تسعون عاماً على مولد رسول أفريقيا

محمد عبد المجيد في السبت ٢٣ - أغسطس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

الأنبياء والرسل والمصلحون والكبار فقط هم القادرون على التواضع، أما الذين سرقوا مقاعد البطولة فليسوا أكثر من عبيد في ملابس الأسياد، وصغار يمدون رقابهم ليظهورا أطول من الحقيقة.

نيلسون مانديلا رسول لم تتنزل عليه من السماء رسالة، وإنسان رائع لو قابلتَه مرة واحدة فسيحزنك فراقك إياه ولو استغرق اللقاءُ عدةَ دقائق.

قالت لي امرأة من جنوب أفريقيا بأنها التقته مصادفة في الشارع ومعها طفلها الصغير، فاحتضنه، ثم انتهى اللقاء في لمح البصر أو أقل.

وبعد عام كانت في احتفال كبير في كيب تاون، وكان هناك آلاف من العائلات والأطفال، السمر والبيض، والجميع يتسابقون لتحية مانديلا، ولمح طفلَها الصغير من مسافة قريبة، فتذكر اسمه وصافح والدته، رغم أن الزعيم الأفريقي كان في الثمانين من عمره!

في مؤتمر الكراهية الذي نظمه الكاتب الفرنسي إيللي فيسيل بالعاصمة النرويجية، كان الحاضرون من أهم الشخصيات العالمية، وتمنّى منظمو المؤتمر أن يخرجوا بادانة للكراهية في الشرق الأوسط، وكان التركيز على الفلسطينيين.

كان هناك الرئيس التشيكي فاكلاف هافل، والأمريكي الأسبق جيمي كارتر، ورئيسة وزراء النرويج جرو هارلم برنتلاند، والكاتبة من جنوب أفريقيا نادين جورديمر، وأكثر من عشرين يهوديا وإسرائيليا.

أما العرب فمَثَّلَهم حنا سنيورة من فلسطين، والدكتور منصف المرزوقي من تونس، واعتذر الدكتور بطرس غالي عن الحضور.

نيلسون مانديلا كان حاضرا بوعي وذكاء ودهاء، واكتشف اللعبةَ منذ الدقائق الأولى، وأدان إسرائيل، فهو لا ينسى التعاون الوثيق بين نظام الأبارتهايد العنصري وبين حكام تل أبيب.

واكتشف اللعبةَ أيضا الدكتور منصف المرزوقي، فالقى كلمة عن اشراقات الحضارة العربية جعلتني أكاد أطير فرحا فهذا المفكر والطبيب والأستاذ والأكاديمي والحقوقي التونسي يجعلني أشعر بفخر شديد وسط هذا الحشد.

وانسحب المرزوقي بعدما تبين له أن هناك اشارات لدعم إسرائيل، والغريب أن إعلام الرئيس زين العابدين بن علي فتح وصلة ردح وذم واستهجان، وكشف عن وجه قبيح عندما أمره سيده بأن يتهم الدكتور منصف المرزوقي بحضور مؤتمر صهيوني، وهو نفس الإعلام الذي أرسل تهنئة لطاغية بغداد بانضمام الكويت إلى الوطن الأم، أي جمهورية الرعب العراقية.

السبب أن الدكتور منصف المرزوقي كان قد وجه إدانة شديدة لغزو العراق جارته الصغيرة، مما اعتبره الرئيس التونسي مناهضا لرأيه، فزين العابدين بن علي كان النسخة الثالثة من البشير وعلي عبد الله صالح الداعميّن لتقاسم الكعكة الكويتية مع صدام حسين.

أجريت لقاءً سريعا مع المناضل الكبير، وفيه عَرَضَ الوساطةَ، وقال لي بأنه قادر على اقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت.

جريت بعد الحديث، وصُغْتُه كتابةً، وأرسلته للزميل ناصر العثمان المشرف العام على صحيفة ( الشرق ) القطرية، والذي نشره في الصفحة الأولى، ولكن لم يستجب أحد لا في بغداد ولا في عالمنا العربي، تماما كما فعلت جامعة الدول العربية عندما أهملت مبادرة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وانتفخ طاغية بغداد حتى ظن أنه قادر على احتلال الكون كله بفضل المنافقين والأفاقين والجبناء والمسؤولين وأصحاب القلم.

كان احراجي شديدا من تواضع نيلسون مانديلا، وكانت تبرق في عينيه معان لمشاعر دافئة وهو يقول لي بانه يحب العرب حبا شديدا.

المصادفة الغريبة أن القنصل العام المصري في النرويج سليمان عواد ( سفير مصر لاحقا لدى الإتحاد الأوروبي في بروكسل، ثم المتحدث الحالي باسم رئيس الجمهورية في القاهرة)، كان قد عرض على مانديلا نفس السؤال، فاستحسن بشدة، وأكد أن بامكانه اقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت.

لم يكن سجينا عاديا، كان يقاوم العنصرية وسجّانيه بشتى الطرق، حتى عندما كان يعمل في الأشغال الشاقة ويريد أن يرفع حجرا، فتأتي حركاته البطيئة جدا كنوع من الاحتجاج، فهو يرى أن ادخال السرور على السجّان نوع من المهانة والاستكانة.

كيف أقنع مانديلا البيض بأن يبكوا، ويلطموا وجوههم، ويستخرجوا من أعماقهم ذكريات كادت تتلاشى عندما عاملوا السود معاملة الحيوانات أو أقل.

كان رائعا عندما انتزع الغل من نفوس السود المضطهَدين، ووقف في وجه أحقاد وكراهية وبغضاء لو انتشرت وخرجت إلى العلن بعد سقوط النظام العنصري فكانت حاجزا وجدارا سميكا منع مذابح لو قامت لأبيد البيض عن بكرة أبيهم. صحيح أنه لم يكن يملك حلولا اقتصادية واجتماعية وأمنية، ووقف عاجزا أمام الجريمة، ولم يفعل الكثير للقضاء على الفقر والمرض، ربما نجح في نصف الطريق ضد الإيدز، لكنه أنقذ دولة من براثن أحط وأعفن الأنظمة العنصرية في العالم، وأتذكر الآن طبيبا أبيضا من جنوب أفريقيا حكى لي بأنه اضطر لمصاحبة رجل أسود إلى طبيب أسنان وهو صديق منذ الطفولة، فغضب الأخير وقطع علاقته به نهائيا لأن دخول رجل أسود إلى عيادته تدنيس لها واهانة لم يقبلها ( الصديق )!

عيد ميلاد سعيد للمناضل الكبير .. رسول أفريقيا للسلام والمحبة والمقاومة والمساواة بين البشر.



محمد عبد المجيد

طائر الشمال

أوسلو النرويج

اجمالي القراءات 10383