خرافات الدين الأرضى : (3 )
الكيمياء تحولت بالدين الأرضى الى شعوذة

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠١ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


1 ـ أساس علم الكيمياء فى العصور الوسطى :

بدأت الكيمياء بحلم كبير,هو تحويل المعادن"الخسيسة" إلى ذهب نفيس .. وعجز الحكماء الكيميائيون عن تحقيق "الحلم" فتحول إلى "كابوس" فتولى الشيوخ عقد قران الكيمياء بالشعوذة, وأوهموا الناس, بإمكانية تحويل المعادن إلى ذهب ،ليس عن طريق التقطير والتصعيد والتجارب العملية, ولكن عن طريق "القوة النفسية".. أو الكرامات.. وهنا تحولت الكيمياء إلى شعوذة ووسيلة لأكل أموال الناس بالباطل .
يقول ابن خلدون في مقدمته المشهورة إن الكيميائيين الأوائل كانوا يبحثون كل المواد المستعدة للتحول إلى ذهب حتى لو كانت تلك المواد من الفضلات الحيوانية, ثم يحاولون تحليلها إلى أجزائها الطبيعية بالتصعيد والتقطير, ويزعمون أن هدفهم استخراج الأكسير منها .
ثم يلقون بالأكسير على الجسم المعدني المستعد لقبول صورة الذهب أو الفضة بعد أن يحمى بالنار, وعندئذ يتحول إلى معدن نفيس, فإذا كان نحاساً أصفر تحول إلى ذهب, وإذا كان رصاصاً تحول إلى فضة, ولهم في ذلك ألغاز ورموز.
ثم يقول ابن خلدون أن الكيمياء ليست لها ثمرة بهذا المفهوم, وتنشأ عنها مفاسد من انتحالها, وقد تحولت إلى طريقة سهلة يتحايل بها الطامعون على خداع الناس وأكل أموالهم, وخصوصاً أن اقتناء المال منها أصبح سهلاً ،نظراً لاعتقاد الناس في جدوى الكيمياء أو تحويل المعادن إلى ذهب .
إن عبقرية ابن خلدون في حديثه عن الكيمياء تتجلى هنا حين ربط بين انتحال الكيمياء وخداع الناس بها, وبين السحر وادعاء الخوارق والكرامات, وأن ذلك كله تدبير عقيم ومن سار فيه فقد أضاع ماله وأموال الناس.
باختصار .. هىّ شعوذة .

2 ـ تحول الكيمياء الى شعوذة عن طريق دين التصوف

والواقع أن العصر المملوكي حين سيطر عليه دين التصوف بخرافاته الدينية تحت مصطلح (الكرامات ) جعل من السهولة بمكان تحويل كل علم إلى شعوذة, حتى لو كان علماً حقيقاً مثل الكيمياء, صحيح أن منهج الحكماء السابقين كان خاطئاً في تركيز الكيمياء حول هدف مستحيل عليهم, وهو تحويل الأشياء إلى ذهب, ولكن هذا "الخطأ" تحول إلى "خطيئة" ببركة الشيوخ, الذين زعموا أن كراماتهم وخوارقهم تستطيع أن تفعل ما عجز عنه الحكماء, واستغلوا المناخ الذي سيطروا عليه بالتدين الزائف والاعتقاد في الخرافات, فأصبحت الكيمياء ــ ذلك العلم الحقيقي النافع ــ شعوذة دينية , بل وجعلوا الشعوذة تتمتع بالتقديس. وبالتدريج نسى الناس فى العصر المملوكى مفهوم الكيمياء المعملى ـ من تبخير و تقطير و تجارب على المواد ـ فاصبحت تعنى فقط الحصول على الذهب عن طريق الكرامات أساسا .

3 ـ أشهر شيوخ التصوف فى ادعاء معرفة الكيمياء:
من هنا : فإن إدعاء معرفة الكيمياء (تحويل المعادن إلى ذهب) نجده يصاحب أشهر الشيوخ الأولياء في العصر المملوكي.. وحتى إذا كان الشيخ المقدس لم يفعل ذلك فإن مريديه ينسبون إليه هذا الإدعاء ليضخموا من كراماته بعد موته..
* ابو الحسن الشاذلى يتبول ذهبا :
كتب الشيخ ابن عياد الشاذلي في العصر العثماني في مناقب الشيخ أبي الحسن الشاذلي كتاب "المفاخر العلية" بعد موت الشاذلي بأربعة قرون, وجعل من مفاخر الشاذلي ومناقبه أنه قال "لما كنت في ابتداء أمري أطلب علم الكيمياء, وأسأل الله فيها ، فقيل لي :الكيمياء في بولك, اجعل فيه ما تشاء يعود كما تشاء, فحميت فأساً, ثم طفيته في بولي, فأصبح ذهباً .
وهذه طريقة جديدة (وغير نظيفة) في تحويل الفأس إلى ذهب.
ولكن الأعجب أن مؤرخاً آخر في الطريقة الشاذلية, يؤكد على هذه الطريقة العجيبة وينسبها للشيخ أبي الحسن الشاذلي, وهذا المؤرخ هو الشيخ أبو الصلاح الصعيدي الشاذلي, المشهور بإبن محسن, وقد أتم كتابه المشهور لدى الطريقة الشاذلية سنة (1110هـ) وعنوانه, "تعطير الأنفاس بمناقب أبي الحسن وأبي العباس" ويروي فيه أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي كان يقول "كنت أطلب الكيمياء, فقيل لي : الكيمياء في بولك"!!
أبو العباس المرسى أم أبو لمعة ؟
في نفس الكتاب "تعطير الأنفاس" يقول أبو العباس المرسي "صاحب الضريح المشهور في الإسكندرية":"ماذا أصنع بالكيمياء؟ والله لقد صحبت أقواماً يعبر أحدهم على الشجرة اليابسة فيشير إليها فتثمر رُمِّاناً ، فمن صحِبَ هؤُلاء الرجال ماذا يصنع بالكيمياء؟".
ونفس هذا القول ذكره ابن عطاء السكندري التلميذ المباشر لأبي العباس المرسي في كتابه "لطائف المنن" .
وهذا القول من أبي العباس المرسي يدل على ضيقه من كثرة إدعاءات الشيوخ بتحويل الأشياء إلى ذهب, فحاول أن يزايد عليهم بهذه الأكذوبة العريضة التى تجعلنا نتحسر على ايام (ابو لمعة ) أشهر كوميديان مصرى تخصص فى الكذب أو (الفشر ) باللهجة المصرية.!

4 ـ تناقض الشعرانى بين النفى والاثبات :

هذه الكثرة من الشيوخ الدجالين تضاعفت بمرور الزمن وبالمزيد من سطوة الاعتقاد في الخرافات, حتى أن الشيخ الشعراني في القرن العاشر قد أفتى في كتابه "لطائف المنن ــ الكبرى" بأنه من زعم من "المتصوفة الفاسقين" بأنه يعرف علم الكيمياء فهو كافر, وكان يزجر أصحابه الذين يشتغلون بالكيمياء ويقول لهم "كيمياء الفقراء ــ أي الصوفية ــ هو أن يعطيهم الله تعالى حرف : كن " أي يقول للصفيح ــ مثلاً ــ كن ذهباً فيكون ذهباً .. أي أن الشعراني أراد أن يكحلها .. فعماها .
* الشيخ أحمد الزاهد يرمى الذهب فى المجارى .!!
ذلك لأن الشيخ الشعراني نفسه في كتابه "الطبقات الكبرى" في الجزء الثاني منه الذي يحكي فيه تاريخ الشيوخ الصوفية المشهورين في عهده, يفخر بشيخه الشيخ أحمد الزاهد, وكيف أنه تعلم الكيمياء وصنع منها خمسة قناطير ذهباً,( ثم نظر إليها وقال أفٍ للدنيا, ثم رماها في مجاري مسجده.)
ومطلوب منا أن نصدق هذه الكرامة, ولن نصدقها, ولكن عصر الشعراني صدقها وأطلق على الشيخ أحمد لقب "الزاهد" بسبب شيوع هذه الأسطورة عنه.
وفي اعتقاد الشعراني أن شيخه أحمد الزاهد قد أعطاه الله حرف "كن" فكانت الأشياء تتحول على يديه إلى قناطير من الذهب واشتهر بالكيمياء.
وليس ذلك عيباً عند الشعراني أن يوصف شيخه أحمد الزاهد بالكيمياء, ولكن معاصريه ومنافسيه من الشيوخ الذين يدعون نفس إدعاءات الشيخ محمد الزاهد يستحقون عند الشعراني الإتهام بالكفر.. والسبب أنهم منافسون للشعراني وأكثر استحواذاً على المريدين منه بسبب ادعاءاتهم الكيمياوية, أما الشيخ أحمد الزاهد.. فهو شيخ جليل للشعراني .. والفارق هائل بين ذلك وهؤلاء .

5 ـ المريد يحاول تعلم الكيمياء الذهبية على يد شيخه

نعود لأبي الحسن الشاذلي في القرن السابع الهجري ونقرأ ما كتبه عنه تلميذه ابن عطاء السكندري في تأكيد صلة الشاذلي بالكيمياء, يقول عنه في لطائف المنن،( وهذا الكتاب بالمناسبة مطبوع ومنشور بعناية الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق) : " قال الشاذلي : صحبني إنسان .. فقلت له يا ولدي ما حاجتك؟ قال: يا سيدي قيل لي أنك تعلم الكيمياء, فصحبتك لأتعلم منك"!!
أى ان هذا المريد صحب الشيخ الشاذلى كى يتعلم على يديه علم الكيمياء ويحصل على الذهب، وربما كان ينتظر ان يتبول الشيخ الشاذلى على شىء فيتحول ذهبا فيسرقه ذلك المريد ، وربما كان يريد سرقة البول الذهبى ذاته ..
لكن الغريب في الشيوخ الشاذلية هو اشتهار بعضهم بأسطورة الكيمياء, والشيخ شمس الدين الحنفي ــ صاحب مسجد وضريح الحنفي المشهور حتى الآن في حى عابدين بالقاهرة ــ اشتهر بكراماته وجولاته في الكيمياء, وهذا ما تردد في كتاب "السر الصفي في مناقب الحنفي" الذي يعدد مناقبه, وقد نقل عنه الشعراني في تأريخه للشيخ شمس الدين الحنفي في كتاب " الطبقات الكبرى" أن رجلاً جاء إلى الشيخ الحنفي ليعلمه الكيمياء لأنه "فقير وصاحب عيال" .
أي يحتاج "كام قنطار من الذهب .. على ما قسم" ..!!
والشيخ الشعراني فقيه الصوفية في القرن العاشر الهجري يحكي عن نفسه في كتابه الضخم ( لطائف المنن ــ الكبرى ), وهو كتاب منشور, كيف أن أحد الأولياء الصوفية صار تابعاً له يخدمه على أمل أن يتعلم من الشعراني علم الكيمياء, ثم بعد أن استخدمه الشعراني طويلاً قال له :"هيهات, كيف أعلمك شيئاً يشغلك عن الله تعالى" وأخذ الشيخ الصوفي يقسم على الشعراني أن يعلمه الكيمياء, والشعراني يرفض إلى أن قال له الشعراني أخيراً "يا شيخ محمد إن شهرتك في الزهد , وأنت تحب الدنيا"!!
بعنى ان الشعرانى استخدم ذلك المريد واستغله واستنفذ حيويته ثم فى النهاية طرده ..
وافتخر الشعراني بأنه "لا ينصب على الناس" ويوهمهم بأنه يعرف علم الكيمياء كما يفعل الشيوخ الأعاجم الوافدون إلى مصر, والذين يستجلبون لهم خلائق لا تحصى من أولاد الأعيان بزعم أنهم يجعلون الرصاص ذهباً, حتى أن كثيراً من الناس تركوا أعمالهم ووظائفهم وصاروا شيوخاً, وكل واحد منهم يجعل له "عذبة" في عمامته ويلبس "جبة بيضاء" !!
وكان من السهل أن يشاع على بعض الشيوخ معرفته بعلم الكيمياء حتى يتقاطر عليه الناس طلباً للذهب, وحدث هذا مع الشيخ بدر الدين النوري, الذي كان يخدمه جمع من الأمراء المماليك على رأسهم الأمير تغري بردي, على أمل أن يتعلموا منه علم الكيمياء.

6 ـ الهوس بعلم الكيمياء:
وفى الوقت الذى كانت تكتشف فيه أوربا العالم الجديد وتنقل كنوز الأزتك و المايا كان المسلمون مهووسين بالكيمياء ـ أى بالشعوذة بالكيمياء للحصول على الذهب بأيسر طريق بلا أزتك بلا أمريكا الشمالية و الوسطى و الجنوبية أيضا..!
وكان الشيوخ الصوفية الكبارـ بل وبعض الفقهاء المشهورين ـ أئمة لهذا الهوس الكيميائى.
لهذا لا تعجب أن تستحوذ هذه الشعوذة "الكيماوية" على عقول كثير من الشيوخ مثل الشيخ منهم : ابن عبدالرحمن المطري المتوفي سنة 822هـ والشيخ ابن الجابي الواعظ الذي كان مهووساً بعلم الكيمياء,بل إن الفقيه المشهور ابن دقيق العيد, وكان أيضاً مهووساً بعلم الكيمياء معتقداً بصحتها, وذلك ما ذكره عنه المؤرخ العيني صاحب تاريخ " عقد الجمان" .

7 ـ إضاعة الأموال طلبا للكيمياء الذهبية
وأولئك المهووسون بالكيمياء أضاعوا عليها حياتهم وأموالهم, وصارت لهم نوعاً من الإدمان, يظل ينفق عليها أمواله ولديه أمل عميق في أنه سيصل إلى الذهب, ويقوي هذا الأمل اعتقاده الديني "الباطل" في الوصول إلى "اسم الله الأعظم" أو حرف "كن" الذي يستطيع به وبقوته النفسية والروحية أن يحول الأشياء إلى ذهب, وربما يقرن رياضاته الروحية وأذكاره وأوراده ببعض التقطير والأعمال المعملية.. وفي النهاية يموت مفلساً ..
وأولئك كانوا كثيرين إلى درجة أن اهتم المؤرخون بهذه الظاهرة فسجلوها, وكتبوا عن بعض المدمنين من أصحابها ..
ونأخذ بعض الأمثلة التاريخية .
فالشيخ منصور الجنابي كان أكثر ما يحصل عليه من أموال يصرفه في عمل الكيمياء .
والشيخ الطيبرسي المتوفي سنة 800هـ إمام وشيخ الجامع الطيبرسي افتتن بصناعة الكيمياء, فأضاع عمره وماله فيها, ولم يحصل على طائل .
وانشغل الشيخ ابن الأبله المتوفي سنة 886هـ بالكيمياء, فكان ينفق عليها ما يحصل عليه من عرقه وكد يمينه حتى يصير فقيراً مملقاً , وكثيراً ما لاموه على ذلك وهو لا "يكف" .
والشيخ علي الإسكندراني المتوفي سنة 802هـ كان أشهرهم في المصادر التاريخية, فقد أفنى عمره في الكيمياء "تصعيداً وتقطيراً ،ولم يصعد معه شيء".
وإذا تركنا المصادر التاريخية إلى المصادر الصوفية وجدنا الشعراني يقول في "لطائف المنن ـ الكبرى " أن جماعة من الصوفية وطلبة العلم باعوا كتبهم وأمتعتهم في طلب علم الكيمياء, " وكانت عاقبتهم الحرمان".

8 ـ تفسير غنى الشخص بنجاحه فى الحصول على الذهب من الكيمياء
ومع ذلك فقد ظل الاعتقاد في جدوى الكيمياء راسخاً, لارتباطه بالخرافة المقدسة في عقول الناس, أو ما تبقى من عقولهم.. فكان الناس على الاستعداد للتصديق بأي خبر أو شائعة أو أسطورة عن شيخ تحول النحاس على يديه إلى ذهب, لأن هذه الشائعات ارتبطت بالاعتقاد في الكرامات وأساطير الخوارق للشيوخ المقدسين..
ومع أن التجربة العملية لم تشهد نجاحاً أو تأييداً لتلك الكرامات المزعومة فإن الناس وجدوا متنفساً لهم في أشياء أخرى,فإذا هبطت ثروة على شخص ما, كان التفسير المناسب أنه يعرف علم الكيمياء, فالخواجة بن القبيش شرع في بناء زاويته في البرلس, فقال أعداؤه أن هذا المصروف العظيم على الزاوية إنما هو من الكيمياء.. ومات التاجر الثري ناصر الدين الكرمي سنة776هـ وترك أموالاً كثيرة فقال عنه المؤرخ أبو المحاسن إن كثرة أمواله ترجع إلى عمل الكيمياء.والشيخ ابن سلطان عاش في رغد من العيش دون أن تكون له وظيفة, فاتهمه بعض الناس بمعرفة الكيمياء.

9 ـ التحايل والدجل بالكيمياء وقد اتخذ بعض الشيوخ من الكيمياء وسيلة للتحايل على البسطاء من الناس وأكل أموالهم بحجة تحويل الأشياء إلى ذهب وفضة.
ففي حوادث سنة 872هـ ذكر البقاعي في تاريخه أن الشيخ أحمد المكناسي أتلف أموال بعض الناس وعمل له قرصاً ادعى أنه فضة, فما كان من الأمير يشبك إلا أن أمر بضرب الشيخ المكناسي وتجريسه في شوارع القاهرة ، وحدث ذلك أيضاً مع ابن حمادة.
ومن الطبيعي أن المراجع التاريخية لا تذكر إلا من ظهر أمره وشكاه الناس إلى أولي الأمر فتعرض للضرب والتشهير أوالتجريس ، أما ما ساد وانتشر بين الناس فلم يلفت انتباه المؤرخين ولم يسجلوه .

على أن بعض الشيوخ لم يكتف بالتحايل على البسطاء, وإنما تطور إلى خداع السلاطين, فأوسعت له المصادر التاريخية صفحاتها.
من أشهرهم الشيخ يوسف الكيماوي, المتوفي في عام 731هـ ، وقد اشتهر بالكيمياء فطلبه السلطان الناصر محمد بن قلاوون, وأحضر له الأدوات وجميع المستلزمات,مع الكتب والعزلة الكافية, وخرج من خلوته وأعطى السلطان سبيكة جيدة, فانخدع به الناصر محمد وجعله من أصفيائه, إلا أن حيلته انكشفت سريعاً, وتمكن من الفرار, وطاردته السلطات المملوكية حتى عثرت عليه, وانتهت حياته حياة مأسوية, إذ أمر السلطان بتسميره فوق جمل,ظل يطوف به شوارع القاهرة إلى أن مات, وذلك عام 731هـ .
وتكررت الحادثة عام 852هـ أيام السلطان جقمق.
ولولا أنها مذكورة في كتب التاريخ المملوكي لأمكن القول أنها أقرب للأفلام الميلودرامية المصرية التى اشتهر باخراجها الراحل حسن الامام ، ولكن هذه القصة التاريخية ذكرها المؤرخ أبو المحاسن في كتابه "حوادث الدهور" بالتفصيل, وذكرها المؤرخ السخاوي بنفس التفصيل في كتابه "التبر المسبوك".
موجز هذه القصة التاريخية أن الشيخ أسد الكيماوي جاء للقاهرة يدعي النسب الشريف ولقب "الشريف الأعجمي" ويدعي العلم بالكيمياء, ويتوق إلى خداع المصريين البسطاء.. وكان أشهر ضحية له هو التاجر الثري ابن الشمسي, وقد أخذ الشيخ يستنزف أموال التاجر شيئاً فشيئاً على أعماله الكيماوية السحرية الذهبية, ويوهمه بقرب الفوز,ولكن زوجة التاجر أصابها القلق وهىّ ترى أموال زوجها تتبخر, وهو لا يزداد إلا تقديساً للشيخ الدجال, فأخذت الزوجة تحرض زوجها ضد الشيخ, وتقول له: إذا كان يعرف الكيمياء فلماذا يحتاج إليك وإلى غيرك, فما كان من الشيخ إلا أن استخدم نفوذه وسيطرته على الزوج فجعله يطلق زوجته.
وعن طريق الزوج التاجر ابن الشمسى تمكن الشيخ أسد الكيماوى من التعرف على الأمير المملوكي محتسب القاهرة واسمه "يار علي العجمي"( والمحتسب هو المشرف على الأسواق والمكاييل والموازين في ذلك الوقت) وكان "يار علي" محتسب القاهرة مشهوراً بفساده, وسرعان ما أصبح المحتسب الفاسد صديقاً للشيخ النصاب.
وبعد قليل أفلس التاجر ابن الشمسي على يد الشيخ, فذهب يشكو الشيخ أسد الكيماوى عند السلطان الظاهر جقمق. وكان السلطان تأتيه أخبار الشيخ عن طريق المحتسب صديق الشيخ ، مما جعل السلطان يؤمن بالشيخ ومقدرته, ولذلك اهتم السلطان جقمق بأن يحقق فى الموضوع بنفسه بين التاجر والشيخ, وانتصر للشيخ, وطرد التاجر.
واحتل الشيخ أسد الكيماوى مكانة هامة بين حاشية السلطان, واستغل الشيخ هذه المكانة في تحريض السلطان على التاجرابن الشمسي, فأمر السلطان بنفي التاجر.
وتوثقت علاقة السلطان بالشيخ أسد الكيماوي, وطلب منه السلطان أن يحول له المعادن إلى ذهب, وأعطاه ما طلب من الأموال, ووضع عليه الحراسة. وتبددت أموال كثيرة للسلطان, وفي النهاية أدرك السلطان الحقيقة, فاعتقل الشيخ أسد الكيماوى وشريكه "يار علي المحتسب" في سجن المقشرة أفظع سجون العصر المملوكي .

10 ـ الكيمياء وتزييف العملة الذهبية : بين الكيمياء والزغل :


إلا أن التحايل "بالكيمياء" وصل إلى منطقة الألغام .. وصل إلى محاولات تزييف الذهب, أو "الزغل" ..و"الزغل" هو تزييف الذهب.
وهو مجال اقتحمه شيوخ الدجل الذين تخصصوا في الكيمياء, ثم آثروا أن يتلاعبوا بالعملات النقدية الذهبية, ليتحول الأمر من كرامة أو خرافة مسموح بها إلى جريمة تطاردها الدولة المملوكية .
كان يحدث أن يقال أنه "دخل الزغل في الذهب كثيراً" علامة على كثرة التزييف, وذلك ما ذكره المؤرخ العيني في أحداث عام 813هـ , ولذلك كانت السلطات المملوكية تطارد الشيوخ المتهمين وتقبض عليهم بتهمة الزغل، ففي سنة 827هـ يذكر المؤرخ ابن حجر في تاريخه " إنباء الغمر" أنهم اعتقلوا أحد شيوخ الخانقاه المؤيدية ،ووجدوا عنده آلات التزييف (آلات الزغل) فأمر السلطان بقطع يده, ولأنه شيخ فقد تشفع فيه الشيوخ عند السلطان فخفف الحكم عليه إلى الضرب ضرباً مبرحاً والسجن .
وبعض القضاة وصل للوزارة مثل الشيخ ناصر الدين الشيمي, الذي عزله عن الوزارة السلطان الناصر فرج, وصادر أمواله, والسبب أنه " ظهر عنده من يعمل الزغل ويخرجه على الناس" أي يقوم بتزييف العملة الذهبية وينشرها في الأسواق .
والشيخ "يار علي " المحتسب الذي تعرضنا له كان يكره غريمه الشيخ قوام الدين العجمي, وكان الشيخ قوام الدين هذا مقرباً من السلطان جقمق إلى درجة أن جعله السلطان شيخاً لشيوخ خانقاه سرياقوس, وكانت أعظم مؤسسة دينية في ذلك الوقت, لا يصل الأزهر إلى نصف مكانتها.. وفكر المحتسب "يار علي" في مكيدة للشيخ قوام الدين, فقام بدس أدوات الزغل في حجرة الشيخ بالخانقاه, واتهمه عند السلطان بتزييف الذهب, فاضطر السلطان إلى ضرب الشيخ وحبسه, وضاع الشيخ المظلوم .
وتكونت عصابات من شيوخ الزغل في أيام الاضطرابات الاقتصادية, وحيث يضطر السلطان لإصدار مسكوكات جديدة من الدنانير الذهبية, ولها تسعيرات جديدة .. ونقرأ في تاريخ عام 862هـ أن الشيوخ الزغلية تكاثرت فصار السلطان يقطع أيدي الزغلية, أو يأمر بتوسيطهم, والتوسيط هو قطع الانسان نصفين, فارتعب الشيوخ "وأصلحت أحوال المعاملة بعد جهد كبير" على حد قول المؤرخ ابن إياس, وذلك بسبب إقدام السلطان على "توسيط" الزغلية, أي قطعهم نصفين!! حسب الشريعة المملوكية.
وهدأت الأمور .. ولكن عاد الشيوخ للزغل ..
ففي عام 889هـ تعرض الشيخ اسماعيل البنتيتي لعقوبة هائلة بسبب الكيمياء والزغل, وتألم بسببه الكثيرون حسب رواية السخاوي في كتابه "الضوء اللامع", إذ كان الشيخ اسماعيل محبوباً من الناس ومدمناً للكيمياء وملحقاتها .
وفي عام 911هـ كانت حادثة الشيخ المشهور سنطباي, وقد ذكرها إثنان من أصحابه المؤرخين, وهما إبن إياس والغزي .
يقول إبن إياس أن الشيخ سنطباي أقام بالمدرسة السنقرية, فاتهموه عند السلطان الغوري بعمل الزغل, ووجدوا عنده الآلات والأعوان من الطلبة والمريدين,فأمر الغوري بقطع أيديهم, ولكن قام الشيوخ بالتشفع في سنطباي أمام الغوري ،فاكتفى بنفيه من مصر إلى القدس .
ويضيف المؤرخ الغزي في تاريخه "الكواكب السائرة" تفصيلات جديدة, فقد ضبطوا عند الشيخ سنطباي خمسين رطلاً من العملات الذهبية المزورة, وأن الشيخ سنطباي وأعوانه من المشايخ تعرضوا لضرب مبرح بين يدي السلطان الغوري, وأن الذي شفع في الشيخ سنطباي كان الأمير قرقماس أتابك العسكر, أي قائد الجيش, وأن السلطان الغوري قال للشيخ سنطباي:"إنك تدعي أنك الصوفي المسلك ـ أي الذي تعطي العهود للناس ـ وأنت زوكاري شيطان, اخرج من مملكتي" ..!!
وفي سنة 915هـ هرب الشيخ جمال الدين الزغلي من سجن المقشرة, وقد استحق هذا اللقب "الزغلي" لأنه قام بأكبر عملية تزييف للعملة, واستغل مهنته في سك العملات في عمل التزييف داخل العملات الذهبية, وقال عنه إبن إياس :"فأتلف سائر المعاملة من الذهب والفضة , وظهر بها الزغل كالشمس حتى ضج من ذلك سائر الناس والأمراء, فقبض عليه السلطان وسجنه، فهرب" ثم قبضوا عليه بعدها وشنقوه مع خمسة من أعوانه.. وقبضوا على آخرين وشنقوهم على باب زويلة .. بنفس التهمة .
وتأثر العصر المملوكي بذلك الفساد الذي أقامه الشيوخ الزغلية في العملة النقدية, فقال المثل الشعبي المملوكي "ما تنقدوهم . كلهم زغلية" أي لاتعاملوهم بالنقد لأنهم يزيفون النقد .. وبعدها قال المثل الشعبي المصري ساخراً "زبون العتمة فلوسه زغل" وفعلاً كان العصر المملوكي عصر الخرافة والظلام والعتمة .. لذا تكاثر شيوخ الدجل يتلاعبون بالعقول وبالأموال ..

هذا بينما كانت اوربا تكتشف وتستعمر العالم الجديد وتجلب منه الذهب الحقيقى ، ثم التفت الغرب الى العرب والمسلمين الغائبين فى خرافات أديانهم الأرضية فاستعبدوهم .. ولا يزال المسلمون أسرى للخرافات قبل أن يكونوا أسرى للغرب..

11ـ ولهذا نحتاج إلى التنويرالديني..أليس كذلك؟
ولكن من اين يأتى التنوير؟ ومن هم أهل التنوير الحقيقيون ؟
عن النور القرآنى يقول ربى جل وعلا عن القرآن العزيز : (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( المائدة 15 : 16 )
وعن من يتمسك بالنور القرآن يقول تعالى (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( الأنعام 122 ).
هذا هو الفارق بين أتباع القرآن و أتباع الشيطان ..

اجمالي القراءات 20824