الآيات المحكمات والآيات المتشابهات فى دراسة عملية لموضوع الشفاعة

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٤ - أغسطس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


القرآن الكريم فريد فى نظمه اللغوى وفى منهجيته . لو كتب إنسان كتابا فى القانون أو فى النقد الأدبى أو فى العلوم السياسية والاجتماعية لكان عليه أن يتقيد بمنهج خاص يدور فى إطار العلم الذى يبحث فيه ، وبحيث لا يخرج عنه الى الثرثرة فى علوم أخرى تأخذه بعيدا عن موضوعه . ولكن القرآن الكريم ليس كتابا فى القانون أوالأدب والتاريخ والقصص والعلوم الطبيعية .
صحيح أن فيه إشارات علمية فى الكون والحياة ، وفيه أحداث تاريخية و مستوى عاليا من صنوف الأدب ، وفيه إشارات اقتصادية و تشريعية واساليب متنوعة للحوار ، ولكنها كلها تدخل فى إطار هدف واحد هو الهداية .
ولأن الهدف هو الهداية ولأن الهداية هى الموضوع الأصلى والوحيد فى القرآن الكريم فلم يتم تقسيم القرآن الكريم الى موضوعات ـ كما يفعل من يؤلف فى القانون أو فى شتى العلوم ـ ولكن جرى تقسيم القرآن الكريم الى سور مختلفة الحجم يتعرض كل منها لموضوع أو أكثر، ولكن يجمعها جميعا الهدف الأصل وهو الهداية.
فى الدعوة للهداية جاء الحوار القرآنى والقصص القرآنى وضرب الأمثال والاستشهاد بآلاء الله جل وعلا فى الكون والتى تشير الى آيات علمية نراها سابقة ومعجزة لعصرنا وكل عصر ، وفيه آيات فى التشريع مذيلة بالدعوة للهداية والتقوى والتذكير والوعظ .
وفى الدعوة للهداية كان لا بد من التوضيح والتكرار لأن الانسان معرض للنسيان ومعرض لما هو أعتى من النسيان أى مكائد الشيطان ، لذا كان لا بد لكى نقرأ القرآن أن نبدأ بأن نستعيذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم (النحل98 ).
ومن أساليب التوضيح والتكرار والتفصيل أن تأتى آيات محكمات تفسرها آيات متشابهات .
وهذا التنوع فى أساليب التوضيح والتفصيل وهذاالتنوع الاخر فى الموضوعات التى تتكرروتتأكد بصيغ مختلفة فى الآيات القرآنية يعطى الفرصة لمن يريد الهداية ان يهتدى أكثر ، إذ يصل بتدبره للقرآن الحكيم الى استحالة ان يؤلفه بشر ، فالعادة أن التكرار والتفصيل و التنويع فى الموضوع الواحد تاريخيا أو علميا يبعث على السأم ، ويوقع فى الخطأ والنسيان مع كثرة التفصيلات وتنوعها فى الحادثة الواحدة ، ولكن الذى يتدبر القرآن الكريم بطريقة موضوعية يكتشف أن ذلك التكرار آية فى الفصاحة ، وإنه لا يعارض بعضه بعضا مع كثرة تفصيلاته.. فيزداد إيمانا .
ويختلف الوضع مع من يدخل على القرآن الكريم بقلب غير سليم يريد أن يؤكد فكرة مسبقة فى عقله ، ويختار لها ما يوهم ظاهره من الايات بالاتفاق مع هواه فيستدل بها معرضا عن غيرها مما يعارضه من الايات ، فيلوى عنق الايات ليحقق غرضه رافعا ذلك الشعار الكاذب القائل بأن القرآن الكريم حمّال أوجه ، منكرا تاكيد الله تعالى فى القرآن الكريم بأنه كتاب مبين لا عوج فيه وقد أحكم الله تعالى آياته وفصّلها على علم لمن أراد الهداية .
وبالتالى يكون القرآن الكريم سبيل الهداية لمن أراد الهدى ، وسبيل الضلال لمن أراد الضلال ، والله تعالى يقول عن القرآن الكريم (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) (البقرة 26 ) فالفاسق حين يدخل بفسقه على القرآن لن يزداد بالقرآن إلا ضلالا، فى الوقت الذى يزداد فيه المهتدى بالقرآن هدى ، يقول جل وعلا (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ) ( الاسراء82 ).
ولكى يكون القرآن رحمة وشفاء لا بد لمن يتدبره لا بد ان يتحلى بالهداية العلمية والهداية الايمانية معا ، أى باختصار لا بد أن يكون من الراسخين فى العلم ، وهم المشار اليهم فى الآية القرآنية التى تحدثت عن المحكم والمتشابه فى القرآن الكريم ، ويقابلهم أولئك الموصوفون فى الاية الكريمة بأنهم فى قلوبهم زيغ ، ويدفعهم هذا الزيغ الى التلاعب بآيات القرآن فيزدادون ضلالا و القرآن معهم ، وهى قصة دامية حقيقية تثبتها أديان المسلمين الأرضية التى ضلت وهى تدور حول القرآن بزعم التفسير والتاويل والحديث و(علوم القرآن ) وهى فى الحقيقة تقيم أديانها الأرضية بالطعن فى القرآن الكريم .
هذه الاية القرآنية العظيمة (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) ( آل عمران 7 ) هى المنهج الذى أسير عليه منذ أن بدأت البحث فى القرآن الكريم بحثا منهجيا يخالف ما تربيت عليه فى الأزهر . ومع كثرة ما كتبته وما نشرته ملتزما بالمنهج القرآنى فى هذه الاية الكريمة فلا يزال بعض الأصدقاء يتحاور ويتساءل عن معنى المحكم و المتشابه فى القرآن الكريم .
ولذلك فليسمح لى القارىء العزيز بالاستشهاد ببعض ما كتبته وتم نشره ـ أو لم يتم نشره بعد .
وأبدأ بهذا الفصل من بحث لم ينشر عن الشفاعة.

(بحث قضية الشفاعة فى اطار المحكم والمتشابه فى القرآن الكريم )

القرآن الكريم هو سبيل الله تعالى وصراطه المستقيم الذى لا مكان فيه للعوج ( الكهف 1) ( الزمر 28 )
ولهذا فإن فى القرآن الكريم تفصيلات جاءت على علم لمن يعرفها من المؤمنين بالقرآن (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ : الأعراف 52 ). ولكى يتعرف عليها
الباحث فى القرآن لا بد أن يتمتع بالهداية الايمانية و الهداية العلمية . وهما معا يتفقان فى اسلوب واحد هو موضوعية المنهج العلمى.
وتتجلى النزاهة العلمية و الموضوعية العلمية فى التعامل المنهجى مع المحكم و المتشابه فى القرآن الكريم .
فى القرآن الكريم آيات محكمة المعنى موجزة اللفظ ولكن قاطعة الدلالة لا مجال فيها لأكثر من رأى. تلك هى الآيات المحكمات،هذه الآيات المحكمة تشرحها آيات أخرى هى الآيات المتشابهة .
الباحث المسلم عليه يدخل على القرآن الكريم بدون رأى مسبق يسعى لإثباته ، بل يكون مستعدا للتمسك بأى حقيقة قرآنية تظهر له فى بحثه مهما خالفت عقائده المتوارثة ومستعدا لأن يضحى فى سبيلها بحياته ومستقبله . بعد هذا الاستعداد الايمانى الموضوعى العلمى يقوم بتتبع الآيات المحكمة فى موضوعه البحثى فى القرآن ، ثم يأتى بكل ما يتصل به من آيات متشابهة ، وسيجد الآيات المتشابهة تشرح المحكمات ، فالاية المحكمة تاتى بالمعنى محددا وقاطعا ولو فى صيغ مختلفة ، أما الاية المتشابهة فتاتى بالتفصيل والتوضيح دون ادنى تناقض مع الآيات المحكمة فى نفس الموضوع .
هنا يجد الباحث عن الهداية أن موضوعه قد توضح بالقرآن بعد أن قام بواجب ( التدبر ) أى السعى ( دبر ) أو خلف الآيات المحكمة ثم خلف الآيات المتشابهة وربط هذا بذاك.

وهذا ما يشير اليه قوله تعالى (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا: آل عمران 7)، وكالعادة فان الله تعالى يوضح منهج الباحثين المؤمنين بالقرآن أو( الراسخون فى العلم ) الذين يؤمنون بكل ما فى القرآن وأنه لا عوج فيه و لا اختلاف و لا تناقض، لذلك يتتبعون كل الآيات ويضعونها معا ومع بعضها البعض فى اطار أنها يفسر بعضها بعضا و يفصّل بعضها بعضا و يكمل بعضها بعضا .

أما الصنف الآخر الذى فى قلبه مرض فيتجاهل المحكم وينتقى المتشابه يحرف معناه ليخدم غرضه ،ثم يضيف أحاديث موضوعة .
وبالتحريف فى معانى القرآن الكريم واختراع أحاديث كاذبة تمت إقامة عقائد شركية (نسبة للشرك ) وكفرية (نسبة للكفر ) تناقض الاسلام ، ومنها اسناد الشفاعة كذبا للنبى محمد عليه السلام وغيره.
وبهذا قام أصحاب الديانات الأرضية من المسلمين بتحريف معانى القرآن الكريم وصنع اسلام مغشوش يناقض الاسلام الحق ، وحققوا ما نبأ به رب العزة سلفا من هوية أولئك الذين يصدون عن سبيل الله تعالى ويتخذونها عوجا ،والشفاعة هى تبرير و تسويغ و تشجيع العوج فى الأخلاق و السلوك والمعتقدات ،وقد أنبأ رب العزة بان مصيرهم الخلود فى النار عكس ما يأملون من شفاعات ، ولقد وصف الله تعالى أهل النار بأنهم الذين كانوا فى حياتهم الدنيا يصدون عن سبيل الله تعالى ويبغونها عوجا : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ الأعراف 45 ) (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ هود 19 ) ( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَـئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ .ابراهيم 3 )

ولنبحث قضية الشفاعة مثالا للدراسة العملية فى كيفية التعامل مع المحكم وٍالمتشابه .

1 ـ فى البداية فان القرآن يؤكد على أن النبى محمدا عليه السلام لا يعلم الغيب ـ خصوصا غيب اليوم الآخر ، فليس له أن يتكلم عن الساعة وما يحدث فيها ، ولذلك فإن كل أحاديث الشفاعة مجرد أكاذيب لم يقلها النبى ، وإسنادها اليه عداء شديد لخاتم النبيين عليه وعليهم السلام . علاوة على انه كفر بالقرآن الكريم ،فلا يمكن أن يجتمع الإيمان بنقيضين مختلفين ؛الايمان بالقرآن والرسول مع الإيمان بتلك الأحاديث الكاذبة التى تخالف كتاب الله وتعادى رسول الله عليه السلام.

والله تعالى هو وحده "مالك يوم الدين" وهو وحده تعالى الذى يملك الأمر كله يوم القيامة، وهى آية قرآنية فى سورة الفاتحة نرددها كثيرا ولكن قلّما يؤمن بها معظم المسلمين الذين يعتقدون أن محمدا عليه السلام هو الذى يملك يوم الدين حيث سيعلو كلامه فوق كلام الله تعالى ، فطبقا لمزاعمهم فان الله يصدر قرارا بدخول النار لمن يستحقها فيشفع فيهم محمد فيغير الله تعالى قوله ويبدل امره ، هذا مع أن الله تعالى يؤكد أنه لا يبدل قوله ، ففى يوم الحساب يأمر رب العزة اثنين من الملائكة( هما اللذان كانا يسجلان أعماله فى الدنيا " رقيب وعتيد"ثم تحولا الى "سائق وشهيد "يوم القيامة) بالقاء الخاسر فى جهنم :( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) ( ق 24 :29 ) فالله جل وعلا يقول عن ذاته (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيد). ولكن معظم المسلمين جعلوا الله جل وعلا يبدل قوله إرضاء لخاطر محمد ..!!

إن النبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ﴾ (الإنفطار 19). لذا قال تعالى للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128). وإذا أصدر مالك يوم الدين قراراً يوم القيامة فلا مجال لتبديل كلمته، وسيقول تعالى حينئذ ﴿مَا يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ﴾ (ق 29). ومن التكذيب بآيات الله تعالى أن يؤمن بعضنا بأن الله تعالى يصدر قراراً بأن يدخل بعض الناس النار فيتشفع فيهم النبى ويتراجع الله تعالى عن قراره، لأنه ليس فى إمكان النبى أن يتدخل فى إخراج أحد من النار، فالله تعالى يقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19).
والإيمان بأحاديث الشفاعة تلك ليس فقط تكذيباً لآيات الله تعالى الصريحة الواضحة ولكنه أيضاً تأليه للنبى محمد عليه السلام بل وتطرف فى تأليهه إلى درجة الادعاء بأنه هو صاحب الأمر يوم القيامة وأنه مالك يوم الدين، وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو أرحم الراحمين لأنه ينقذ الناس من النار بعد أن يحكم الله تعالى بدخولهم فيها.. وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو الأعلم بحال البشر من الله ولذلك فهو يتدخل لدى الله لإنقاذ بعضهم، ولا يملك الله تعالى إلا الموافقة.. فهل ذلك يتفق عقلاً مع الإيمان بالله تعالى مالك يوم الدين الذى لا شريك له فى ملكه وحكمه؟
والإيمان بالحديث الكاذب الذى يدعى أن النبى يشفع فى البشر جميعاً شفاعة عظمى معناه التكذيب الصريح بالقرآن الذى لا يجعل للنبى ـ أى نبى ـ أى ميزة يوم القيامة، بل يؤكد أنه مثل كل نفس بشرية يتعرض للحساب والمساءلة ويحاول أن ينجو بنفسه من هول الموقف.. فالنبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ. لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس 34: 37) أى سيفر الجميع فى ذلك الوقت ولن يجد النبى أو غيره وقتاً لكى يفكر فى غيره، فكيف سيتصدر للشفاعة فى البشر جميعاً؟
ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ليتوسط فى إدخال بعضهم الجنة، والله تعالى يقول للبشر جميعاً قال تعالى﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ. إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ (لقمان 33،34). وصدق الله العظيم. فالله تعالى هو وحده الذى عنده علم الساعة، وقد أخبرنا ببعض غيب الساعة فى القرآن، ومنه أن النبى وهو والد ومولود لا يملك أن ينفع والده ولا يستطيع أن ينفع ابنه.. وإذا كان لا ينفع ابنته فاطمة فكيف سينفع الآخرين؟
ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ويشفع فيهم وهو نفسه يتعرض للحساب والمساءلة.. إن الله تعالى يؤكد على حساب الأنبياء يوم القيامة حين يجعل الحديث عن حسابهم وهم أفراد مساوياً للحديث عن باقى البشر، والبشر ملايين البلايين، يقول تعالى ﴿فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأعراف 6) وبالنسبة لخاتم النبيين فإن الله تعالى يتحدث عن حسابه وهو شخص واحد ويقرن ذلك بحساب الذين معه وهم آلاف الناس، يقول تعالى ﴿وَإِنّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف 44).
وفى حساب النبى فلن يستطيع أن ينفع أحداً من أصحابه، وليس بإمكان أحد من أصحابه أن يغنى عنه شيئاً، يقول الله تعالى للنبى ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ.. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ﴾ (الأنعام 52). أى فلن يتحمل النبى شيئاً من حسابهم ولن يتحمل أحدهم شيئاً من حساب النبى.
ومن الغريب أن يقول الله تعالى له نفس الكلام عن المشركين، يقول تعالى للنبى عنهم ﴿وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ. إِنّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئاً﴾ (الجاثية 18،19) أى أنهم لن ينفعوا النبى بشىء يوم القيامة، وفى ذلك تمام العدالة.. فالقيامة هى العدالة المطلقة التى لا نظير لها، يقول الله تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء 47).
ولكن تلك العدالة فى اليوم الآخر تحولت فى عقائد المسلمين الأرضية إلى ظلم وشفاعات ووساطات وتزكية لهم دون باقى الأمم، وأصبح من العقائد الثابتة لديهم أن الجنة من نصيبهم وحدهم من دون البشر جميعاً، وأن أحداً لن يدخل الجنة إلا بعد أن يرضى عنه أصحاب الديانات الأرضية المسلمون ، وبذلك سلبنا الله تعالى حقوقه علينا وجعلنا أنفسنا مالكين ليوم الدين، وبعد أن ترسب فى اعتقادنا أننا نجحنا فى اختبار يوم القيامة قبل أن تقوم القيامة.
وبالشفاعة المزعومة أعطينا أنفسنا ـ نحن المسلمين ـ الجنة مقدما دون أن نعمل لها ، بل و تشجعنا على فعل كل الموبقات لأننا قد ضمنّا لأنفسنا الجنة مقدما بشفاعة (المصطفى ) (وبرغم أنف أبى ذر) مهما ارتكبنا من ظلم وعصيان.
ولذلك تجد الاعتقاد فى الشفاعة هو السبب الحقيقى فى تخلف المسلمين خلقيا و عقليا وانسانيا وحضاريا .

2 ـ :صانعو اكذوبة شفاعة النبى محمد زيفوا لها الأحاديث وحرّفوا من أجلها آيات القرآن الكريم.
هذا مع أن علماء الأصول قد أكدوا أن أحاديث الأحاد- ومنها أحاديث الشفاعة- لا تؤخذ منها العقائد والسمعيات والغيبيات، لأن العقائد لا تؤخذ إلا من الحق القرآنى اليقينى.
وقبل علماء الأصول فإن القرآن نفسه يؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب وليس له أن يتحدث فى الغيبيات، ومنها علامات الساعة والشفاعة، أى أن تلك الأحاديث لم يقلها النبى، وبالتالى فإن الاستشهاد بها فى إثبات شفاعة النبى أمر باطل.
نأتى بعدها لمحاولتهم تأويل ـ أى تحريف ـ آيات القرآن لإثبات شفاعة مزعومة للنبى عليه السلام..
وفى البداية نقول أن محاولة التأويل ـ أى تحريف ـ آيات القرآن معناه أن تحصل بالتأويل على معنى يأتى مناقضاً لآيات عديدة فى القرآن الكريم.
وعلى سبيل المثال فإنك إن استطعت بالتأويل والتحريف أن تثبت شفاعة للنبى فإنك ستأتى بمعنى يخالف القرآن الذى يقول للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128) ويقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19)، أما الذى يبحث عن الحق فى القرآن يبغى وجه الله تعالى ويرجو الهداية فإنه يترك نفسه بين آيات القرآن ولا يفرض عليها أهواءه وأمنياته، وحيثما تصل به الآيات الكريمة إلى معنى فإنه يتمسك به ويضحى فى سبيله بكل ما توارثه من عقائد وأفكار.
والقرآن الكريم كتاب مثانى متشابه تتكرر فيه المعانى وتتأكد ، فالمتشابه من الآيات يتكرر فيها المعنى الواحد بصور مختلفة، وفى نفس الوقت تؤكد الآيات المتشابهة المعنى الذى تأتى به الآية المحكمة، ومعنى ذلك أن الباحث عن الحق فى القرآن سيراجع القرآن الكريم كله، ويأتى بالآيات الخاصة بموضوعه، ما كان منها محكماً وما كان منها متشابهاً، وسيجد كل الآيات معاً تعطى حقيقة قرآنية واحدة. وهذا من أسرار التكرار والتفصيل والبيان القرآنى .
وبالنسبة لقضية الشفاعة سيجد الآيات المحكمة تؤكد على أن النبى ليس له من الأمر شىء وأنه فى حياته كان يخاف أن عصى ربه عذاب يوم عظيم، وأنه كان يعلن أنه لن يجيره من الله أحد ولن يجد من دون الله ناصراً إلا إذا بلغ الرسالة.. وطالما أن هذه الآيات المحكمة ـ وهى كثيرة- تؤكد على نفى شفاعة النبى إذن يبدأ الباحث عن الحق فى تتبع الآيات المتشابهة فى الشفاعة بعد أن يكون قد تأكد بالآيات المحكمات أن النبى محمدا لا يشفع وليس له من الأمر شىء. عندها سيجد الايات المتشابهة لا شأن لها بالنبى محمد ولا تتحدث عنه، وانما يفسر بعضها بعضا فى تأكيد ما تقرره الآيات المحكمات.
إن أشهر الآيات المتشابهات فى موضوع الشفاعة هى قوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾ (البقرة 255) قد جاءت فى سياق آية محكمة قبلها تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى أى التوسط، فالآية تقول ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 254). فإذا كان فى هذه الدنيا بيع وخلة أى صداقة وإذا كان فى هذه الدنيا وساطة وشفاعة ومحسوبية، فليس فى يوم الحساب شفاعة بشرية ولا صداقة بشرية ولا عقد صفقات وبيع وشراء . وعليه فان قوله تعالى للمؤمنين (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 254) هو آية قرآنية محكمة تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى الذى نمارسه فى الدنيا والذى على أساسه نتمنى أن يكون يوم الدين سوقاً لشفاعة الأنبياء والأولياء..
ونتوقف مع أمثلة قرآنية للآيات المحكمات التى تنفى شفاعة البشر يوم القيامة ـ والأنبياء هم خير البشر . ولا شفاعة لأحد منهم.
هناك آيات محمكات تنفى شفاعة النبى محمد وتنفى أيضا علمه بالساعة وأنه لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا فى الدنيا ولا فى الآخرة ٍ، يقول جل وعلا (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . الأعراف 187 ـ ) اى كانوا يسألونه عن يوم القيامة وما سيحدث فيه وموعده ويأتيه الرد من الله تعالى بأن يعلن بأن علمها عند الله تعالى وحده ، وأنه عليه السلام لا يعلم الغيب وليس له أن يتكلم فيه.
ونظير ذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ . يونس 48 ـ )

وفى سورة البقرة آيتان تكرر فيهما نفى الشفاعة لأى نفس بشرية ، هما قوله تعالى ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾.. ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 48،123). أى لا يمكن لنفس بشرية أن تنفع نفسا بشرية أخرى ، ولايمكن لنفس بشرية أن تشفع فى أخرى ولا يمكن لنفس بشرية أن تنجو من الحساب والمساءلة بتقديم بدل نقدى أو مالى أو عوض يعدل ذنوبها فى الدنيا .
هنا الاية المحكمة تتحدث بالعموم عن كل نفس بشرية لتشمل الأنبياء وغيرهم ، وتأتى آية أخرى تؤكد نفس المعنى ولكن بتفصيل آخر يتوجه لكل الناس سواء من كان منهم مولودا او والدا بأن الوالد لن ينفع ولده وأن المولود لن ينفع والده ، يقول الله تعالى ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ (لقمان 33).
والانبياء ـ ومنهم خاتم النبيين ـ لكل منهم أزواجا وذرية (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً )( الرعد 38 ) وكل نبى له والد ، وهو أى النبى لن ينفع والديه ولن ينفع أولاده، وعليه فالنبى محمد لن ينفع ابنته فاطمة ولن ينفع أباه عبدالله أو أمه آمنة بنت وهب. فهل سينفع الاخرين ؟
ونفس المعنى يقوله رب العزة بصيغة أخرى فى وصف ملامح يوم الحساب ، يقول تعالى (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ) ( المؤمنون 101) أى لا مجال يوم الحساب للأنساب ، ولا يسأل قريب قريبه لأن كل انسان مشغول بنفسه مهموم بمستقبله ومثقل بهول القيامة و الحساب ..
ويتأاكد نفس المعنى بصورة أخرى حيث يحدد الله جل وعلا مهمة النبى محمد فى التبليغ فقط ، وأنه ليس مسئولا أو مساءلا عن الآخرين يوم الحساب ، بل ليس مسئولا أو مساءلا عن هداية الناس لأن الهداية مسئولية شخصية لكل إنسان .. وهنا نقرأ تلك الايات المحكمات : (وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ .الرعد 40 ) أى عليك تبليغ القرآن وعلى الله تعالى الحساب ،كقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. َّلسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ. الغاشية 21 ـ ).
بل ان تبليغ الرسالة لا يعنى مسئولية النبى عن الهداية ، إذ عليه تبليغ وتوصيل الهداية القرآنية فقط ، ثم يكون كل انسان حرا فى قبولها أو رفضها ـ وعلى اساس حرية الاختيار تكون المسئولية والاختبار لكل انسان ولا شأن للنبى بذلك ، يقول تعالى عن كل منا يوم القيامة وهو يتلقى كتاب اعماله الذى تم تسجيله فى الدنيا :( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا .. الاسراء 13 ـ ).
ولذا أمر الله تعالى خاتم النبيين أن يعلن للناس مسئولية كل انسان عن اختياره ،إن إختار الهداية فلنفسه وإن إختار الضلال فعلى نفسه ، وليس هو ـ أى خاتم النبيين ـ وكيلا عن أحد أو مسئولا عن أحد: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ . يونس 108 ). ويتكرر نفس المعنى فى قوله تعالى :(قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ .الأنعام 104 ).
بل يؤكد رب العزة أن خاتم النبيين لا يستطيع أن يهدى من أحب طالما ارتضى ذلك الشخص الضلال ، ولا يستطيع خاتم النبيين أن يعرف من اهتدى ومن ضل لأن ذلك يرجع لعلم رب العالمين عالم السرّ وأخفى ،الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ .القصص 56).
هذه بعض الايات المحكمات التى تنوعت فى نفى شفاعة النبى محمد وغيره بأساليب مختلفة ومتنوعة.

ثم نأتى الى الآيات المتشابهة لنجدها تؤكد ما سبق وتفسر بعضها بعضاً:
فقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾. وقوله تعالى ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ (يونس 3) يشير إلى أن هناك من المخلوقات- غير البشر- من يشفع ولكن بعد إذن الرحمن. ولكى تعرف هذه المخلوقات نرجع إلى باقى الآيات المتشابهة:
فالله تعالى يقول ﴿يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ (طه 109). فالآية هنا أضافت الرضى من الرحمن بعد الإذن، وتأتى آية أخرى تقول عن الجاهلين وعبادتهم للملائكة ﴿وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَـَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ. لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ (الأنبياء 26: 28). إذن يتضح لنا أن الملائكة هى التى تشفع ولكن بعد رضى الله تعالى وإذنه وأمره، ثم تأتى آية أخرى تقول بصراحة ﴿وَكَمْ مّن مّلَكٍ فِي السّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىَ﴾ (النجم 26). إذن الملائكة هم المقصودون بقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾.
شفاعة (أو شهادة ) الملائكة تنفيذا لأوامر الله تعالى فى ضوء الايات المتشابهات .
فالاية السابقة تتحدث عن شفاعة الملائكه فقط ، وهذا ما شرحته آيات القرآن الكريم (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ )( الانبياء 26-28،) (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا طه 108-110) (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى )(النجم 26). وتوضيح شفاعة الملائكة بأن كل نفس بشرية يسجل عملها رقيب وعتيد ، ويوم البعث يتحولان الى سائق وشهيد (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ٌ)( ق16-22 )
أى يتحول رقيب وعتيد يوم القيامة الى سائق وشهيد ، احدهما يسوقه والاخر يشهد عليه اوله على حسب عمله الذى كانا يسجلانه فى الدنيا ،فإذا كان عمله صالحا كانت شهادة له او شفاعة له، (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ( ق 23 :35 )
وهذا معنى قوله تعالى عن شهادة الملائكة (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) ( الزخرف 80 ) ثم يقول فيما بعد فى نفس السورة عن شفاعة الملائكة (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )( الزخرف 86)
فالملائكة التى تحمل العمل هى وحدها التى تشهد بالحق الذى عمله الانسان الصالح وهى التى تعلمه.
ودور الملائكة هنا الزام عليها لابد ان تؤديه لأن الله عهد اليها بذلك ، والعهد فى مفهوم القرآن الكريم هو الامر الواجب التنفيذ (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا )( طه 115) (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ )( يس 60 : 61) لذلك يقول الله تعالى عن الامر الالهى للملائكة بالشفاعة اى تقديم عمل الصالحين (لا يملكون الشفاعة الا من اتخذ عند الرحمن عهدا :مريم 87)

والعادة ان كل انسان يأتى فردا (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا )(مريم 93 : 95) ليجادل عن نفسه (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )( النحل 111) والشفع هو الذى يؤيد الفرد ،فاذاكان الفرد الواحد صالحا كان عمله الصالح الذى تحمله الملائكة هو شفعه او الذى يؤيده وينصره يوم الحساب ، الا ان شفاعة الملائكة لا تأتى الا بعد إذن الرحمن تعالى ورضاه وعلمه بصاحب العمل الصالح ،وهذا معنى الاستثناء فى آيات الشفاعة مثل(مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾. وقوله تعالى ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ (يونس 3)(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ )( الانبياء 26-28،) (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا طه 108-110) (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى )(النجم 26).
ولأن الملائكة مأمورة فى تقديم الشفاعة بأذن الرحمن جل وعلا ورضاه فأن الشفاعة لله وحده (قل لله الشفاعة جميعا : الزمر 44) بل انه تعالى هو وحده الولى وهو وحده الشفيع الذى لا تملك الملائكة مخالفة اوامره ، وهذا معنى قوله تعالى (ما من شفيع الا من بعد اذنه :يونس 3)(مالكم من دونه من ولى ولا شفيع : السجدة 4)


أى إن للملائكة دوراً فى الحساب، وهذا الدور قد حدده رب العزة بأمره وإذنه ورضاه، ولا اختيار للملائكة فى ذلك، وعليه فالشفاعة مصدرها الله تعالى، بأمره وإذنه ورضاه، أما أولئك البشر الذين أصدروا من عندهم قراراً بأن بعض البشر سيشفع فيهم عند الله، فالله تعالى هو الذى رد على أولئك الذين أخذوا من عندهم شفعاء من البشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، يقول تعالى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾ (الزمر 43،44).
فالبشر هم الذين يتخذون الأولياء والشفعاء، وهم الذين يؤلفون الأساطير والأحاديث والأكاذيب، وهم الذين يعبدون أولئك الشفعاء وينتظرون منهم المدد فى الدنيا والجاه فى الآخرة، وينسون أن الله تعالى هو وحده الولى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللّهُ هُوَ الْوَلِيّ﴾ (الشورى 9) وينسون أن الله وحده هو الشفيع ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ.. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾.ومن عجب أن القرآن يؤكد على أن النبى لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، ومع ذلك يجعلونه مالكاً ليوم الدين وشفيعاً يوم القيامة بالمخالفة لكتاب الله العزيز.
والأعجب أنهم يتلاعبون بالآيات الكريمة المحكمة والمتشابهة لاثبات مزاعمهم ثم يزيفون أحاديث ينسبونها للنبى محمد عليه السلام وهو الذى كان لا يعرف الغيب وليس له أن يتكلم فيه. وهكذا بالتحريف و الكذب والتلاعب بآيات الله تعالى أعادوا عقائد شركية تناقض عقيدة الاسلام فى أن الله تعالى هو مالك يوم الدين ، وأنه وحده الولى والشفيع وأنه ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا..

وأساس تلاعبهم هو بالآيات المحكمات و المتشابهات حيث يتبعون ما تشابه منها ويتجاهلون المحكم منها لارساء عقائدهم المناقضة للاسلام مثل شفاعة البشر ، ثم يصنعون أحاديث لتعزيز وتأكيد هذه الأوهام والخرافات. .. ثم لايخجلون حين يجعلون أنفسهم مسلمين .!!؟
وموعدنا معهم يوم الدين الذى لا يملكه إلا رب العالمين ( مالك يوم الدين ) .

اجمالي القراءات 36468