لحظة سبتمبرية

نبيل شرف الدين في الإثنين ١٥ - سبتمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

الكوارث والمحن اختبارات عملية للأمم والشعوب، تُظهر مدى تماسكها وصلابتها، وتكشف مصداقية ما قد يزعمه أبناؤها من تمسكٍ بالقيم الإنسانية، ولعل كارثة انهيار جبل المقطم على عشرات من مساكن الفقراء في منطقة "الدويقة"، تشكل حالة نموذجية للكارثة التي تحالف في صناعتها أشرار البشر وأنانيتهم، مع قسوة الطبيعة، كما أنها تُعدّ مناسبة نموذجية لتعرية الأدعياء، الذين صدعونا بمزايداتهم وأحاديثهم الصاخبة عن الانحياز للبسطاء تارة، والتأسي بالسلف الصالح تارة أخرى، والتغني بعشق الوطن تارات.
ولأن الأمر لا يحتمل مقدمات مملة، فلنقتحم الموضوع باستعراض بعض الأحلام أو الأمنيات التي راودتني عن نفسي الأمارة بالسوء، إذ رأيت في ما يرى الحالم مشاهد لم تتحقق حتى الآن، ولا أحسبها ستتحقق حتى يواري النسيان الكارثة، بمجرد أن نواري جثث الضحايا التراب.
رأيت في ما يرى الحالم مولانا زغلول النجار، الذي يقدم نفسه في كل مناسبة وأحياناً بدون مناسبة، بأنه أحد علماء الجيولوجيا الفطاحل، وقد تصدى ليشرح الأمر ولماذا انهارت هذه الصخور الضخمة على رؤوس الناس، وبدلاً من أن يتربص صاحبنا بالمسيحيين ويستهزئ بمقدساتهم تمنيت لو أنه وضع أيادينا على أسباب الانهيار فشغل نفسه بدراسات ميدانية بعد الحصول على عينات من الصخور وإجراء "مجسات" للتربة وإخضاعها لفحوص المختبرية، ليحدد حقيقة ما إذا كانت هذه المسألة مرتبطة بالصرف الصحي، أو بتعبير أدق "غير الصحي"، المتمثل في ما يعرف بـ "البيارات" أو "الطرنشات"، أم أن الأمر يرتبط بالصرف العشوائي في ملاعب الجولف على هضبة المقطم، أو ما قد يخلص إليه من نتائج دراسات علمية ميدانية جادة، بدلاً من التعرض لمعتقدات شركائنا في الوطن، وذلك اللغو الذي يسمى الإعجاز العلمي، فالإيمان بالله تعالى لا يتطلب هذا التقعر وتحميل النصوص ما لا تحتمل، فقد حسمها الله تعالى في محكم آياته "فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف 29)، لكن لماذا يجهد مولانا نفسه في ما لا طائل من ورائه، فلن تعقد مؤتمرات في "الدويقة" قد يُدعى إليها، وليست هناك فضائيات تبث من منشية ناصر لتستضيفه، ثم إن صاحبنا على ما يبدو نسي الجيولوجيا، وتفرغ لسبّ الكتاب "المكدس"، واستعراض الجوائز والأوسمة عبر برامج "الجزيرة" التي باتت تتبنى الترويج لكل ما هو متعصب، وإطلاق الشائعات عن قتل وفاء قسطنطين.

****
ما علينا، لننتقل إلى أمنية أخرى لن تتحقق..
رأيت في ما يرى الحالم دوراً ميدانياً فاعلاً لأحزاب المعارضة التي تتصدر برامجها أكوام من العبارات البلاغية السمجة والكلمات الممطوطة المستهلكة عن الانحياز للفقراء والنضال من أجل تحقيق الاشتراكية، كحزب التجمع الوطني الوحدوي التقدمي الاشتراكي "العظمى"، على غرار المسمى الرسمي للجماهيرية "إياها"، والحزب العربي الديمقراطي الناصري وغيرهما من الأحزاب "الميكروسكوبية" المعزولة عن الناس، ومع ذلك ترفع لافتة العدالة الاجتماعية، ناهيك عن انتهازية مليونيرات جماعة "الإخوان المسلمين" الشهيرة بالمحظورة، ودعونا من الحزب الوطني "الحاكم من يومه"، فقد غسلنا أيادينا منه منذ زمن.
رأيت قادة هذه الأحزاب والجماعات يتنافسون في ما بينهم من أجل تقديم الخدمات والمعونات للمنكوبين من أهالي "الدويقة"، وهم بالمناسبة يشكلون قطاعاً نموذجياً للفقراء المهمشين، قلما تجد مثيلاً لتردي أوضاعهم المعيشية في أكثر دول المنطقة فقراً، ومع ذلك فلم يجدوا من هذه الأحزاب سوى البيانات النارية، والمانشيتات الصحفية الزاعقة، بينما يسهر من يوصفون بقادة المعارضة "المسموحة والمحظورة" في الخيام الرمضانية الفاخرة، ويقتني أنجالهم أحدث السيارات، وترتدي كريماتهم أفخر الملابس، وتربطهم صلات وثيقة بكل دوائر السلطة، ولا اعتراض على تلك الصلات لو كانت تقوم على الندّية في التعامل، ولا ترتضي دور التابع، أو تلعب دور "المحلل" لنظام فاشل، كي يبدو أمام العالم ديمقراطياً يُجري انتخابات نزيهة، ويقتني "معارضة" منزوعة الأسنان والمخالب، تسهم في ترسيخ الفساد والاستبداد، حتى أوشكت أن تصبح جزءاً من هذه المنظومة الجهنمية.
حلمت ـ وليس على الحالم حرج ـ أن أصدقاءنا اليساريين والناصريين والإسلاميين، شكلوا غرف عمليات في أحزابهم ومقارهم، وهب شبابهم إلى "الدويقة" ليساعدوا المنكوبين في تدبير المأوى والطعام والشراب، أو يجوبوا المستشفيات للوقوف على مدى جودة الخدمات الطبية التي يتلقاها المصابون، أو أمام "مشرحة زينهم" ليعينوا ذوي القتلى في إنجاز الإجراءات الإدارية السخيفة والمعقدة، كاستخراج شهادات الوفاة وتصاريح الدفن، أو حتى يواسوا الثكالى بكلمة طيبة، ويربتوا على أكتاف الأطفال الذين ذاقوا مرارة اليتم مبكراً.
لكن هيهات، فهذه السفاسف دون مستوى رسالاتهم السامية، فأصدقاؤنا الكرام مشغولون بالنميمة في مقاهي وسط القاهرة، والتأهب لإلقاء إسرائيل في البحر، والتبشير بنهاية أميركا الوشيكة، وتدشين البيانات والشعارات التي تؤكد رفض التطبيع مع "العدو الصهيوني"، وتأييد ما يسمى "المقاومة العراقية"، التي قتلت من العراقيين أكثر مما قتلت القوات الأجنبية، وتسيير القوافل لصالح ميليشيات "حماس" المتأسلمة، بزعم فك الحصار المفروض على غزة، مع أن أهالي القطاع أنفسهم باتوا يحلمون بيوم يتحررون فيه من احتلال "حماس"، الذي أتى على ما تبقى من أمل لدى الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة، وجعل حياتهم جحيماً لا يحتمل، وصادر حرياتهم الشخصية، وفرض الوصاية على حياتهم.

***

ولا تنتهي الأحلام المستحيلة.. بل تتواصل،،
فحلمت بأن يبادر رجال الأعمال لتحمل مسؤولياتهم الاجتماعية بالتكفل ببناء وحدات سكنية للمنكوبين من أهالي "الدويقة"، الذين أصبحوا الآن مشردين بعد أن أتت الصخرة على منازلهم وذويهم، وأن تنتهز مجموعة شركات "طلعت مصطفى" الفرصة لتحسين صورتها التي شوهتها الاتهامات البشعة الموجهة لرئيسها السابق هشام طلعت مصطفى، فتتصدى لاستضافة مئات الأسر في مساكن آدمية لائقة، خاصة أن هذا الأمر يدخل في صلب نشاطها، وبدلاً من إنفاق ملايين على الأبواق الإعلامية والإعلانات الساذجة في محاولات يائسة لغسل سمعتها، وتأكيد قدرتها على الوفاء بالتزاماتها التعاقدية حيال عملائها، فلماذا لا توظف جانباً من أنشطتها للفقراء المعدمين هؤلاء لتخفف عنهم مأساتهم التي فقدوا فيها كل شئ، ولم يعد لديهم بعدها ما يعيشون لأجله، غير أن شيئاً من هذا لم يحدث، واكتفى الرئيس الجديد للمجموعة ـ الذي يسرب بعض الإخوان أنباء عن تعاطفه مع فكر جماعتهم ـ بالحديث عبر الفضائيات عن استقرار شركاته وحنكة مجلس إدارتها، ولم يفكر في أمر "الدويقة" أو أهلها، ولو حتى من باب الصدقة والزكاة عن ثروته.
وحلمت بأن تنتفض نقابة الأطباء لأهلنا الفقراء المنكوبين في "الدويقة" كما تنتفض للبوسنة والشيشان وأفغانستان وكل مكان يتسق مع أجندة "الإخوان المسلمين" الذين يهيمنون على مجلسها منذ زمن، دون أن تكترث كثيراً أو قليلاً بمحن الفقراء في مصر، فلم نسمع عن قوافل طبية نظمتها النقابة لعلاج الجرحى في كارثة "الدويقة"، ولم نسمع عن شحنات أدوية وزعتها نقابة الصيادلة على هؤلاء، ولم نقرأ عن مبادرة أطلقتها نقابة المحامين لتقديم الدعم القانوني للمضارين ومساعدتهم في رفع دعاوى التعويضات وتوعيتهم بحقوقهم، كما لم تعلن نقابة المهندسين عن الاطلاع بأي جهدٍ لمواجهة توابع هذه الكارثة وأسبابها، خاصة وأن تفاصيلها الفنية تقع ضمن الاختصاصات الهندسية، بل أصبح غاية المنى للقابض على مصريته، أن تتساوى هموم المصريين مع هموم أهل الشيشان وغزة وأفغانستان، على أجندة هذه النقابات المهنية التي يفترض أنها كيانات وطنية وليست مؤسسات دولية، والتي تحتقن غدد ممثليها دفاعاً عن الشيشان والباتان وكلشينكان، بينما تدخل في صمت القبور حين يتعلق الأمر بهموم مواطنيهم المصريين.

****

رأيت في ما يرى الحالم مصر وقد نفضت عن كاهلها هذا الهوس الديني الفارغ من أي مردود أخلاقي، ولا يسهم في بناء الضمائر اليقظة، فيكفّ المرء مثلاً عن غش الناس والاحتيال عليهم، قبل أن يرسم "الزبيبة" على جبهته، وأن يتحرى ضميره فلا يخرس حيال المظالم، وأن يشعر بآلام البسطاء قبل أن تنتفض عروقه دفاعاً عن الدجالين من دعاة التداوي ببول الإبل والحجامة، وبقية الخزعبلات التي يتعمد تيار سلفي متنفذ أن يسبغ عليها سمتاً دينياً، من خلال تخريجات وتقعرات وقعقعات لفظية لا صلة لها بالعلم ولا العقل، وهذه أخطر أنواع الخرافات، لأنها ممعنة في شرورها التي تدفع فاتورتها أجيال من المغيبين وضحايا الاحتيال .
رأيت في ما يرى الحالم مصر وقد عادت ـ كما كانت ذات زمن مضى ـ وطناً كالبستان يتسع لكل الزهور، ويضع الانتماء لتراب مصر ونيلها قبل الهويات الدينية والمعتقدات الشخصية، فالمسلم الذي ولد لأسرة مسلمة لا فضل له في ذلك، وكذا المسيحي الذي ولد لأسرة مسيحية، وهكذا، وكان يمكن أن تقلب المصادفات القدرية هذه الأوضاع، وتتبدل معها الأدوار والمواقع، ثم إن محاسبة الخلق على معتقداتهم ـ على حد علمي ـ هو من اختصاص الله سبحانه وتعالى، الذي لم يفوض فيه أيّاً من البشر أوحتى الأنبياء، ففي هذا المسلك وصاية غير مبررة على ضمائر الناس، فضلاً عن الافتئات على الخالق الذي تشرق شمسه على العصاة والأبرار، وتشمل رحمته جميع مخلوقاته، ولو شاء لجعلها أمة واحدة.
وبدلاً من الخوض في كل هذه التّرهات، كان حريّاً بنا جميعاً أن نشمّر عن سواعدنا لنسهم في كفكفة دموع المكلومين الذين فقدوا العزيز والغالي في هذه الكارثة، لكننا اكتفينا باللغو الفارغ، وانقلبت حياتنا إلى "مكالم"، وتبادلنا الاتهامات وآثرنا اللعب خارج الحلبة، وتفرغنا للاهتمام بكوارث كل شعوب الأرض إلا كوارثنا، وهو ما يؤكد حقيقية بسيطة مفادها أن الله تعالى حين يغضب على أمة تفقد بوصلتها فتعمل ضد مصالحها وهي تحسب أنها تحسن صنعا، وتتبلد أمام تحدياتها، في وقت تنتفض فيه لنصرة الغرباء، فالمثل الشعبي الذي يعبر عن مخزون حضاري عميق وبراجماتي يجعل ما يحتاجه البيت حراماً حتى على الجامع، لهذا فإن دواعي الإحباط التي تحاصرنا كثيراً ما تجعل المرء يظنً أنه يصرخ في البرية، أو يؤذن في مالطا، وأن هذه الأمنيات التي حققتها أمم أخرى دون لغو ولا ادعاءات مازالت بالنسبة لمجتمعنا المصري أحلاماً بعيدة المنال، في وطن أحسب أنه يمر الآن بحالة سبتمبرية، أو "لحظة خريفية" ندعو ألا تطول.
والله غالب على أمره

اجمالي القراءات 10794