فرج فودة والشيخ الأحباس

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٩ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


1 ـ فى نهاية الأسبوع الأول من شهر يونية الحالى مرت الذكرى الـ 16 لإغتيال المفكر المصرى النبيل د. فرج فودة، وكما قلت فى أول مناسبة لتأبينه أن فرج فودة لم يسقط قتيلا وإنما إرتفع رمزا حيا لشجاعة المفكر الذى يواجه بقلمه قوى الظلام وأسلحتها الرشاشة .
إن يوما واحدا من حياة فرج فودة النضالية فى سبيل الحرية وحقوق الإنسان تعدل سنوات من أعمار المثقفين الذين تأرجحوا بين مهادنة السلطة الإستبدادية والمناداة بالإصلاح على إستحياء ،أما مثقفوا السلطة وشيوخها فهم أقل وأهون من أن يكونوا فى أى مقارنة مع ذلك الهرم المصرى الشامخ المسمى فرج فودة .

إن حياة فرج فودة ـ شأن كل إنسان ـ هو موقف او مجموعة من المواقف،وكما اتخذ موقفا أخلص له إلى نهاية حياته ودفع من أجله حياته فإن آخرين اتخذوا موقفا مضادا أو مواقف مضادة، وفى النهاية يأتى الموت للجميع ويقال فى حقه كلمة " كان كذا " حسب موقفه.

2 ـ فى حياة فرج فودة حادثة هامة جعلته يتخذ موقفا يخلص له طوال حياته.
كنت أتحدث معه أؤكد له أن صناعة الأضرحة المقدسة كانت عادة منتشرة فى العصر المملوكى حيث يزعم أحد الشيوخ أنه رأى فى المنام وليا من الأولياء الصالحين جاءه يطلب ان يقام له ضريح فى ذلك المكان ، وسرعان ما يقام الضريح ، وتقام حوله الموالد ، وأن هذه العادة انتشرت حتى اصبح لها مصطلح هو ( أضرحة الرؤى ) وأصبح يقال عنها فى التراث المملوكى (الأضرحة المزورة ) ومع ذلك يقولون انه يستحب زيارتها مع حسن النية و حسن الاعتقاد . وقد كانت زيارة الأضرحة من أهم العادات الاجتماعية والعبادات الدينية فى العصر المملوكى ، وتخصص فى ارشاد الزائرين شيوخ أصبح اسمهم (شيوخ الزيارة ) ، وبعض أولئك الشيوخ كتب يشرح مهمته ويصف بالتفاصيل طرق ومسالك القرافة فى القاهرة وأشهر الأولياء وتخصص كل منهم بكرامات معينة وقصص معينة كان بالطبع يرددها على الزائرين القادمين للتبرك . واشتهر من مشايخ الزيارة إثنان كلاهما كتب فى أضرحة القاهرة هما شمس الدين ابن الزيات(ت814)صاحب كتاب(الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة)ونور الدين السخاوى الصوفى (ت 900 ) صاحب كتاب ( تحفة الأحباب فى الخطط والمزارات ) وهو غير الحافظ شمس الدين السخاوى الفقيه المؤرخ المحدّث المشهور المتوفى عام 902 .
ظللت أحكى لصديقى الراحل فرج فودة تكاثر انشاء أضرحة مزورة فى مصر حتى للصحابة المشاهير الذين لم يروا مصر طيلة حياتهم ، ومنها ضريح السيدة زينب المشهور حتى الآن (والذى تكنسه حركة كفاية على الحكومة طبقا للاعتقاد السائد لدى كل مظلوم يستغيث بالسيدة زينب فى الاعتقاد المصرى الشعبى ) وهو ضريح مزور لم يعرفه العصر المملوكى ( 648 ـ 921 )ولم تذكره كتب التراث المملوكية ، فقد تم بناؤه عام 955 فى العصر العثمانى بناءا على رؤية منامية ، ثم أصبح مع ضريح مزور سابق هو ضريح الحسين أشهر الأضرحة المقدسة فى القاهرة ومصر. بل هناك ضريح للسيدة عائشة لا يزال موجودا ومقدسا برغم أن السيدة عائشة لم تر مصر فى حياتها ،بل هناك ضريح كان مشهورا فى العصر المملوكى للجمل الذى كانت تركبه السيدة عائشة فى موقعة الجمل ، بل اعتادوا أن يقام أكثر من ضريح للشخص الواحد طالما كان وليا مشهورا ، فهناك أكثر من ضريح لعمر بن الفارض و السيد البدوى والشاذلى ،وكلها تتمتع بالتقديس و النذور حتى الآن .
وحكيت له عن واقعة فى أحد القصورالقديمة بالقاهرة حيث كان هناك فى جانب السور حجرة للبواب كانت تظل مضاءة أمام السائرين فى الشارع. وبعد موت البواب فوجىء وارث القصر بأن الناس اعتادت أن تلقى النقود المعدنية من خلال شباك الحجرة ، أى اعتبروا الحجرة هى ضريح فتبرعوا له مقدما بالنذور، وقلت له أن هذا ما أنبأ به رب العزة فى القرآن الكريم حين تحدث عن رزق الله تعالى الذي يجعلون منه نصيبا لأولياء مصنوعة لا يعلمون عنها شيئا (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ )( النحل 56).
ثم تحدثت عن ذلك التناقض بين الاسلام و المسلمين فى العقائد والأخلاق و التشريع ، وكيف أن أتخاذ أولياء وتقديس الأضرحة يمثل أحدى التناقضات الهامة بين الاسلام و المسلمين ليس فقط فى العقيدة ( حيث لا تقديس لأحد سوى الله وحيث أن الله تعالى هو وحده الولى المقدس المقصود بالتوسل وطلب العون والمدد ) ولكن يتجلى التناقض أيضا فى موضوع الشفاعة فهى فى الاسلام لله تعالى وحده ولدى معظم المسلمين هى أيضا للنبى محمد والأولياء الصوفية والأئمة الشيعة ، وعقيدة الشفاعة لدى المسلمين أساس فى انحلالهم الخلقى و ترديهم الأخلاقى طالما قرروا أنهم سيدخلون الجنة مهما ارتكبوا من آثام. وهكذا تقف الأضرحة وعبادتها تحديا صارخا للاسلام فى بلاد تزعم أن دينها الاسلام ، ويقوم أهلها ببناء أضرحة بايديهم يعكفون على عبادتها ويصدقون ما يخترعونه عنها من أكاذيب الكرامات.
كان فرج يستمع لى مبتسما معجبا ، ثم حكى لى حادثة كانت السبب فى تحويل مجرى حياته وخلقت منه ذلك المفكرالعلمانى .

3 ـ هذه الحادثة سمعتها من فرج فودة ونصحته بأن يكتبها مقالا فكتبها ونشرها فى جريدة ( مايو ) على ما أعتقد ،وأذكرها بايجاز هنا حسبما تسعفنى الذاكرة .
حين كان طالبا فى الثانوية العامة كان فرج مع بعض رفاقه فى القرية يسهرون بين المذاكرة واللهو . وأثناء رجوعهم ليلا وهم فى صخبهم قابلهم شيخ المسجد وأخذ فى تعنيفهم والإنكار عليهم. قام فرج فودة بتأليف قصة واتفق مع صديقه على تمثيلها لخداع ذلك الشيخ المتزمت والسخرية منه. طبقا لما اتفقا عليه قام كل من فرج فودة وزميله بمقابلة الشيخ على إنفراد وحكى كل منهما له أنه رأى مناما يتلخص فى أن وليا من الأولياء الصالحين (يلبس أبيض فى ابيض ) هبط على كل منهما وأمره أن يبلغ ذلك شيخ المسجد رسالة يأمره فيها بأن يقام له ضريح فى هذه القرية ، فلما سأله عن إسم صاحب الضريح فإذا بالولى فى المنام يصفع الرائى على قفاه ويقول " أنا الشيخ الأحباس يا ابن الكلب ". أفلح كل منهما فى حكاية المنام المزعوم للشيخ فبهت واستوثق منهما : هل ذكرنى الشيخ الأحباس بالإسم ؟ فأكد كلا منهما بأن الولى الشيخ الأحباس ذكره بالاسم ويأمره بالأسم،وعندها علا صوت الشيخ بالتكبير وصرخ: السمع والطاعة يا سيدى الأحباس "..
وتحولت الخدعة إلى حقيقة ..!!!
فالشيخ استخدم نفوذه فى القرية والمنطقة فجمع الأموال وأقام مسجدا وضريحا للشيخ " الأحباس " وصار مولد الشيخ الأحباس حقيقة واقعة ، ويحضرهذا المولد كبار المشايخ من وزارة الأوقاف والأزهر وكبار صغار الموظفين وصغار كبار الموظفين فى المحافظة،واتسعت شهرة الشيخ الأحباس كأحد الأولياء المشهورين الصالحين ذوى الكرامات ،وصدق الناس الكرامات التى يروونها عنه ،وأصبح ملعونا ذلك الذى يتشكك فى كرامات الشيخ الأحباس وسره (الباتع ) ، وأصبح شيخ المسجد إياه هو سادن الضريح والقائم على جميع النذور والقرابين من هبات وتبرعات نقدية وعينية .

4 ـ هذه الواقعة جعلت فرج فودة من البداية علمانيا رافضا لأى تدخل للدين فى السياسة وأخلص لهذا الموقف إلى نهاية حياته .
على النقيض كان موقف صديق فرج فودة الذى شاركه الخديعة ، ولكنه حين رأى أن الخديعة قد تحولت إلى واقع يدر الرزق الوفير دخل فى خدمة الشيخ وأصبح ساعده الأيمن فى خدمة الضريح ( سيدى الأحباس )، وبعد موت السادن الأكبرأصبح هذا الشاب هو السادن الأكبر للشيخ ( الأحباس ) وبالتالى أصبح العدو الأكبر فى القرية لصديقه القديم فرج فودة .
بعدها بعشرين عاما تقريبا أصبح فرج فودة المفكر العلمانى الأبرز فى مصر والذى يحظى بالتكفير والهجوم من الأخوان والأزهر والجماعات الأرهابية منذ أن أصدر كتابه الشهير (قبل السقوط )بينما كان زميله السابق قد تحول الى شيخ قوى النفوذ فى المنطقة يتقرب إليه الناس بتقبيل يديه وهو يجلس هانئا على أعتاب ضريح " سيدى الأحباس " يجمع النذور والقرابين.
حكى لى فرج فودة تلك القصة ضاحكا وهو يقول أن الذى لا يعلمه كل هؤلاء المتدينين أننى أنا الذى خلقت لهم ذلك الأله الذى يعبدونه، فكيف يطالبوننى بالإيمان بما صنعته مخيلتى .....!!"

5 ـ بعد إغتيال فرج فودة أراد أهله دفنه فى بلدتهم الأصلية، فوقف ضدهم ذلك الزميل القديم سادن وخادم ضريح الشيخ الأحباس ، رفض دفن فرج فودة فى البلدة بكل ما يملك من نفوذ وخسة ونذالة ...
إختار هذا الزميل موقفا هبط به إلى الحضيض،بينما إختار فرج فودة أن يصنع لنفسه مجدا. وسيظل أسم فرج فودة عاليا محترما ، أما زميله القديم فمصيره النسيان ،
فالحياة مواقف وكل إنسان حر فيما يختار، وعليه أن يتحمل مسئولية إختياره فى الدنيا..وفى الآخرة ...

اجمالي القراءات 23402