المشكلة الجذرية لأنظمة التعليم عند العرب

محمود دويكات في الأربعاء ٢٥ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

قال الله عز وعلا (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) رعد/11 ... فإذا فرضنا صدق هذه الاية في كل الازمان و الاحوال فإنه يتحتم أن نعلم أن التغيير يجب ان يكون مستمرا. بمعنى أنه حتى و إن تم تطبيق القرءان كما يرغب الكل و مشينا على الصراط المستقيم... فإننا نصل الى و ضعية شبه ثابته لن نتزحزح عنها إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا... هذه المقالة تبحث في مدى التغييرات المطلوبة و مجالاتها في سبيل التقدم نحو رضا الله وعمارة الارض .

الله خلق الانسان ليخلف من سبقه في الارض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً)بقرة/30. و أوضح الله لنا امرين مطلوبين من البشر ، أولهما: الطاعة المطلقة و الخضوع لله (وهذه من معاني العبادة – التعبد لله أي نكون عبيدا لله نطيعه في ما أمر) لقوله (وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)ذاريات/56. و ثانيهما الاستعمار و الاستخلاف في الارض لقوله (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)هود/61 – فرغم ان تلك الاية الاخيرة كانت موجهة لقوم إلا أن الخطاب كان يشمل جميع البشر بقرينة قوله أنشأكم من الارض.

و من خلال قراءة القرءان نجد أن الانسان استطاع الى حد ما أن يقوم بالهدف الثاني بشكل مقبول و مرض ٍ أحيانا ، إلا أنه قلما كان متوازيا مع تحقيق الهدف الاول... و لذلك كان معظم الرسالات الالهية الى البشر تنص على الهدف الاول و هو عبادة الله وحده... في حين أن بعض الرسالات الاخرى (كرسالات داوود و سليمان و الى حد ما موسى عليهم السلام) كانت تخاطب الهدف الثاني أكثر من مخاطبتها الهدف الاول. فكانت جلها تركز على خلافة الارض لقوله تعالى (يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ)ص/26. و قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ....... يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ) سبأ/10-13. و أيضا عن رسالة موسى قوله (قَالُوۤاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)أعراف/129.

و في الرسالة الاخيرة للبشر (القرءان) جمع الله ما بين الهدفين بشكل يثير الاعجاب و الدهشة و بطريقة تنم عن عبقرية فذه و بساطة آخاذه من خلال قرنهما معا بتكرار قوله (وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ)بقرة/110 في كثير من أيات القرءان... فالله يريدنا المحافظة على الصلة بينه و بيننا و أن يكون دائما في قلوبنا هدفا نتقرب له بكافة الاعمال التي نقوم بها. و من جهة أخرى يريد الله منا أن نؤتي الزكاة .. و إتيان الزكاة تحمل معنيين جميلين أولهما زكاة الاموال (و هذه هي الاساس في إعادة توزيع الاموال بين الناس) و ثانيهما أن نزكو (و أيضا نتزكى) بمعنى أن ننمو و نتقدم و لا نبقى على نفس المستوى الذي كنا فيه (في اشارة الى استمرار البحث في شتى المجالات) . فالصلاة (الحقة) هي السبيل لتنقية النفوس من شوائب المصلحة و فعل الفواحش في سبيل الكسب الشخصي و غيره ، لقوله (إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ)عنكبوت/45. وأيضا الصلاة تثبت القلب عند الشدائد لأنها دائما تذكر الانسان بخالقه ، لقوله (يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ )بقرة/153. وبالتالي فإن الصلاة تلعب الدور الاساس في تصفية و تهيئة النفس البشرية الى التقدم قدما نحو الهدف الثاني ، ألا و هو إيتاء الزكاة. و أيتاء الزكاة كما قلنا يهدينا الى شيئين: تخصيص جزء من الاموال تعطى (تماما كما هي الضرائب في المجتمعات الغربية) بالاضافة الى الحض على الزكاة بمعنى النمو و التقدم نحو الاحسن وهذا ما لا يمكن ان يحدث إلا إذا بحثنا و نقبنا في شتى المجالات العلمية و الاقتصادية (وهذان الامران مفقودان تماما عند العرب الان فلا يوجد نظام ضرائب فعال و لايوجد بحث علمي لتسريع عجلة التطور و استغلال المصادر –خاصة المصادر البشرية- استغلالا أمثل) . في هذا المقال سيكون التركيز على إقام الصلاة و لربما نتحدث عن إيتاء الزكاة في مقام آخر إن شاء الله.

إذا علمنا أن المطلوب من المسلمين هو إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة (حسب ما وضحنا اعلاه) يكون سهلا علينا أن نرى المواطن التى يجب تغييرها في الانظمة التعليمية ، خاصة السنوات الابتدائية و حتى الثانوية. فهذه السنوات هي من السنوات الحرجة في عمر أي انسان لأنه في الغالب يتلقى ما يقال له فيها دون تفكير و دونما أي نقد.. ففي تلك السنين يتم غرس المباديء و بل طرق التفكير أيضا في عقل المواطن العربي و لا شعوريا مع التكرار تصبح تلك المباديء أرضية أساسية يبنى عليها الانسان كل تفاعلاته الفكرية و تجاوباته مع ما حوله من بشر و حجر.. ولأنها بهذه الاهمية، دعونا نرى ما هو المطلوب فعله تجاه تلك الانظمة التعليمية و المناهج حتى نتمكن من تحقيق الهدف الرئيسي من (َأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ).

إن مشكلة المناهج التعليمية عند العرب أنها لا توحد الله و إنما تشرك معه الكثير من الالهة ، من بينها النبي الكريم محمد عليه السلام و أصحابه وتابعيهم من جهة دينية ، و اللغة العربية و العرب و التراث الفكري من جهة تاريخية و منطقية. لذلك يجب تركيز فكرة أن لا اله إلا الله في دماغ الطالب، بمعنى لا عبره لقول فلان أو علان إن لم يحقق كلام الله و إن لم يحقق المنطق العقلي. فتلك الجملة (لا إله إلا الله) تحقق الهدفين فهي كلام الله و تشير أن هو (الله) فقط له المرجع و المآل وأيضا توضح (إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ)يوسف/40 . و أيضا تحقق المنطق إذ لو وجدت آلهة اخرى (إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) مؤمنون/91. و لكن حال المناهج التعليمية عند العرب تجعل كلام الله ممكن مراجعته وتحجيمه لا و بل إبطاله أحيانا.. فأنا أذكر كيف كان يتم عرض النقاش في الكتب الدينية في المدارس العادية (ليست المدارس الدينية) : ففي أي مسألة بعرضون الادلة كالآتي/ دليل من القرءان (أية أو أيتين – يتم تفسيرها بشكل مقتضب) و يليه دليل السنة و الحديث ويأتوا لك ببضع أحاديث و يفردون لك صفحة تقريبا في نقاشها ويعرضون أراء العلماء و الائمة.. الخ و بعد ذلك يتم اصدار الحكم بخصوص المسألة (او اثبات الحكم المسبق عليها) .. لاحظ هنا أن من خلال طريقة العرض فإن كلام الله يزج به مع كلام العلماء على نفس المحمل من الجد والاهمية.. ولا يتم توضيح ان تلك اجتهادات بشرية.. بل يتم اعتبارها ضرورية لفهم كلام الله . تخيل كل ذلك يتم حشوه في دماغ طالب لا يستطيع التمييز أو التفكير خارج حدود الكتاب المقرر عليه.. لذا ينشأ هذا الطالب على استعجام و عدم احترام كلام الله بل يكن احتراما أكبر لما قاله و يقوله العلماء من حوله (لأن تلك الكتب تركز على أنه لا سبيل لفهم كلام الله دون راي فلان و علان من العلماء).. و طبعا هؤلاء العلماء إنما يكررون ما قد قيل من قبلهم.. و بالتالي يدخل الجيل في دور مغلق لا منتهي من العيش في جلباب اولئك الائمة و آبائهم.

تلك المصيبة في المناهج أيضا موجودة في تدريس التاريخ و التراث الفكري من لغة و بلاغة عربية. ففي تلك المواد يتم تركيز الضوء على الشخوص و يتناسون ما قدمه اولئك الناس.. فمثلا كلنا يسمع باسماء مثل الخوارزمي أو الطوسي أو البيروني أو غيره و كلنا يعلم أنهم لهم مكتشفات و اسهامات رائعة في علوم الرياضيات و الفلك.. لكن إن رجعت للكتب المقررة فهي لا تدخل في التفاصيل (لطالب الثانوية)فلا أحد يعلم ما هو الشيء بالتحديد الذي اكتشفه أو اسهم به الخوارزمي للبشرية مثلا، و لا حتى كيف أو لماذا اكتشف الخوارزمي ما اكتشفه ، بل تركز تلك الكتب على أن الخوارزمي (مثلا) عالم عظيم : قال عنه فلان كذا و مدحه فلان بكذا... و غيره من هالات التعظيم و التقديس الغير مبررة - و التي كأنها هدفها القول أن ذلك العالم هو اللي خرم التعريفة و دهن الهوا بويا (أو دوكو) في حين أن الجيل الحالى لم يقدم شيء للاسف.. مما يجعل الطالب يعيش حالة فريدة من نوعها إذ ينتشي بانجازات الماضي( دون أن يدري عن تفاصيلها) و يصاب بالاحباط لاخفاقات الحاضر...و هذا بعكس الطريقة الغربية عندما يذكرون مكتشفا او عالما فهم لا يذكرون سوى اسمه و بعدها يخوضون في مناقشة تفاصيل ماجاء به ذلك العالم الذي يبقى مثله مثل غيره من الناس بدون تقديس يذكر. و نفس الشيء يقال عندما يدرس العرب تاريخ المسلمين فهم يركزون على الاسماء و يرفعوها لمرتبة التقديس. كل هذا يزرع في نفس الطالب تقديس اسماء رجالات الماضي و بالتالي نعود الى نفس الدور من الحلم في الماضي . وكل ذلك مخالف لما يقوله الله (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)بقرة/134،141. و كله بالطبع مخالف لأوامر الله بعدم اشراك أي شيء معه.

أذكر أنني عندما كنت طالبا في المرحلة الاعدادية ما قبل الثانوية (أوائل التسعينات) كان يعجبنى كتاب كان مقررا في مصر أيام السبعينات. ذلك الكتاب كان يتكلم عن الجبر و المنطق و اساليب اثبات الجمل الرياضية بشكل عام و تجريدي بحت. و كنت دائما أتساءل لماذا لا يقررون على طلاب الاعدادية كتبا كهذه بدلا من الكتب الحالية التي تسير على مبدأ تافه بسيط: عرض النظرية- اثباتها – أمثلة! .فالكتب الحالية لا تخاطب العقل أبدا بل تخاطب الذاكرة. فهي تشحذ الذاكرة على حفظ قدر هائل من النظريات و لكن لا تعطي الطالب أي عمق ليبحر فيه. ومن ناحية أخرى فإن تلك الكتب لا تقرن فيما بين نظرياتها من جهة و بينها و بين الكتب الاخرى من علوم و غيره من جهة أخرى . إن مشكلة التركيز على الكمية بدلا من الكيفية و النوعية هي من كبريات المشاكل في مناهج التعليم عند العرب للأسف. و الكيفية ضرورية كأحد مستلزمات الزكاة و النمو في عقلية الطالب من حيث أنها تحثه على البحث المتشعب و استطلاع تباين طرق التفكير.

و بناء على كل هذا أقول إن على المناهج التعليمية أن تركز على شيئين في الاساس : أولها توحيد الله و التذكير بوجود الله و قوته و رحمته في نفس الوقت ، و أيضا على المنطق البسيط و الاستنتاج السليم و الرياضيات و بعض العلوم البسيطة...(و شيء بسيط عن اللغة العربية قراءة و كتابه) و يتم توسيع تلك الامور تدريجيا و يجب تجنب إضفاء الهالات و القدسيات على المراجع الدينية أو التاريخية بل تذكر للطالب لتبين هدف واحد أنهم قوم اجتهدوا و حاولوا ، و تعرض تلك الاراء بشكل مقتضب جدا (للمهم منها فقط) ومن بعد ذلك يؤتى بآيات القرءان ككلام نهائي و فصل و حاسم و ملزم و يتم تفسيرها بشكل تجريدي و ليس بذكر أسماء الناس الذي فسروا.. بل يتم التركيز على : نظن و نعتقد و لا يجب اظهار الجزم بالامر أبدا للطالب و ذلك لأظهار وترسيخ فكرة أن فهم القرءان لا يقف عند حد معين بل كلما فكرت اكثر كلما فهمت أكثر.

و عند تدريس التاريخ، يجب الاخذ بمنهج القصص القرءاني و الذي لا يقيم وزنا كبيرا للشخوص بقدر ما يقيم وزنا كبيرا للاحداث و العبر.. فأنا من وجهة نظري يجب عدم تدريس التاريخ من أساسه إلا ربما في السنة (او السنتين) الاخيرة من التعليم الاساسي (ما قبل الجامعة) و في ذلك التاريخ تعرض المواد بشكل متكافيء ما بين تاريخ العرب و المسلمين و تاريخ الغرب و الشرق مع التركيز على الاحداث المفصلية: كل هذا لهدم عقلية العيش في جلباب العصور الوسطى و لهدم تلك النشوة الخائبة التي تصيب العرب عموما بالخمول و الكسل و التي تنتج عن التغني بالتقدم العلمي و التقني الذي ساد به العرب العالم آنذاك.. منذ أكثر من ألف عام... 
كل تلك إنما هي اقتراحات و تفكرات في اساس المشكلة في انظمة التعليم عند العرب خاصة .. الذين نرجو من الله أن يردهم الى كتابه القويم فيعقلوه و من ثم يضعوه نصب أعينهم في جميع خطوات حياتهم.

و الله من وراء القصد.

اجمالي القراءات 12456