الإحتكار في رمضان !!رمضان بين سطور التاريخ ( 5 )

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٢ - سبتمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

*لم يكن شيطان الإحتكار ومصادرة أموال الناس يهدأ فى رمضان فى العصر المملوكي . والإحتكار والمصادرة سياسة مستقرة ثابتة فى عصر العسكر المملوكي ، وكان المنتظر أن يكون لرمضان أثره فى تخفيف الظلم فى شهر الصيام ، ولكن العقلية المملوكية وجدت حلا يتيح لها أن تستمر فى تيار الظلم هو أقتران الظلم بعمل الخيرات على مذهب القائل هذه نقرة وهذه نقرة ، إذا يصادرون الأموال ويبيحون شراء المناصب والرشوة ويحتكرون التجارة ، ثم تراهم من ذلك السحت يقيمون المؤسسات الدينية وينفقون على الطلبة والعلماء ويتصدقون على الفقراء والمساكين .. وكأنهم لم يعرفوا أن الله تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان من مال حلال ، يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( 2/ 267") . فالله تعالى يأمرنا بالتصدق من الرزق الطيب الحلال ويحذرنا من الأنفاق من المال الخبيث الآتي عن طريق الظلم ..
الظلم المملوكي فى مصر والشام :
وأتخذ الظلم المملوكي من سكوت الناس وخضوعهم عاملا آخر ساعده على الانتشار ، وكان يحدث أحيانا أن يثور الناس على الظلم كما حدث فى رمضان 807 حين كثرت المصادرات والمظالم فى الشام ودمشق وقت اندلاع الخلاف بين الأمراء المماليك ، وفى ذلك الوقت فرض الأمير حسن نائب القدس على أهلها مالا فرفضوا دفعه، فتركهم حتى اجتمعوا بالمسجد الأقصى وأغلق عليهم الأبواب وألزمهم بدفع الأموال ، فأبوا ، وحدثت معركة بينهم وبينه وقتل منهم بضعة عشر رجلا ، ولكنهم تكاثروا عليه ففر منهم ، فلما بلغ الخبر الأمير شيخ نائب الشام عزله وولى غيره.
وأمير الشام وقتها – أو نائب الشام – الأمير شيخ هو الذي أصبح سلطانا فيما بعد تحت اسم المؤيد شيخ ، وكان كثير البر والصدقات ولكنه كان أيضا على شاكلة المماليك لا يخلو من الظلم ولا يرى تعارضا بين هذا وذاك .

وفي رمضان 813 أفتتحه المماليك بمصادرة الناس في دمشق فأخذوا من الخانات والحمامات والطواحين والحوانيت والبساتين أجرتها عن ثلاثة أشهر سوى ما أخذ قبل ذلك ، واتهموا بعض الناس بأن لديهم ودائع أودعها لديهم المماليك الشيخية من أتباع الأمير شيخ نائب الشام ، فأخذوا أولئك الناس وعاقبوهم بالضرب ليعترفوا بما لديهم من أموال مزعومة ، وفتشوا بيوتهم ..
وفى نفس الوقت كانت القاهرة تئن من مظالم الأمير بكتمر جلق الذي ألزم المحتسب ابن الدميري بأن يجمع له ألفي دينار من الناس فى نظير أن يلزم الناس بشراء قمح بالسعر الذي يحدده ، وأغتصب أموالا من بعض تجار الشام بالقاهرة ، وأخذ من الأمير منقلي الأستادار ألف دينار ..والمفروض بعدها أن هذا الأمير بكتمر جلق كان صائما فى رمضان ويفطر على مظالم الناس ومصادرة أموالهم .!!
السلطان يحتكر الفلفل فى رمضان !!
والسلطان الأشرف برسباي الذي أقام الخانقاه الأشرفية على أنها من أعمال البر والذي فتح قبرص على أنها جهاد فى سبيل الله هو نفسه الذي عانى الناس في عهده من الإحتكار وشراهته للأموال . قال عنه المقريزي الذي عاش عصره ( كان له فى الشح والبخل والطمع من الجبن والجور وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب فى الأمور وقلة الثبات أخبار لم نسمع بمثلها. وشمل بلاد مصر والشام فى أيامه الخراب وقلة الأموال ..)
هذا السلطان لم يمنعه شهر رمضان من مصادرة الفلفل على أمل بيعه لتجار أوروبا ، وكان الفلفل الأسود والبهارات من أثمن الأشياء ، وكانت تستوردها أوروبا عبر الدولة المملوكية التى تحتكر استيرادها من الهند وأسيا . وقد قامت الكشوف الجغرافية وضمن أهدافها التخلص من إحتكار المسلمين لتلك التجارة بالوصول إلى الهند من طريق بعيد ، وبذلك أكتشفوا أمريكا ورأس الرجاء الصالح ..
ونعود إلى رمضان 835 وفيه صادر السلطان الأشرف برسباى فلفل التجار وأرغمهم على أن يبيعوه له بخمسين دينارا للحمل . وكان السلطان قد أرغمهم من قبل على أن يشتروا منه الفلفل فى أول السنة بسبعين دينارا للحمل وأمر بأن تحتكر متاجر السلطان استيراد الفلفل الوارد من ميناء جده وغيره، وأن لا يبيعه لتجار الفرنجة القادمين للإسكندرية غيره ، وبذلك أستخدم نفوذه فى أكل أموال التجار ، يقول المقريزى ( فنزل بالتجار من ذلك بلاء كبير).
وجدير بالذكر أن رمضان فى العام بعد التالي 837 شهد ردود فعل غاضبة على جشع السلطان ، فقد أرسل ملك الفرنجة الكتيلان خطابا شديد اللهجة للسلطان برسباي لأنه ألزم التجار الفرنجة بأن يشتروا منه الفلفل من خلال المتجر السلطانى لا من التجار العاديين مما سبب لهم خسارة وقد غضب برسباى من تلك الرسالة ومزقها ..
السلطان قايتباى ينصف الإسكافية!!
وفى رمضان 875 كان السلطان فى مصر هو الأشرف قايتباى المشهور بين السلاطين بتدينه وكثرة تلاوته للأوراد وكثرة ظلمه أيضا .. ولكن يبدو أن رمضان قد أفلح معه فى تراجعه عن الظلم ، وذلك ما حدث فى 14 رمضان ، يقول المؤرخ ابن الصيرفى الذى عاش هذه الفترة أن الضيق وصل بأهل القاهرة مداه بسبب عدة عوامل ، فأرباب الحرف من الخياطين وصناع الجوخ وغيرهم قد جمعهم الأمير الكبير يشبك من مهدى الذى يعد حملة حربية كبرى يذهب بها للعراق لتأديب شاه سوار الثائر على الدولة المملوكية هناك . وقد أحتاج ذلك الأمير لأولئك الحرفيين والصناع فى تجهيز مهمات العسكر من الكساء والملابس والخيام والآلات ، وهو ينفق في كل يوم ألف دينار على تلك التجهيزات ولكن لا يعطى أجورا للعمال الذين يخشون المطالبة بحقوقهم خوفا من ذلك الأمير العاتي المشهور بقسوته وظلمه.
ثم يعانى التجار من ضائقة مالية بسبب أخر فقد أغلقوا حوانيتهم منذ أول رمضان 875 حتى 14 رمضان بسبب انتظارهم لبيع التركة الضخمة التى خلفها الأمير الجمقدار والى الشام وكاتبه أبو بكر ، وتلك التركة الهائلة كانت متعددة الأصناف ، وكل من التجار يحرص على شراء ما تيسر منها ، ولكن البيع متوقف بسبب انشغال السلطات المملوكية بالتجهيز لحرب شاه سوار ..
ثم وصل الضيق الى الإسكافية وصناع الجلود وقد كانوا يتركزون فى حى الصليبة وبين القصرين بالقاهرة، وقد احتكر الوزير ابن غريب تجارة الجلود وألزم الإسكافية بأن يشتروها منه بثمن مضاعف عن السنة الماضية وأجبرهم على الدفع الفورى ، فأطاعه الإسكافية فى بين الصورين ودفعوا له ما يريد ، أما أسكافية الصليبة فقد رفضوا الظلم وتجمهروا أمام القلعة فطردهم الحراس ، فصعدوا الى أعلى الجبال يهتفون ، فسمعهم السلطان قايتباى وهو بالحوش فسأل عن خبرهم وعرف شأن الوزير معهم ، فأمر السلطان قايتباى بإنصافهم ، وكان هذا من نوادر الأحداث فى شهر رمضان 875.
ونصل الى سؤال الحلقة :
هل اختلف لصوص رمضان هذا العام عن لصوص رمضان العصر المملوكى ؟ لا أعتقد فالعسكر هم العسكر ، سواء كانوا مماليك أم من أبناء الشعب ، فالعسكر هم شر الناس حين يحكمون ،إذ يوجهون سلاحهم الى الشعب الذى من المفترض أن يدافعوا عنه ، ويستخدمون السلاح فى حكم الشعب وقهره ، ولا بد أن يتحكموا فى الثروة طالما تحكموا فى السلطة.
ومن قام بثورة يولية 1952 كانوا ضباطا من الطبقة الوسطى ، وكان أغلبهم لا يملك سوى مرتبه قبل الثورة ، فلما نجحت الثورة و حكموا مصر ما لبث أن تحولت الى جيوبهم وجيوب خدمهم واتباعهم ثروة مصر خلال نصف قرن من الزمان ، بدءا من مجوهرات أسرة محمد على التى كان تملأ عشرات الصناديق الى ثروة مصر العينية التى نهبوها تحت اسم التأميم و التمصير والقطاع العام ، ثم أعادوا نهبها تحت اسم بيع القطاع العام والخصخصة . حتى ديون مصر لم تسلم من النهب. والاحتكار المملوكى لا يقاس باحتكار الحديد وغيره مما يفعله اللصوص الذين يتحكمون الآن فى وزراء مصر ( المحروسة ) .
ومنذ أكثر من عشرين عاما كتبت مقالا فى جريدة (الأحرار ) فى سلسلة قال الراوى عن أحد لصوص مصر فى العصر المملوكى ، وقلت فى آخر فقرة فيه: ( إن مصر أغنى بلد فى العالم ، كانت ولا تزال. وهذه حقيقة يعرفها اللصوص جيدا ) . وتم نشر المقال ، ولكن بعد أن حذف ـ رئيس التحرير الاستاذ وحيد غازى ـ تلك الجملة ..
وأختم بها هذا المقال مع سبق الاصرار والترصد : ( إن مصر أغنى بلد فى العالم ، كانت ولا تزال. وهذه حقيقة يعرفها اللصوص جيدا ).
ولا تحية لّلصوص ..




اجمالي القراءات 13691