الشرك

محمود دويكات في الأربعاء ١٨ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

ذكر الله جل و علا عقاب (في الاخرة) قاتل النفس عدة مرات في القرءان الكريم و بشكل غير مسهب في حين نرى أن الله قد توسع و أسهب و أكثر التكرار في بيان العقاب الآخروي للمشرك به... و للقاريء الذي لا يؤمن بهذا الكتاب .. يرى (حسب ما هو مطروح ظاهريا لمعنى الاشراك) أن ذلك ليس منطقيا – فإذا قلنا أن الله لا يضره شيء (حتى الاشراك) في حين أن الانسان تضره زجاجة تجرح قدمه عندها نقف حائرين: لماذا أكثر الله من تكرار ووصف عذاب المشركين به أكثر بكثير مما ذكره في عقاب القاتلين و المجرمين؟

الحقيقة أن التبحر أكثر في فهم ليس معنى الاشراك و إنما تبعاته هو المفتاح وراء فهم الطبيعة الاجرامية لبعض الناس و بالتالي ستظهر لنا أن الاشراك من اهم مسببات الجريمة في المجتمعات.

الاشراك ببساطة هو اتخاذ إله مع الله .. فالاشراك لا يكون إلا إذا كان الانسان يؤمن بالله أولا و من ثم لاحقا يضيف الى قائمة ما يؤمن به آلهة أخرى. قال الله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ) بقرة/165 و الحب هنا مآله طاعة عمياء و الطاعة العمياء التي في القلب قد تصل لحد فعل الجرائم إرضاءا لتلك الالهة التي وجدت مستقرها في قلوب اولئك القوم ، و هذا واضح في قوله تعالى (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ )أنعام/137. و من أحد أهم الالهة التي توقر في قلوب الكثير من الناس هو هواهم (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) فرقان/43. و اتخاذ الهوى كاله يأمر و ينهى في القلب له خطور قصوى في كونه بعيد عن النقد و يبقى يعمل في الخفاء و هو بذلك يؤدي الى الظلم و الفساد  لذلك نفهم قوله (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)قصص/50. 

أن إله الهوى قد يطغى على العقل (التفكير) و الحواس و هذا من أخطر أنواع الشرك. وبما أن العقل و المنطق و التفكير السليم يرى أن لا كمال في هذه الدنيا (خلا النص الالهي و لكن ليس فهمنا له)! و أن عدد الحقائق المطلقة محدود في هذه الدنيا فإن اهم سمات متبع اله الهوى هو العناد و عدم القبول بالنقاش و احترام الرأي المخالف لرأيه ، لأنه ببساطه يعتبر نفسه (أو هواه) إله مع الله - فهو يرى أنه دائما على صواب - و بهذا يقول الله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)جاثية/23 . و من أروع القصص التي جاءت لتوضيح تلك النقطة ما ورد عن فرعون و قومه و لخصها القرءان في جملتين ، قوله (فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ «13» وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ «14»)نمل ، فهؤلاء القوم قد جاءهم دليل واضح دامغ مبصر على صدق الرسول و لكنهم شككوا في الامر! فقالوا هذا سحر مبين!! و لكن المصيبة أنه عندما تبين أنه ليس بسحر و اقتنع السحرة أنه الحق!! كان ردهم (فرعون و شلته) بان اتخذوا أهوائهم آله تأمرهم ، فجحدوا بتلك الايات و الادلة رغم استيقانهم بأنها الحق ـ واستكبر فرعون و جنوده بغير الحق و على اثر ذلك تم تسويغ ارتكاب الجرائم بالجملة ( وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ «127»)أعراف .. و الفساد الذي يتحدث عنه شلة فرعون إنما هو العمل على اجتثاث الهوى و إبطال تسليطه على الناس من جهة واحدة فقول فرعون (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ «26» )غافر جاء من باب خوفه على أن لا يتبع الناس الهه الذي هو في الاصل هواه الشخصي و هو نفسه الذي دفعه للتسلط على اولئك المستضعفين من الناس (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ )غافر/29.

الخلاصة أن الهوى (و خاصة عند المسؤولين ) هو من أهم و أخطر الالهة التي يتخذها الناس شريكا مع الله.. و بناء عليه يتم تحليل و تحريم ما تصبوا اليه الانفس و بالتالي اجتراء الكذب على الله (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ)نحل/116.
و بالمثل ، فإن ألهة اخرى يمكن ان تستقر في القلوب ، كمثل قوله(اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ)توبة/31 و الكل يعلم مدى العمى الذي أصاب معظم المسلمين هذه الايام في اتباع كلام البشر ممن يسمونهم علماء و تعطيل كلام رب العالمين نفسه. و نحن نرى مقدار المصائب التي ترتكب باسم الله و الدين و ما كان هذا ليحدث لو عرف الناس الحق وحده سبحانه! و لم يشركوا به ما يقوله لهم لا بن لادن و لا شاي لادن .
و من مثله أيضا المال و كيف أن المال قد يعمي القلب و يصنع في النفس نشوة امتلاك الدنيا – فالكل يعلم أن المال زينة الحياة الدنيا و بالتالي فإن استقرار حب المال في القلب كأنه إله يدفع صاحبه للبغي و الفساد بغية الحفاظ على ذلك المال و تجميع المزيد ، و من هذا المنظار نفهم قصة قارون الذي بلغ فساده مبلغا استدعى ان يخاطبه قومه في أن يراجع نفسه ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «76» وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ «77» )قصص. فلو كان هذا القارون مخلصا إيمانه بالله فقط لعلم أن المال إنما هو وسيلة تحقيق العيش الكريم له و لغيره و إنه ليس هدف بذاته . و لكنه إله المال في قلبه أعمى بصيرته و جعله فسادا من العيار الثقيل كحال الكثير من حكام المسلمين اليوم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


و كملخص فإن الرسالة الالهية تقوم بالاساس على اخلاص الدين و العقل و النفس و كل شيء لله وحده لا شريك له ، و أن يكون الله وجوده في القلب يملأ الفؤاد و بناء على ذلك يكون حبك لله رادعا لك عن فعل ما يضر بغيرك و بنفسك من باب أنك بذلك تغضبه سبحانه و تتنكر للكثير الكثير من النعم التي اسبغها عليك ظاهرة و باطنه ، و من هنا نقرأ قوله تعالى (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ «11» وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ «12» قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ «13» قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي «14» فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ «15» ) زمر.


و الله من وراء القصد

اجمالي القراءات 14823