الكتاب والحكمة من منظور آخر

محمد حسين في الأحد ٢١ - سبتمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

الكلام يفرد معطيات ويكون له مدلولا كلما ذهب عصر وولج عصر اخر ، فالكلمة قد تحتمل معنى ما فى عصر ما ويتغير بها الحال والمعنى اذا هب عليها رياح تغيير العصر. بيد ان القرآن والكتب السماوية لهم من الأمر شأنا آخر على الاقل بالنسبة للمعتقدين فيهم. ومع ذلك قد يفهم المرء كلمة ما فى كتاب ما – سماوى كان او بشرى – بصيغة ما ، وتتغير تلك الصيغة والمفهوم والمدلول بمفهوم شخص اخر فى زمن اخر. وهكذا دواليك. 

ودعونى أأخذ مقعدا من مقاعد الفاهمين لكلمة ما ومدلولها بين الفاهمين والعارفíte;ن. 

وما نريد النظر اليه اليوم بتمعن هما لفظى الكتاب والحكمة والتى سأحاول ان اقودهما الى منحى قد يتفق معى البعض فيه وقد يختلف البعض الاخر. 

فأما الحكمة كما تعرض لها البعض وأفرد اطروحات وتعريفات عديدة ، اختلفت فى تطبيقاتها ووسائلها ، لكنها اتفقت فى الغالب على انها المعرفة والتجربة والعقلانية والفهم والبديهية ، وكل ذلك لابد وان يتقابل مع الاهلية اللازمة والقدرة لتسخير ما سبق فى التطبيق على ارض الواقع.
والحكمة جاءت فى مواضع عدة فى القرآن مثلا مقترنة بالكتاب (واذكروا نعمة الله عليكم وما انزل عليكم من الكتاب والحكمة) ، (و يعلمه الكتاب و الحكمه و التوراة والانجيل و رسولاً الي بني اسرائيل...) ، (وانزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم ...) ، (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ).

وأما الكتاب يعرفه البعض كمفرد للقرآن كلفظ. لكن ان نظرنا اليه بنظرة قد يعتقد البعض انها جزئية فى طرحنا سنجد ان لفظ الكتاب هو جذور تتفرع منها الاوامر والنواهى ، فقد ترى مثلا ان هناك ايات استخدمت معنى الكتاب كما يلى (يا أيها الذين امنوا كتب عليكم ...) (ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ..) ، وهذا الجانب يستدعى الى العقل الفهم بأنها صيغة الزامية كأمر هنا او نهى هناك قد يقودنا الى ان كلمة الكتاب او كتب او مكتوبا هى صيغة قرآنية للفظ القانون فى بعض الأحيان ، ومن وجهة نظرى البحتة هى فى المطلق توجيه نحو التقنين والقانون.
وكما نرى كان من اللازم ان من يؤتى الكتاب (والذى نظنه لفظا يقود الى التشريع والقانون) يجب ان يتعلم الحكمة وان يؤتاها. وبما أننا اشتققنا جانبا من لفظ الكتاب –او كُتِب- نعنيه هنا القانون كمنتج للكتاب ، فقد نظن ان جانبا من الحكمة يقودنا الى العدل كمنتجا لها. 

والقانون أيضا له تعريفات عديدة اخرجها البعض كالفيلسوف (بوسييت او بوست) على انه علم موضوعه الانسان وسلوكه وكيفية تنظيم علاقته مع الاخرين حتى لا تترك تلك العلاقات فى حالة فوضى وعبثية. والمجمل للتعريف قد نصيغه بأن القانون هو محور النظام والعدل فى مجتمع ما.
ومن هنا ايضا قد نرى انه هناك فرق شاسع بين ان اطبق القانون ، وان اصل الى العدل واحققه بواسطة القانون. كيف؟
دعونا نضرب مثالا ، ومثالنا هو السرقة مثلا. واذا اخذنا دولتين متضادتين يتعامل فيهما القاضى تعاملا مختلفا مع مقترف السرقة. فاذا وقف مقترف السرقة امام قاض فى فرنسا فسوف يسجن. وفى الجانب الاخر دولة كالسعودية او ايران قد ينال ماهو ابشع من ذلك بقطع يده. ذاك لانه سرق ، وقد خالف القانون ، فتتطبق عليه عقوبة السرقة. فالاختلاف هنا فى تطبيق العقوبة ، وليس فى ان القانون يجرم تلك ويعتبرها عقوبة ام لا.
ولكننا عندما نضع العدل منتج الحكمة فى هذا النحو فإننا سوف نتصور القاضى موجها كلامه لمقترف السرقة سائلا: هل سرقت ، فيقر مقترف السرقة قائلا: نعم ، ثم يعاوده القاضى الحكيم قائلا: وماذا كانت اسبابك للسرقة؟ وهنا يبدأ مقترف السرقة بسرد الدوافع ، فإما انه سرق لمجرد السرق كوسيلة لكسب العيش دون النظر الى وسائل اخرى باصرار فيصبح "سارقا" ، او ان هناك دافعا يتغير نسبيته من شخص لاخر جعله يقترف السرقة. وسنظن هنا انه لسبب قهرى لعلاج او اطعام لاولاده من جوع على سبيل المثال. وعندما تكون الحكمة مقترنة بالقانون فسوف نرى قاضيا يحاول علاج المشكلة بين يديه ، فيتعقب اسبابها ويحاول جاهدا وضع تصوراته وخططه لتفادى تلك الاسباب مستقبلا ، والتى –اى تلك الاسباب- تجعل فردا ما يسرق لسبب قهرى بدلا من ان يعاقب لمجرد المخالفة للقانون. كتيسير امورا بدت مستحيلة ، وايجاد الوسائل التى لم تكن متاحة لهذا الفرد ، مما يجعل الفرد فى المجتمع يتجه الى تلك الامور والوسائل حتى لا يقع تحت طائلة القانون ، وفى نفس الوقت تتم معالجة القصور. 

لهذا انتبه فيلسوف عظيم كإبن رشد (او افيرويس كما يطلق عليه فى الغرب) لاهمية الحكمة فى تطبيق القانون. بل واعتبرها اختا فى الرضاعة للشريعة لا يمكن لهما ان يفترقا ، والا تعاملنا مع تشريع اعمى لا يُصلح قدرما يعاقب دون النظر الى الاصلاح.

وللناس ان يطلقوا على القانون قانونا دينيا ، علمانيا ، شيوعيا ، ...الخ ، لكنه فى النهاية قانون. ويجب ان يكون القانون كما قلنا محورا للنظام والعدل فى المجتمع. وطالما الحكم على القانون يكون بمستوى العدل الذى يحققه ، فإنه يجب على المشرع ان يكون جاهزا لتغيير قانونا ما طالما لا يحقق العدل المنشود ، او يعدله للافضل ان كان به قصورا.

إن التدبر فى لفظى الحكمة والكتاب قد ينقلنا نقلة واسعة فى التشريع والقانون كوسيلة لتحقيق العدل الذى هو فى النهاية خدمة للفرد. وقد يجعلنا نفهم لماذا قال رب العزة (السارق) ولم يقل (من سرق). فشتان الفرق بين الفاعل ، ومن فعل. فمشكلتنا مع العقائد اننا نفرضها على الفرد فرضا ونجعله خادما لها ، ولا نتعامل معها على انها وضعت فى خدمة الفرد والمجموع. فالاولى تجعل الفرد معمل تجارب تسقط معه الانسانية وطبائعها ، اما الاخرى يمكن ان تقودنا الى النقاء والسمو فى التعامل مع الكون ومكوناته. والمنحى الاول فى جعل الفرد خادما للتشريع واصرار المشرع فى التعامل بهذه النظرة جعلنا نطلق مفهوم ان الفرد والمجتمع فى خدمة القانون ، وهذا عبث يجعلنا نلطم الخدود فيما وصلت اليه عقولنا من سوء فهم للشرع.

وهذا ما جعل الاخرون من ذوى العقول فاقدة الصلاحية تظن ان الحكمة هى السنة!

اجمالي القراءات 20121