الظن
الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا (1)

محمود دويكات في الأربعاء ٠٢ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

1) الظن

أعتقد أن هذا المقال سيكون ضمن سلسلة تدرس اعتلال طرق التفكير عند الكثير من المسلمين (و الناس بشكل عام )و ذلك بسبب ملاحظتى لتفشيها في هذا الموقع الكريم.  و سيكون العرض موجزا قدر الامكان و ذلك احتراما للعقول النيرة هنا و تلافيا ً للملل او السأم من الاطالة.


إن أهم ما يفرق طريقة التفكير العربية عن مثيلتها الغربية (ليس النقطة فوق العين) و لكن اختلاق الظنون و الايمان بها. قد يبدو هذا بالامر الهين و لكن له عواقب و توالي هدامة جدا. سنحاول في هذا المقال القصير تحليل كيفية تعامل الدماغ العربي مع الكثير من المسائل و سوف نرى كيف أن اتباع الظن له أخطر النتائج على الفكر العربي ككل. و لاشك أن ذلك يعود الى مغالطات منطقية كما سنوضح . 

اجتناب كثير الظن:
بعض التعريفات البسيطة على السريع: الظن هو توهم/تخيل شيء قد لا يكون موجودا بالضرورة. الاعتقاد (الايمان) هو الايمان (الاعتقاد) بشيء قد لا يكون موجودا بالضرورة. التحقق/التبين هو الايمان بشيء موجود بالضرورة. باختصار الظن هو بناء قصور و أساطير في الهواء و تكون عادة ابتداءا من ملاحظات بسيطة جمعها الملاحظ .

(( استقطاع : قوله تعالى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)بقرة/46 و غيرها من الايات التي توحي أن معنى يظن يفيد التأكد و الايمان .. الخ – هذه الايات تندرج حسب التعريف: فأنت حينما تظن فإن الذي تظنه قد يكون موجود و قد لا يكون موجود .. فأنا عندما اظن ان شيئا ما موجود فإنا أؤمن بأنه موجود و لكن لا أمتلك دليل ملموس يرفعه للحقيقة .. و بالتالي هنا نقترب من الاعتقاد الراسخ مع الفرق أنه في حالة الاعتقاد فإنك لا تبحث عن دليل أصلا .. على أية حال موضوع نقاشنا هنا هو كيف تصبح الظنون حقائق )


سوف أسمي هذا الذي يبدع في نسج و بناء اساطير تحل محل اي عقيده في قلبه ..سأسميه بالمناطح (بكسر الطاء) لأسباب ستوضح لاحقا ، و من الامثلة على ذلك الفكر التناطحي: إذا رأي أو قرأ بعض المناطحين مثلا أن شخوصا ما ينتمون لدين ما كان لهم نشاط فكري مخرب.. فإنه يظن و من ثم يجزم و يعتقد أن كل من ينتمي لهذا الفكر هم مخربون (في نظره) ، و هذه أبرز مغالطات المنطق و هي التعميم المطلق .. فمثلا بعض المناطحين يرى أن البهائيين (مثلا) كلهم شر مستطير (أو مستطيل) و يجب نفيهم و تهميشهم و حرمانهم (و ربما قتلهم أحسن!)، لماذا؟ لأنه قرأ في مكان ما أن بعض الشخوص من هؤلاء كان له نشاط غير سوي (حسب معياره) . و هذه بالطبع قمة السخافة الفكرية (إن كانت فكرية أصلا) . لإن الله جل و علا نهانا عن إطلاق الظنون.. إقرأ قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) حجرات/12... يعني حتى نضمن أن لا نقع في القليل من الظن كان الاولى اجتناب كثير من الظن .. و إذا اجتبنا كثيرا من الظن فإنه يتعذر بناء الاساطير و الخزعبلات على تلك الظنون. إما إن سمحنا لتلك الظنون بالتعشيش في عقولنا فإنها تنبت كشجر الزقوم ..و تكون حينها طعام الاثيم..

اختلاق الظنون:
و لكن كيف يبدأ أو يتم أو يحدث تعشيش لتلك الظنون في العقول ؟ أو – كيف تتحول تلك الظنون الى حقائق يحارب من اجلها؟ لمحاول الاجابة على هذا السؤال نقرأ قوله تعالى (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى) نجم/23. و نقرأ قوله تعالى (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) نجم/28. من خلال قراءتنا لتلك الايات نفهم أن الظن يتم تأسيسه من منطلقين: إحداهما الاعتماد على مسميات (أو معطيات ) فاسدة ما أنزل الله بها من سلطان.. و ثانيهما الاعتماد على منطق أعرج أعوج أو مشوه و هذا ما وصفه الله بقوله (مالهم به من علم ) أي ليس عندهم علم مناسب يصلح للاستنتاج ولا حتى التفكير. و الله يقول أن مصدر تلك المعطيات المغلوطة عادة إما من نفس المناطحين (افتراءا على الله) أو من آبائهم (و ليس المقصود بالاباء هنا الاباء البيولوجيين و لكن قد تمتد الى الاباء الفكريين) و المعطيات قد لا تكون مغلوطة بذاتها و لكن عادة يتم اقتطاعها من بيئتها فتفسد و تصبح مغالطات.. وذلك يتم عن طريق فلترة تلك المعطيات وفقما تهوى الانفس – فيتم اختيار ما يلائم الهوى - لتصبح عقيدة صلبة في قلب المناطح يدافع عنها باستخدام أقذع و أفظع الالفاظ التي يتفنن في اختراعها.. .. لنضرب امثلة على ما قلنا ـ و سنستخدم مثال البهائيين الذي دار مؤخرا حديث عنهم . فمثلا: المعطيات المغلوطة قد تكون أن أكثر الناس ضررا لوطن ذلك المناطح هم من البهائيين.. لاحظ مدى تهافت هذه المعلومة من حيث عدم تحديد المقصود بالضرر هنا. فقد يكون المقصود بالضرر (حسب وجهة نظر – او هوى- المناطح) أن هؤلاء القوم يعملون على ترسيخ حكم علماني عادل يضمن الحرية و العدالة للكل دونما أي تمييز ، في حين أن المناطح يحب التمييز بين الناس!! و قد يكون الضرر (حسب وجهة نظر المناطح) أن الحكم العلماني الذي يدعو إليه هؤلاء القوم فيه من الحرية ما يسمح بانشاء مراكز دعارة وشرب.. الخ . لاحظ هنا كيف تدخل الفلترة حسبما تهوى الانفس.. فالمناطح يغطي و يتناسى فكرة الحكم العادل و الحرية و الفرص المتكافئة في حين ينظر فقط الى أن الحرية قد تستخدم لإنشاء مراكز دعارة .. و هو بهذا قد شطح ذهنه الى ما ألفى عليه آباؤه (الفكريين) و بالتالي قام بتدعيم فكرة ان هؤلاء القوم هدفهم نشر الدعارة و غيرها من الافكارـ قام بتدعيمها في دماغه. و بالتالي أصبحت من الاسماء و المعطيات التي ما أنزل الله بها من سلطان تعشش في دماغه. و أصبح هو بالتالي يناطح و يحارب في سبيل تلك الفكرة المعششة في دماغه مستخدما أبهى و أروع طرق الحوار الذي يقدر عليه (وينم عن مستواه الفكري و الحضاري).. و بالتالي استحق لقب المناطح بجدارة لا مثيل لها. 

حل المشكلة 

كتلخيص ما سبق ـ نجد أن المناطحين يقومون بفلترة كثير من الافكار الواردة لهم (يغضون نظر عن بعض و يهيمون ببعضها الاخر) و ذلك وفق ما سكن في قلوبهم مما اخترعوه هم أو ما وجدوا عليه آباءهم. و إثر ذلك يتم تضخيم تلك الافكار المفلترة لتصبح حقائق ذات زخم تعشش في دماغه بحيث يصبح يدافع عنها دفاعا مستميتا ظانا أنه من الذين يحسنون صنعا ...
حسنا ، إذا عرفنا تلك المشكلة. فما هو الحل إذن؟ الحل يكون بتوخي الحرص في فلترة الحقائق المتواردة الى الذهن .. و يفضل عدم فلترتها أصلا بل يجب المحافظة على وضع متوازن فيما بينها لكي لا تطغى فكرة على أخرى و بالتالي تسبب خطأ في الحكم.. يعني كمثال: إن قيل لك ان هؤلاء الجماعة يدعون الى إقامة مجتمع حريات ، فلا تفلتر كل شيء و تبقى على فكرة أن الحرية تؤدي الى الدعارة!! و بالتالي بناء على ذلك تحكم!! فهذا من السخافة المدقعة (و التي يتحلى بها بعض المتاطحين) . نعم الحرية قد تؤدي الى الدعارة لكن إن أخذت ذلك منفردا فأنت تهمل وجود الشعب ككل و الذي بإرادته سيقف (إن شاء) ضد تلك التوجهات ..

و من جهة أخرى، الله يأمر باجتناب كثير من الظن .. لأنه ليس كل الظن يؤدي الى المفاسد و المهالك.. بل إن بعض الظن اذا تبعه كثير من البحث و التنقيب فإنه يصبح ذا نفع .. هذا الشرط الاساسي (التبين و التثبت و البحث و التنبيش) قد وضحه الله في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)حجرات/6 ..

أرجو أن يكون هذا المقال ذا نفع للبعض إن لم يكن الكل.
و الله من وراء القصد.

اجمالي القراءات 19912