الدور المصرى السلبى

مجدي خليل في الإثنين ٢٣ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

يستمر الحديث والجدل فى القاهرة فى السنوات الاخيرة عن تراجع الدور المصرى فى المنطقة، وقد ازداد هذا الجدل حدة بعد رعاية قطر لإتفاق تسكينى وقعه اللبنانيون المتناحرون فى 15 مايو 2008.
الذين يتحدثون عن الدور المصرى فى المنطقة يخلطون بين طبيعة الدورالمتعلق برغبة الآخرين بتقليد النموذج واللحاق به وبين سياسات الهيمنة، وبين دور القوة الناعمة ودور القوة الصلبة، كما انهم يتجاهلون الدور المصرى المؤثر سلبا على المنطقة العربية والدول الإسلامية.
بلا شك كان لمصر دورا إيجابيا على المنطقة كلها من خلال القوة الناعمة والتأثير الناعم، وهذه القوة استمدتها مصر تحديدا من نتاج الفترة الليبرالية ما قبل يوليو والتى لم تتجاوز الثلاثة عقود.الدور المصرى الإيجابى الرئيسى كان فى قبول الحداثة الاوروبية على ايدى رواد النهضة المصرية، ولكن مناهضة الحداثة ثم أسلمتها فيما بعد فى مصر أدى إلى تأكل هذا الدور المصرى الناعم فى حين تجاوبت دولا اخرى فى المنطقة مع الحداثة بصورة افضل من مصر، وهذا التأثير الإيجابى الناعم ينتعش فى ظل اجواء الديموقراطية والحريات حيث انه تأثير اختيارى على الطرف المتلقى فى حين أن الدور الصلب الخشن ينتعش فى ظل اجواء الصراعات وفى ظل سياسات الهيمنة وغالبا فى ظل غياب للديموقراطية وهذا ما حدث بالضبط إزاء الفترة الناصرية.


والسؤال هل حدث تراجع فى دور مصر الناعم أم الخشن؟.
والاجابة فى رأيى فى الاثنين. التراجع فى دور سياسات الهيمنة التى كانت متبعة فى ظل حكم عبد الناصر يعود إلى الواقع الجديد الذى تعيشه المنطقة والعالم،فعالم اليوم غير عالم الأمس، فقد نشط الدور المصرى الخشن فى ظل الصراعات الدولية والقطبية الثنائية والحرب الباردة وفى ظل تبنى مصر وقتها لمبدأ الصراع ذاته من خلال شعار " لا صوت يعلو على صوت المعركة" ومحاولة حشد العرب خلف الصراع العربى الإسرائيلى وفرض ذلك فرضا على الدول العربية من خلال الترغيب والاجبار.أدوات الهيمنة تقوم على سياسة العصا والجزرة وهذا ما كانت مصر عبد الناصر تقوم به فى المنطقة.
تراجع الدور المصرى الخشن يعود إلى التحولات فى هياكل وقوة وأدوات التأثير، وكذلك إلى فشل سياسة الحشد من آجل الصراع والتى منيت بهزيمة ساحقة فى عام 1967 وما تلى ذلك من إدراك السادات لصعوبة إسترجاع الارض بالقوة العسكرية وحدها والذى انتهى باتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وآخير نتيجةاتجاه بعض الدول العربية غربا لتحديث نفسها وتوقيع اتفاقيات تعاون امنى مع امريكا واوروبا لحماية نفسها من سياسات الهيمنة الاقليمية بعد ارتفاع سقف الاطماع فى عائد ثرواتها النفطية الضخم.
إن تعريف الامن القومى المصرى ومحدداته بعد يوليو 1952 والتى تتمثل اولوياته فى حماية الإسلام وحماية النظام والصراع العربى الإسرائيلى، هذا التعريف نفسه يعتمد على القوة الخشنة التى لم تعد متوفرة فى مصر الحالية.
أضف إلى ذلك الخلاف بين رؤية عبد الناصر ورؤية مبارك لدور مصر، فقد كان عبد الناصر يرى الدور المصرى فى توظيف كل شئ لصالح الهيمنة،فقد قامت فلسفة الثورة على أهمية الدور المهيمن وحتميته وأيضا الإنفراد به مصريا. أما مبارك فيعمل على توظيف ما لديه من أدوات محدودة لدعم المصالح المصرية فيما يتعلق بتوفير متطلبات الحياة لاكثر من 80 مليون مصرى، ولكن ما يضعف محاولات مبارك هذه هو إهدار الجزء الاكبر من مداخيل هذا الجهد فى الفساد السياسى والإدارى الذى توحش فى مصر واصبح يمثل فسادا هيكليا يصعب مقاومته بدون سقوط النظام.
أما فيما يتعلق بالتأثير المصرى الإيجابى المحمود على المنطقة فيعود تراجعه إلى تراجع الحداثة فى مصر ثم أسلمتها وآخير إلى مناهضة العولمة.مصر من الدول القليلة فى العالم التى بدأت مناقشات سلبية عن العولمة منذ بداية ظهورها وحتى الآن، أى رفضت العولمة حتى قبل أن تعرف ابعادها حيث تصور البعض أن الدخول إلى العولمة عملية اختيارية مثل عضوية المنظمات الدولية. العولمة قامت اساسا على التقدم التكنولوجى المذهل والمتسارع وكل العالم يعيشها رغما عنه، الفرق هنا بين من يتفاعل بإيجابية ويطور قدراته للتأقلم وتعظيم الاستفادة ومن يرفض بطريقة سلبية ومن ثم يصبح من المتفرجين الخاسرين،لأن سياسات العزلة لم تعد ممكنة فى ظل هذه العولمة.العولمة فرضت واقعا جديدا يصعب تجاهله، والعولمة اضعفت دور الموقع الجغرافى والثقل التاريخى والكثافة السكانية، إلا فى حالة تحول هذه الكثافة السكانية إلى قوة شرائية أو قوة منتجة. العولمة فرضت قواعد جديدة وغيرت من اوزان الدول وضربت الكثير من نظريات القوة الكلاسيكية، لقد الغت العولمة مقولات من قبيل أن الدور حقيقة تاريخية، وقدرية وحتمية الدور المصرى، ومقولات جمال حمدان عن عبقرية المكان، والحديث النرجسى عن الشخصية المصرية.
ومع الكلام الكثير عن الدور المصرى يتجاهل الكثيرون الدور المصرى السلبى على المنطقة والدول الإسلامية،فالإنقلاب العسكرى فى يوليو 1952 أفرز واقعا جديدا ثوريا عسكريا ديكتاتوريا فى المنطقة وهو ما اطلق عليهم "اخوات يوليو السبعة"، فى السودان وليبيا وسوريا والعراق واليمن والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية.وتنظيم الاخوان المسلمين الذى ظهر وتأسس فى مصر انتشر اقليميا وعالميا مثل السرطان حتى اصبح متواجدا فى 72 دولة فى العالم حسب تصريحات قادة الاخوان انفسهم،فقد ظهرت حركة الاخوان المسلمين فى مصر عام 1928 ثم انتقلت الى السودان عام 1944 فالعراق 1944 ثم القدس عام 1945 ثم الاردن عام 1946 فسوريا عام 1946....الخ. ومن عباءة جماعة الاخوان خرجت كل التيارات الإرهابية فى العالم حيث تذكر كتابات الجماعة ومواقعها أن من قيادات الجماعة سيد قطب، الذى يطلقون عليه مفكر الجماعة، وهو فى الحقيقة الآب الروحى لجماعات الجهاد حول العالم وصاحب مقولة " الجهاد لا يمكن إلا أن يكون هجوميا"، ومن مفكرى الجماعة ايضا عبدالله عزام الاب الروحى لاسامة بن لادن وايمن الظواهرى العقل المدبر للقاعدة. وقد وصل التأثير السلبى المصرى إلى رصد دراسة فرنسية أن ثلث الإرهابيين على مستوى العالم ورؤسهم الكبيرة خرجت من مصر.
وعندما بدأت مصر التعددية الحزبية الشكلية والفارغة المضمون على يد نظام السادات انتشرت هذه العدوى إلى المنطقة، ومن مصر خرجت المتاجرة بقضية فلسطين واصبحت داءعربيا مزمنا، ومن مصر خرجت الشعارات والإعلام الثورى الفج والكاذب وظاهرة احمد سعيد والتى انتهت بالصحاف العراقى، ومن مصر خرجت الدساتير العربية المشوهة والموسومة بدينية الدولة، وقد علمت أن الخبراء الدستوريون المصريون هم الذين نقلوا مادة دينية الدولة وإسلاميتها من الدستور المصرى إلى معظم الدساتير العربية، ومن مصر انتشر التعصب الدينى إلى المنطقة، وعاد المصريون من منطقة الخليج بقيم البداوة وفى نفس الوقت نشروا التعصب الدينى هناك، وبتأثير اخوان مصر تحولت الوهابية السعودية من مذهب محلى متشدد ومتخلف إلى حركة عالمية لوهبنة العالم..باختصار من مصر خرج الإسلام الحركى والذى حوله المتطرفون إلى خلايا إرهابية منتشر كالكماشة حول العالم.
وبعد أن اثرت مصر سلبيا فيما يتعلق بتثوير المنطقة وبعد ذلك أسلمتها ثم جهاديتها، يقود اكادميون مصريون وبتمويل قطرى موضوع الديموقراطية الإسلامية وإشراك الإسلاميين فى الحكم، وهى بمثابة أحدث منتجات الخداع والجسر الذى يريدون من خلاله سيطرة الجماعات الإسلامية على الحكم فى المنطقة عبر الإنتخابات المشوهة بعد أن فشلوا فى المواجهة العنيفة امام الأنظمة العسكرية الحالية، لندخل فى نفق مظلم لن نخرج منه قبل نصف قرن آخر.
إن الدور الذى يبقى ويدوم هو ما يتعلق بالتأثير الناعم عبر القوة الناعمة، وقد كرس اكاديمى امريكى الكثير من وقته، وهو جوزيف ناى، لتوصيف هذه القوة الناعمة وتحبيذها، فالتأثير الامريكى الناعم هو الذى بقى وانتشر وكما يقول ناى " إن تأثير ثقافة الرومان وروسيا السوفيتية توقف عند حدودهما العسكرية بينما أستطاعت القوة الناعمة الآمريكية أن تسيطر على امبراطورية لا تغيب عنها الشمس".، ويقول الروائى المصرى جمال الغيطانى" الدور المصرى بالأساس ثقافى وكل الأدوار الآخرى لاحقة عليه".
إن التأثير الناعم يتعلق بالإعلام والتعليم والفكر والفن والثقافة ونمط واسلوب الحياة وجاذبيتها..وهذه الاشياء لم تعد متوفرة فى مصر حاليا فى ظل سطوة دور الدين على الابداع ومطاردة المبدعين وتكفير الفنانيين وتحريم الإستمتاع بالحياة، وفى ظل الهبوط القيمى والاخلاقى وتفشى الفساد والفقر والبطالة والجهل والتعصب الدينى والإنفجار السكانى، كل هذا أدى إلى هروب وإنزواء القوى الخلاقةFlight of The Creative Class.
فى امريكا حاليا تجرى مراجعات لفشل القوة الخشنة فى السنوات الست الماضية وهناك دراسات عن مفهوم جديد وهو القوة الذكيةThe Smart Power
حيث تمتزج القوة الناعمة مع القوة الخشنة فى صياغة دور امريكى جديد يعيد لها سطوة جاذبيتها الخلاقة فى تصدير الآمل وقيم الحرية والمساواة والعدل والديموقراطية والحريات الدينية بديلا عن تصدير الخوف والغضب الانتقام.
لقد اكتسحت امريكا العالم من خلال جاذبية اسلوب الحياة الامريكى، وقيم الحرية وحب الحياة،وزخم التجربة الامريكية، وتفوق التعليم،وسحر الفن،وبساطة الملبس،واحتضان المهاجرين،وتشجيع المخترعين،وتبنى سياسات المجتمع المفتوح.
وفى مصر لن يعيد لها دورها سوى نهضة اخرى تسير على خطى تجربة النهضة الاولى فى التفاعل البناء مع العولمة وفتح جسور مع الغرب المتقدم تنقل قيمه وطريقته فى التقدم... وحتما لن يتم ذلك إلا من خلال دولة مدنية ديموقراطية حرة تضع الدين فى مكانه الصحيح وتحترم حريات الفرد واختياراته وتفتح المجال لحريات الابداع والفكر... وبخلاف ذلك سيظل الدور المصرى يتراجع فى كافة المناحى وسيتزايد دورها السلبى على المنطقة، وهو الطريق الذى تسير فيه مصر حاليا بخطى متسارعة واتوقع استمراره فى المستقبل.

اجمالي القراءات 11190