* حدث زلزال عام في مصر في ذي الحجة يوم 23 سنة 702هـ والمقريزي يرى أن ذلك الزلزال هو عقوبة على ما حدث في رمضان الذي قبله ، فقد انتصر المماليك على غازان والتتار في الشام وجاءت البشرى للقاهرة فأقيمت الأفراح والليالي الملاح وظهرت الخمور وتبرجت النساء وكان لابد من العقوبة .
يقول المقريزي " وفيها كانت الزلزلة العظيمة ، وذلك أنه حصل بالقاهرة ومصر في مدة نصب القلاع والزينة من الفساد في الحريم وشرب الخمور ما لايمكن وصفه من خامس شهر رمضان إلى أن قلعت ـ أى الزينة ـ في أواخر شوال ، فلما كان يوم الخميس يوم 23 ذي الحجة عند صلاة الصبح اهتزت الأرض كلها وسمع للحيطان قعقعة وللسقوف أصوات شديدة، وصار الماشي يميل والراكب يسقط حتى تخيل الناس أن السماء انطبقت على الأرض ، فخرجوا في الطرقات رجالاً ونساءاً، ومن شدة الخوف والفزع خرجت النساء مكشوفات الوجه ( لاحظ هنا أن النساء كن يلبسن النقاب ، ومع ذلك كان الفسق سائدا حتى فى رمضان ) ..واشتد الصراخ وعظم الضجيج والعويل وتساقطت الدور وتشققت الجدران وتهدمت مآذن الجوامع والمدارس، ووضع كثير من الحوامل ما في بطونهن ، وخرجت رياح عاصفة ففاض ماء النيل حتى ألقى المراكب التي كانت بالشاطئ ، وعاد الماء عنها فأصبحت على اليابس وتقطعت مراسيها ، واقتلع الريح المراكب السائرة في وسط الماء وحدفها على الشاطئ..!! )
* ونتابع المقريزى وهو يقول ( وضاعت للناس أموال كثيرة ، فقد خرجوا من بيوتهم مفزوعين وقد تركوا خلفهم بيوتهم بكل ما فيها وقد ذهلوا عن أموالهم، وسرعان ما دخلها اللصوص وسرقوها، وترك الناس القاهرة إلى خارجها ، ونصبوا الخيم من بولاق إلى الروضة وباتوا فيها. ولم تكد دار في القاهرة تسلم من الهدم أو الفوضى ، وسقطت المنشئات التي في أعلى البيوت، ولم تبق دار إلا وعلى بابها التراب والطوب، وبات الناس ليلة الجمعة بالجوامع والمساجد يدعون الله تعالى إلى وقت صلاة الجمعة .!! )
* وعن الزلزال خارج القاهرة يقول المقريزى : (وتواترت الأخبار من الغربية بسقوط جميع دور مدينة سخا حتى لم يبق بها جدار قائم وصارت كوماً ، وأن ضيعتين بالشرقية خربتا حتى صارتا كوماً ، وقدم الخبر من الآسكندرية بان المنارة انشقت وسقط من أعلاها نحو الأربعين شرفة ، وان البحر هاج وألقى الريح العاصف أمواجه حتى وصل باب البحر، وصعد بالمراكب الأورربية على البر ، وسقط جانب كبير من السور المقام على الشط ، ومات جمع كبير من الناس ).!! ( وقدم الخبر من الوجه القبلي بأن في اليوم المذكور هبت ريح سوداء مظلمة حتى لم ير أحدٌ أحداً لمدة ساعة ، ثم ماجت الأرض وتحركت وظهر من تحتها رمل أبيض وفي بعض المواضع رمل أحمر ، وكشط الريح مواضع بين الأرض فظهر من داخل الأرض عمائر قديمة ــ فرعونية ــ كانت الرمال قد أخفتها ، وخربت مدينة قوص .) ، وقدم الخبر من البحيرة أن دمنهور لم يبق بها بيت عامر !!
* وعن خسائر الزلزال فى العمائر المملوكية الشهيرة يقول المقريزى : ( وتركت الزلزلة آثارها المدمرة على المساجد المشهورة بمصر والقاهرة مثل جامع عمرو بن العاص ، فالتزم الأمير سلار النائب بعمارته ، وخربت أكثر سواري جامع الحاكم بالقاهرة وسقطت مئذنتاه فالتزم الأمير بيبرس الجاشنكير بعمارته ، وخرب الجامع الأزهر فالتزم الأمير سيلار بعمارته أيضاً وشاركه فيه الأمير سنقر الأعسر.وخرب جامع الصالح خارج باب زويلة فعمره السلطان من ديوان الخاص وتولى عمارته الأمير علم الدين سنجر، وخربت مئذنة المدرسة المنصورية فعمرت من إيراد الوقف عليها وقاد بترميمها الأمير سيف الدين كهرداس الزراق ،وسقطت مئذنة جامع الفكاهين ، وأمر السلطان بعمار ما تهدم من سور الأسكندرية .)
*وعانى أهل الشام من نفس الزلزال ، يقول المقريزى : ( وقدم البريد من صفد يخبر بأنه في يوم الزلزال سقط جانب كبير من قلعة صفد، وأن البحر من جهة عكا انحسر قدر فرسخين وانتقل عن موضعه إلى البر فظهر في موضع الماء أشياء كثيرة في قعر البحر من أصناف التجارة كانت غارقة. وتشققت جدر جامع الأموي في دمشق.)
* وعن طبيعة الزلزال والهزات التالية الناتجة عنه يقول المقريزى يعكس ثقافة عصره عن الزلازل : واستمرت الزلزلة خمس درجات ( بمقياس العصر المملوكي وليس بمقياس ريختر ) إلا أن الأرض أقامت عشرين يوماً ترجف ، وهلك تحت الردم خلائق لا تحصى ، وكان الزمان صيفا فتوالى بعد ذلك رياح شديدة الحرارة عدة أيام).
ويقول عما حدث بعد هدوء الأرض وسكوت الزلازل : ( واشتغل الناس بالقاهرة ومصر مدة طويلة في ترميم المباني وإعادة بنائها، وارتفعت أسعار مواد البناء لكثرة الطلب عليها لأن القاهرة أصبحت لمن يراها كأن جيشاً أغار عليها وخربها.
ثم يعود المقريزى ليؤكد الحجة المعروفة من ان الفسق والفجور والعصيان أسباب الزلزال ، لذا أقلع الناس ( مؤقتا ) عنها ، يقول المقريزي " فكان ذلك من لطف الله تعالى بعباده، فإنهم رجعوا عن بعض ما كانوا عليه من اللهو والفساد أيام الزينة ، وفيهم من أقلع عن ذلك لكثرة ما توارد من الأخبار من بلاد الفرنج وسائر الأقطار مما كان من هذه الزلزلة."
* وعلى هامش الزلزال ردد الناس قصصا قد تكون خيالية او صحيحة ، فأثناء ترميم الأمير بيبرس الجاشنكير للجامع الحاكمي بعد الزلزال وجدوا في ركن من المئذنة كف انسان مع ذراعه قد لف في قطن وعليه أسطر مكتوبة لم يعرف أحد قراءتها )، ( وحدث ان نبشوا دكان لبان كان قد تهدم فإذا أخشاب الدكان قد تصلبت على اللبان وهو حي وعنده جرة لبن ظل يتقوت منها عدة أيام، فأخرجوه حياً لم يمسسه سوء!!)( وفى مدينة قوص بالصعيد حدث أن رجلاً كان يحلب بقرة فارتفع ذلك الرجل في وقت الزلزلة وبيده المحلب وارتفعت معه البقرة حتى سكنت الزلزلة ثم انحط إلى مكانه من غيران يتبدد شيئ من اللبن الذي في المحلب ..)
* وفي القرون الوسطى كان التطرف سيد الموقف،إذا لاحت فرصة للإحتفال والزينة والإنحلال الخلقي تطرفوا في المعاصي، وإذا جاءتهم كارثة بعدها تطرفوا في الشعور بالذنب ، ثم إذا انتهت الكارثة عادوا إلى ما كانوا عليه من اللهو واللعب، وكان ذلك يحدث غالياً قبل كوارث المجاعات والأوبئة وبعدها.. وكم في تاريخ العصور الوسطى من محن وعبر ..!!