤمنات العفيفات المحصنات فى اول استقرار المهاجرين والمهاجرات مع الأنصار فى المدينة. وبعيدا عن الروايات التاريخية فان ما يهمنا ليس اسم الشخص بل الموضوع ، وهو ذلك العذاب العظيم الذى ينتظر ذلك الجانى . السؤال هنا عن ماهية هذا العذاب العظيم واختلافه عن غيره من العذاب ، وموعده وهل فى الدنيا أم فى الاخرة أم فيهما معا ؟ وصلة ذلك بعلم الله جل وعلا إذ حكم الله جل وعلا مقدما بأنه فى النار طبقا لعلمه بغيب المستقبل،ونوعيةالمنافقين من حيث التوبة وطبيعتها . ليس هذا إبحارا فى الغيب الالهى لأننا لا نتكلم عن اشخاص ، ولكن عن خصائص ونوعيات تحدث عنها بالفعل القرآن الكريم .
* سبق أن أشرنا الى وجود (أل ) وعدم وجودها فى صفات الرحمن وغيره . ولكن الأمر كما قلت ليس بهذه البساطة ، فللسياق القرآنى أعجازاته التى ينبغى ان نتعرف عليها حين نتساءل لماذا جاءت (أل ) هنا ، ولماذا لم تأت هناك . الاجابة فى تحليل السياقات القرآنية ، داخل كل منها منفصلا عن غيره مع تحليل السياقات البينية بين هذا وذاك .
كمجرد مثال فانه فى سورة النمل جاء وصف عرش بلقيس بالعظمة ، وجاء فى نفس السياق وصف عرش الرحمن بالعظمة مقترنا ب(أل ) . يقول جل وعلا عن عرش الرحمن (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (النمل 26 ) وقبله يقول عن عرش بلقيس نقلا عن شاهد عيان (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) ( النمل 23 ).
لن نتوقف عند الشاهد العيان وهو الهدهد ومعرفة سليمان عليه السلام بمنطق الطير ، فلهذا مقال سبقت كتابته فى سلسلة الاعجاز العلمى فى القرآن الكريم ـ لا أعرف هل تم نشره أم لا ـ ولكن ما نريد التدبر فيه هو مفهوم (عرش الرحمن ) و( عرش بلقيس ). ولنلاحظ ان الاختلاف حول الاستواء على العرش كان إحدى الحروب (العالمية) الكبرى بين المسلمين و التى لا تزال مستعرة منذ القرن الثالث الهجرى بنجاح (عظيم ). وأقول إن تلك المعارك دارت بعيدا عن فهم السياق القرآنى لأن كل خصم دخل على السياق القرآنى بفكرة مسبقة يريد إثباتها . وهناك بعض التفصيل فى موضوع (التأويل) المنشور فى هذا الموقع.
ثانيا :
وفى موضوع (التأويل ) أشرت الى عجز اللغة العربية أو أى لغة إنسانية عن التعبير عن كل الاحساسات البشرية ، فكيف بما هو خارج مدركاتها.
لنتذكر أننا لا نقدّر الله جل وعلا حق قدره ، بدليل كل ذلك النقاش لاصرار بعض الأحبة على وضع اسم مخلوق مع اسم الخالق جل وعلا.
لا أتذكر الأعداد بدقة ، ولكن يقال أن المجرة التى تتبعها الشمس تضم ألف بليون نجم ، وأن هناك ألف بليون مجرة أخرى، احصائيات ليست دقيقة، فهى تتغير مع تقدم علمنا بالفضاء الخارجى ، إذ يقال إن هذا الكون المادى الذى نعيش فيه ليس وحده بل هناك أكوان أخرى بأزمنة أخرى يربط ما بينها ثقوب فضائية ، والمسافات فى كوننا المادى تصل الى بلايين البلايين من السنين الضوئية. العقل هنا يهتز ويعجز عن التخيل .
فاذا تركنا الفضاء الخارجى الى الفضاء الداخلى داخل النفس البشرية، فسنعجز عن ادراكها لأنها خارج عالمنا المادى. وهناك فضاء داخلى مكتشف حديثا داخل الذرة والنواة ، حيث سرعة تفاعل العناصر والمواد ،وهو مجال ارتاده العالم المصرى أحمد زويل. المقارنة هائلة بين السرعة بالسنة الضوئية فى الفضاء الخارجى والسرعة فى الفضاء المتناهى فى الصغر داخل النواة والذرة ، حيث تقاس بأجزاء من الألف وأكثر من (الثانية ) وال( فمتو ثانية).
العقل قد يتوقف عن التخيل. واللغة نفسها أكثر عجزا عن صياغة ألفاظ دقيقة تعبر بها عن بديع صنع الرحمن .. فكيف للغتنا البشرية أن تعبر عن ماهية الخالق جل وعلا طالما تعجز عن إدراك بعض الكائنات الجامدة من هذا الكون ؟
هذا هو ما أشار اليه د. عثمان محمد على ، فى قصور اللغة عن التعبير عن صفات الرحمن ، وبالتالى فاننا لا يمكن أن ندرك المعنى الحق لعظمة الرحمن وحياة الرحمن ، كل ما نفهمه هو ذلك التقريب الذى جاء به القرآن الكريم ، والذى يجب علينا أن نفهمه من خلال السياق القرآنى ، وإلاّ وقعنا فى الخطأ.
وهنا نضع بعض الملاحظات :
1 ـ بدون فهم السياق نخطىء فى فهم عقيدة الاسلام :
مثلا فان كلمة (النفس ) قد تاتى منسوبة لله جل وعلا ، كقوله تعالى عن ذاته: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) ( الأنعام 12 ، 54 ). فهل تموت (نفس الرحمن ) وينطبق عليها قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ( آل عمران 185 ) ( الأنبياء 35 )؟ بالتأكيد :لا. فهو الحى الذى لا يموت ، وكل شىء هالك إلا وجهه ، جل وعلا. وبالتالى فان معنى النفس للبشر يتناقض مع معنى النفس لخالق البشر.
ليست فقط الصفات بل الضمائر.
إقرأ قوله تعالى يحكى قصة موسى عليه السلام : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي )( طه 25 ـ ). هنا ضمير ملكية حقيقى فى قول موسى (صَدْرِي ، أَمْرِي ، لِّسَانِي ، قَوْلِي ، أَزْرِي ، أَمْرِي) وضمير ملكية مجازى فى قوله (أهلى ) و( أخى ). وفى كلها فان ضمير الملكية يجعل موسى مالكا لصدره وأمره ولسانه وقوله ..الخ .. كما تقول ( كتابى ) و(قلمى ) و (منزلى ).
ولكن هل يكون نفس الوضع حين تقول (ربى ) ؟ هنا ينعكس الوضع فتصبح أنت المملوك لله جل وعلا. أى يتحول ضمير الملكية للنقيض . ونفس الحال حين يكون ضمير الملكية للجمع مثل الفرق بين ( كتابنا وقلمنا وبيتنا ) و ( ربنا ، الاهنا ) ..
نفس الحال فى ضمير الغيبة (هو ) الذى يفيد الغياب للبشر و لكن يفيد الحضور بالنسبة لله جل وعلا ، يقول جل وعلا (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(المجادلة 7 ) فالذى يعلم الغيب لا يغيب عنه شىء ولا يغيب هو عن شىء بعكس البشر. ولكن لغة البشر تعجز عن التعبير عن هذه الحالة فتستعمل ضمير الغائب ليدل على عكس معناه بالنسبة للخالق جل وعلا.
من هنا يكون السياق القرآنى مجالا للتدبر يزداد به المؤمن ايمانا ، ويكون أيضا مجالا للتأويل و التحريف والتلاعب بكلام الله جل وعلا فيزداد به الكافر كفرا ، والله جل وعلا يقول عن القرآن الكريم أنه هدى لمن أراد الهدى ، ويزداد به الضال ضلالا : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) ( الاسراء 82 )
2 ـ بدون فهم السياق نخطىء فى شريعة الاسلام :
يقول تعالى (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) أى إن الاعتداء منهى عنه ، وأن الله جل وعلا لا يحب المعتدين . ولكن لا يلبث أن يأتى فى سياق الموضوع قوله جل وعلا (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 190 ، 194 ). هنا يبدو (تناقض ) ظاهرى فى استعمال مصطلح الاعتداء من حيث النهى عنه ثم الأمر به. والواضح أن المراد هو رد الاعتداء بالمثل . ولكن الله تعالى استعمل نفس المصطلح لتعزيز قاعدة المساواة و الرد بالمثل ، مع أنه مفهوم فى الاية أن رد الاعتداء لا يكون إعتداءا بالمعنى الحرفى (الشكلى )..
3 ـ وندخل بذلك على ما يعرف بالمشاكلة فى البلاغة العربية القرآنية.
وهى تعنى أن تأتى بكلمات تتشاكل فى اللفظ ولكن تختلف فى المعنى ، لأسباب ، منها عجز اللغة عن التعبير بما يخص الله جل وعلا ، فيأتى استعمال نفس الفظ البشرى المعتاد ، على أن يكون مفهوما التناقض بين ما يخص الرحمن و ما يخص الانسان. ونرجع الى موضوع النفس البشرية ، ونقرأ قول المسيح عليه السلام لربه جل وعلا (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ )( المائدة 116 ). هنا تنطبق قاعدة ( المشاكلة ) فى كلمة ( النفس ) مع تناقض المعنى الخاص بكل منهما.
والأمثلة كثيرة فى القرآن الكريم ، ومنها قوله تعالى (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ( الأنفال 30 ) (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( النمل 50 ـ ) وقوله جل وعلا(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) ( الطارق 15 ـ )
ثالثا :
1 ـ تأكيدنا على ان السياق هو أساس فهم المصطلحات القرآنية يعنى أن القواعد النحوية و المعاجم اللغوية ليست هى الأساس فى فهم المصطلحات . قد تفيد جزئيا ولكن بشرط أن تكون فى إطار تدبر السياق وليس خارجا عنه. قواعد النحو تم تأليفها فى العصر العباسى ، وجمع اللغة العربية بألفاظها وجذورها بدأ به الخليل بن أحمد ( وهناك مقال بحثى عنه لم ينشر بعد ) وما تلاه من معاجم كانت ترصد حركة اللغة العربية وتطورها فى عهدها، لذا تختلف. ومعظم كلمات المعاجم اللغوية فى العصرين العباسى و المملوكى لم تعد مستعملة فى عصرنا، وعصرنا حفل بلغة عربية معظم ألفاظها مستحدث ومستورد ومصنوع لم يعرفه السابقون. والقرآن الكريم بلغته ومصطلحاته سبق الجميع ، فلا بد أن نفهم مصطلحاته من داخله ،أى من داخل السياق.
2 ـ الخليل بن أحمد كان أعجوبة فى العبقرية ، التى تجلت فيما تركه من مؤلفات وأفكار خصوصا كتاب (العين ) فى تأصيل وتحليل وتجذير الكلمات العربية. ولكن معرفة جذور الكلمة العربية لا يعنى تحديد معنى واحد للكلمة الواحدة . يسرى هذا على اللغة العربية العامة واللغة العربية القرآنية الخاصة . مثلا ( الروح ) بضم الراء تعنى جبريل ( وليس النفس ) و( الروح ) بفتح الراء تعنى الراحة ، وكلاهما جاء فى القرآن الكريم (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) ( الاسراء 85 ) و(فَرَوْحٌ َورَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) ( الواقعة89 ). الكلمتان من أصل واحد (روح ) ولكن المعنى مختلف تماما. ومثل ذلك كلمتا ( الرحمن ، الرحيم ) أصلهما ( رحم ) ولكن الرحمن فى السياق القرآنى تعنى الهيمنة والجبروت والتحكم ،والرحيم تعنى الرحمة و الرأفة والعفو والمغفرة والنعم التى لا تعد ولا تحصى.
أخيرا :
من هنا نفهم أن مصطلح التفريق يختلف حسب السياق ، فالتفريق بين الرسل قد أوضحناه فى المقال السابق خلال السياق القرآنى كله ، وهو بالتالى غير التفريق بين المرء وزوجه ، والتفريق بين المرء وزوجه يختلف عن التفريق بين بنى اسرائيل ، والأخير يختلف عن آية موسى حين ضرب البحر بعصاه فانفلق ان أو انفرق الى قسمين .. وبهذا يأتى ردنا على الاستاذ عمار نجم فى قوله : (التفريق بين الرسل هو التفضيل والتمييز عكس القران حيث جاء فيه التفريق اي الفصل والمباعدة مثل التفريق بين الزوجين بالسحر وتفريق البحر بعصا موسى عليه السلام وخوف هارون النبي من تفريق بني إسرائيل إذا منعهم من عبادة العجل. كلها لم تكون بمعنى التفضيل كما جاء في هذا المقال.)
المقال القادم : الكفر العقيدى والكفر السلوكى فى السياق القرآنى .


اجمالي القراءات 19582