سيناريو اليوم الأخير

نبيل شرف الدين في الثلاثاء ٢٩ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

كم هو عذبُ وحنونُ حين يدنو من تخوم الروح.. نعم، أتحدث عنه.. عن الموت، ولا أدري لماذا استيقظت هذا الصباح يغمرني شعورُ غامضُ بأنني سأموت وحيداً، لكني سأكون مطمئناً.. راضياً مرضيا..

تبدو هذه النبوءة كواحدة من الحقائق القليلة التي أدركتها في حياتي المبتسرة، وصدقتها منذ زمنٍ بعيد لم أعد أذكره, واليوم بينما أتأهب لدخول غرفة العمليات تداعت إلى مخيلتي ترتيبات لحظة المواجهة، سأكون وحيداً حينئذٍ، ليس لأن أحداً لا يكترث بأمري فحسب, بل لأنها ستكون لحظة مباغتة، لكنها أيضاً لن تختلف كثيراً عن غيرها من اللحظات العابرة.. كما أنها لسببٍ أو آخر، لا تتطلب أي مبررات لتحدث أو لا تحدث..

سيقول العارفون والأدعياء إن الموت دائماً مباغت ولا يحتاج أبداً إلى مبررات, وبالطبع لن أدخل معهم في جدلٍ عقيم، بل سأوافقهم في كل شئ، وربما أنافقهم أيضاً، لكن فقط سألفت نظرهم بأريحية إلى أن الموت لا يأتي من الخلف أبداً, فالموت نبيلُ على نحو أو آخر، إذ يمنحنا إشاراتٍ ما, وقد يتيح لنا الفرصة لنقوم ببعض الأمور، أبسطها أن نتدبر تفاصيل تلك اللحظة الحاسمة، أو نستعيد ما تيسر من الذكريات والوجوه, فللموت رائحة حين يدنو، ولخطواته القادمة صوبنا إيقاعُ ناعم وحضورُ مستبد، لا يحتمل أي تردد..

.....

لكن ما رأيكم لو حاولنا أن نرسم معا سيناريو تلك اللحظة، ونرى كيف ستمضي الأمور في هذا اليوم: خلافاً لعادتي سأستيقظ مبكراً، وأقفز بهمةٍ مدهشة، وأهتف بصوتٍ عالٍ: يا إلهي كم هو نهار جميل, وستخطر على بالي أغنيات عديدة سأرددها بينما أستمتع بحمام ساخن، ولن يعكر صفو العالم أي شيء في هذا اليوم, فكل المدن والنساء ستكون منشغلة بنفسها، فلا حروب ولا مؤامرات، بل ستبرم الآلاف من اتفاقيات المحبة والتآخي، وسيكون جميع حكام العالم بخير، وهكذا سيكون كل المديرين ونوابهم، وكبار الموظفين وصغارهم أيضاً, إقفال البورصة سيكون مناسباً للجميع, وسترتفع أسعار أسهم كافة الشركات، وسيصل سعر برميل النفط إلى أفضل سعر له طيلة تاريخ اكتشاف هذا السائل الأسود الملعون, وستنخفض أسعار كافة السلع، ولن تحمل أية رسالة في ذلك اليوم شكوى أو استياء من أي شئ..

كل العشاق ـ خاصة العجائز المتصابين منهم ـ سيكونون مخلصين للغاية, والنساء سيكنّ طيباتٍ لأبعد حد, والأولاد في مدارسهم وجامعاتهم, والحيوانات تعيش غرائزها بسلام, وسترتفع معدلات تكاثر كل الحيوانات والطيور والحشرات المهددة بالانقراض, وتنعدم نسبة التلوث, ويغلق ثقب الأوزون تلقائياً، وسيكتشفون أول لقاح شافٍ لمرض الأيدز, والشعراء سيعودون إلى الكتابة، والروائيون سيقتحمون عوالم ساحرة، وسيجد كل الممثلين أدواراً ترضي غرورهم, والمطربون سيغنون حتى تلتهب حبالهم الصوتية, لا مخدرات.. ولا جرائم.. ولا رشوة.. ولا قمع.. ولا سجون، ولا حتى مخالفات مرور، والأهم من هذا كله أن تصريحات الساسة ستكون اليوم صادقة, خاصة ساستنا العرب، الذين سيعترفون ـ ربما لأول مرة ـ أنهم أنانيون وقساة وكذابون, وأيضاً عاجزون عن فعل أي شئ, وأنهم متورطون في ضياعنا حتى النخاع..

.....

للموت ألف فائدةٍ وفائدة، أبسطها أن ننسى وجوه من خذلونا في محبتهم، وملامح البيوت والطرقات والأوطان التي ضاقت بنا، وكل هذا الخراب العلني والخفي، إذن فلنكن عمليين ونواصل ترتيبات تلك اللحظة الخاصة، وهندسة تفاصيلها بقدر من الخيال الممزوج بما تيسر من العبث.. فبعد أن استحم بماء دافئ يعقبه آخر بارد، سأبالغ في التعطر, وأرتدي أبهى ما لديّ من ملابس, ثم أقوم بجولة حرة في أزقة المدينة وميادينها, فكل شيء مطمئن، الوجوه مبتسمة، والنساء ساحرات (سأحزن لفجيعتهن بفقدي).. أدرك أنها عبارة لا تليق بيوم تاريخي كيوم موتي، لكنها مجرد عبارة خطرت ببالي فكتبتها، مستنداً على ما تبقى لي من عشمٍ في الرفاق والقراء، أما في المقهى فسوف أحتسي ألذ فنجان قهوة، وأدخن سيجارة استثنائية, وحين أعود إلى غرفتي سأستمع لقصيدة "عندما يأتي المساء"، وستدمع عيني في المقطع الأخير منها، وستطيح بالذاكرة تفاصيل خرافية لأمور كانت عادية ذات يوم، سأرى كل النساء اللاتي أحببتهن سراً وعلانية يتعايشن معاً في سلام، بينما أستلقي على مقعدي المفضل، وأغمض عيني، وبكل بساطة.. أموت.

.....

بعد ساعات سيقتحم خلوتي بعض الأصدقاء, سيرونني على هذه الحالة وقد علقت على وجهي ابتسامة بلهاء، سيبتسمون وهم يقولون: "إنه نائمٌ بعمق" وسيرحلون بسلام, ولأنني أشعر بلسعة برد سأنهض من موتي لأحضر غطاء، وسيعود الأصدقاء مجدداً ليروا ذات الابتسامة والغطاء يلفني, سيقول الطيبون منهم: "لابد أنه شعر بالبرد وهو نائم، لنتركه يتابع نومه", وسأصرخ بهم "يا أصدقائي.. أنا ميتُ.. ميت"، لكنهم لن يسمعوا, وسيزعجني أن أرى أحد الأشرار ينتهز الفرصة ليسرق كتاباً نادراً طالما رفضت إعارته إياه، وسأنهض من موتي مرة أخرى أصنع فنجان قهوة.. أحتسيه بهدوء, والتهم كسرة خبز وقطعة جبن، وأعود للموت ثانية, وسيعود الأصدقاء ليروا بقايا الخبز والجبن, وتلك الابتسامة العالقة على وجهي.. وربما يتساءلون هذه المرة: "ماذا به هذا الرجل, لابد انه مجهد للغاية, إنه يأكل وينام، لندعه وشأنه, فمنذ قرون لم ينم هكذا"، بينما ذات الصديق الشرير يعبث بمكتبتي ويسرق مزيداً من الكتب، سأنهض من موتي مستاء جداً, ليس بسبب الصديق اللص، بل لأنني عاجز عن التوصل لوسيلة تقنعهم بأنني ميت ليدفنونني وينتهي الأمر, فقد أبقى على هذا الحال دهراً, وفجأة لمعت في رأسي فكرة.. أن ألقي بجسدي المثقل بأكوام الشحم والأوجاع من الطابق العشرين، وبالطبع سأراعي ألا يكون هناك أيُ من المارة في الطريق.

حينئذٍ فقط، سيعرفون أنني متّ.. سيقولون بحزن لا يخلو من ادعاء: "انتحر لأسباب مجهولة"، لكن سيبقى هناك ثمة من يعرف جيداً أنني لم أفعلها، بل كانت مجرد طريقة مبتكرة ـ وربما مزعجة ـ لإذاعة النبأ.

دعواتكم.. صديقكم الآن يرقد بسلام في غرفة بيضاء..

اجمالي القراءات 9795