السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط بين الهرشمة و المرشلة

آحمد صبحي منصور في السبت ٢٤ - مايو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :
1 ـــ تحليل السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط ( الكبير ) يوضح أنها تتأرجح بين نظرتين :
الأولى: ما يمكن تسميته بالهرشمة – نسبة إلى هيروشيما - ، والثانية المرشلة نسبة إلى مشروع مارشال الذى أنقذ أوربا وألمانيا بالذات بعد الحرب العالمية الثانية .
هى نفس السياسة الأمريكية فى الحرب العالمية الثانية تتأرجح أمريكا فى تطبيق أحدهما فى الشرق الأوسط بعد أحداث 11 سبتمبر .
2 ـــ عاقبت أمريكا اليابان التى بدأت بتحطيم الأسطول الأمريكى فى بيرل هاربر بأن أنهت الحرب العالمية الثانية والعسكرية اليابانية بأول إستعمال للقنبلة الذرية فى تدمير كلى لهيروشيما وجزئى فى نجازاكى .
بعدها استسلمت اليابان للإحتلال الأمريكى وللشروط الأمريكية وتخلت عن مشروعها العسكرى وطموحها التوسعى الأقليمى وتراثها الحربى وفكرها الإقطاعى ، وامتزجت بالثقافة الأمريكية ولو جزئيا ، وانتهى جيل محارب ساموراى يابانى شرس وحل محله جيل يابانى متأمرك نوعا ما مؤمن بالديمقراطية.
بهذا التحول (أو الهرشمة)أصبحت اليابان قلعة إقتصادية وتابعا وحليفا لأمريكا.
3 ـــ نقطة التحول كانت القنبلة الذرية ،ولولاها لطال أمد الحرب بين اليابان وأمريكا ولاستعصى على الأمريكان غزو الجزر اليابانية خصوصا وأن اليابانيين وقتها كانت تحكمهم عقيدة الإنتحار دفاعا عن الوطن وعن الأمبراطور المعبود ، وشعب مقاتل بهذه الشراسة وذلك العناد لا يمكن أن يستسلم جيشه بسهولة، ولقد قاست أمريكا الكثير فى زحزحة جيوش اليابان من مستعمراتها الأسيوية ،وكان مستحيلا غزو جزر اليابان نفسها إلا بالتضحية بمئات الآلاف من الجنود الأمريكين ، وهو ثمن لا يمكن أن يقبله الشعب الأمريكى ، فكان إستعمال القنبلة النووية لإنهاء الحرب بسرعة ولإنقاذ حياة ألوف الجنود الأمريكيين ولو بحرق مئات الألوف من المدنيين اليابانيين.
4 ـ ومع وجود الكثير من الإختلافات بين الموقف الأمريكى اليابانى فى الحرب العالمية الثانية ، والموقف العربى الأمريكى فى الحادى عشر من سبتمبر ، فإن هناك بعض التشابه ،أساسه أن اليابان هى التى بدأت بالإعتداء فى بيرل هاربر ، وأن قاعدة ابن لادن هى التى بدأت بالإعتداء بتفجير برجى نيويورك،وأن العقيدة القتالية للمعتدى هنا وهناك هى الإنتحار .
لذا يرى المتشددون الأمريكيون أن الوسيلة المثلى لاصلاح الشرق الأوسط الكبير هى الهرشمة،أى إبادة الجيل الشرس الميئوس من إصلاحه بنفس ما حدث مع اليابان ليحل محله جيل قابل للاصلاح.
من الطبيعى ألا تستخدم أمريكا القنبلة الذرية حرفيا كما فعلت فى هيروشيما، ولكنها قنبلة من نوع أخر لها نفس التأثير ، أطلق عليها المحافظون الجدد – حكام أمريكا الآن – الفوضى الخلاّقة .
5 ـ هناك فارق بين قنبلة هيروشيما والفوضى الخلاّقة أن الأولى قنبلة عسكرية مادية تسقط من الفضاء آتية من الخارج فتحصد سريعا حياة مئات الألوف وتترك غيرهم يموتون تدريجيا خلال عقود من الزمان، أما قنبلة الفوضى الخلاّقة فهى قنبلة سياسية فكرية تنبع من الداخل وتتحرك وتتسع ببطء وثبات لتأكل الأخضر واليابس إلى أن تنتهى بزوال الدولة وحلول الفوضى وتقاتل طوائف الشعب ، إلى أن ينتهى هذا الجيل ويأتى جيل آخر، لا نعرف هل سيكون صالحا مثل جيل اليابان أو طالحا مثل طالبان.
هناك فارق أيضا هو بين اليابان والمسلمين .
اليابان الوثنيةالإقطاعية نهضت وصارت أقوى دول الشرق الأقصى ،ثم توسعت بالتحالف مع النازى، ولم تنهزم إلا بالقنبلة الذرية، ثم نهضت اليابان من بين أطلال وخراب الحرب العالمية الثانية وظهرت زعيمة للإقتصاد الحر وفاعلا مؤسسا فى التقدم التكنولوجى والحضارة الراهنة والسلام العالمى .
وفى كل الأحوال فاليابان لا تزال تحتفظ بعقيدتها الوثنية إلا إنها قبل وبعد الحرب العالمية الثانية تفصل بين الدين والسياسة . بهذا نجحت اليابان ولم تستطع أمريكا إيقافها بتفجيرها من الداخل فأضطرت لاسقاط القنبلة الذرية عليها من الفضاء .
بدأت اليابان نهضتها الإقتصادية مع بداية النهضة المصرية الحديثة فيما بين القرنين 19 ، 20 . ورغم تدميرها فى الحرب العالمية الثانية فقد استمرت اليابان فى نهضتها من البداية حتى الأن ، وهى الأن فى مستوى الدول الكبرى ..
مصر كان أستاذة اليابان فى بداية النهضة الحديثة ، وعرفت قبل اليابان إنشاء أول مجلس نيابى ، وأول صحف حرة – جزئيا – وكان الأمام محمد عبده فى أواخر القرن 19 يدعو إلى قيام حزب علمانى وضع له دستورا نتمنى الوصول لمثيلة اليوم . ولم تتدمر مصر بالحرب العالمية الثانية كما حصل لليابان، ولكن أنتهى الحال بمصر اليوم وهى فى القاع فى كل شىء بينما تتربع اليابان فى القمة.
مصر التى كانت تسبق اليابان منذ قرن ونصف القرن أصبحت تتقدمها فى الديمقراطية دول أفريقية تم تصنيعها حديثا مثل موريتانيا وكينيا وزيمبابوى. واصبحت تتزعمها إمارة قطر .!! ( مع الدعاء بطول العمر للرئيس مبارك )
6 ـــ لقد صودرت الحركة التنويرية السياسية الدينية التى بدأها الأمام محمد عبده ومدرسته ، ومنها سعد زغلول فى السياسة وعلى ومصطفى عبدالرزاق وطه حسين وغيرهم من أئمة الفكر الدينى التنويرى .
عوامل كثيرة أدت لهذه المصادرة أهمها إقامة الدولة السعودية الثالثة فى الجزيرة العربية على يد ابن سعود ( عبدالعزيز بن عبدالرحمن ) وهو الذى أنشأ حركة الأخوان المسلمين عن طريق خادمه الشيخ محمد رشيد رضا ، الذى كان تلميذا للإمام محمد عبده وانقلب عليه وعلى تجربة شيخه الإصلاحية وعمل على نشر الوهابية ومنظماتها وكان آخرها الأخوان المسلمين.وبهذا الخلط بين الدين الأرضى الوهابى السنى المتخلف وبين السياسة وبالسعى إلى إقامة حكم سياسى بتلك المرجعية الدينية الأرضية الوثنية تجذرت فى مصر عوامل التخلف ، ومنها انطلقت مع حركة الأخوان والوهابية إلى بلاد المسلمين تنشر الفتن والدماء والإنقسامات. وانتهى الحال بالعرب والمسلمين وهم يتناقشون ويتخاصمون حول حديث رضاعة الكبير والتبرك ببول النبى محمد والتداوى ببول الإبل بينما يحتدم التنافس داخل اليابان حول إختراع أسرع قطار وأفضل سيارة وأرخص تكنولوجيا.
7 ـــ لذا يرى المحافظون الجدد فى أمريكا أنه لا أمل فى إصلاح هذا الجيل من العرب والمسلمين ، وأن إستمراره سيضيع مستقبل الجيل القادم ، وأن الحل هو فى تدمير هذا الجيل المصاب بسرطان الوهابية والأثناعشرية الشيعية ليتسع المجال لجيل آخر يعيش هذا العصر ، ولا يعيش فى عقلية العصور الوسطى .
ويرى المحافظون الجدد كيفية التدمير تكون بتهيئة الفرصة لعوامل الفناء داخل العرب والمسلمين لكى تدمرهم ، ولكن مع السيطرة عليها لتكون فوضى محسوبة ، وبهذا تكون فوضى خلاّقة ينتج عنها خلق جيل جديد محل جيل فاسد موبوء.
أمريكا لم تخترع الوهابية ولكن ساعدتها ،ولم تخترع النظم الديكتاتورية العسكرية فى بالد المسلمين ولكنها آزرتها ، بل أن أمريكا قد أسهمت فى صنع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وخلقت منها " عدوا " لها كما قلنا فى التسعينيات فى مقال بعنوان " إصنع عدوك ".
8 ـــ ولنأخذ العرقا نموذجا ...
أمريكا لم تخلق حزب البعث ولكنها ساعدت صدام حسين فى حربه ضد إيران وسكتت مؤقتا عن إحتلال الكويت ثم بعد أن أوقعته فى الفخ جاءت للمنطقة لتزيدها خرابا وفوضى .كان يمكن طرد صدام حسين من العراق والحفاظ على العراق متماسكا كدولة تحت قيادة حكومة مؤقته يحميها الجيش العراقى لاقامة إصلاح تشريعي فى العراق يؤسس حكما ديمقراطيا يستفيد من التنوع العرقى والديني والمذهبى فى العراق بما يحقق تجربة ديمقراطية فريدة . وهناك ملايين من المثقفين العراقيين فى المنفى ،وهم ثروته الحقيقية ، وبها يستطيع العراق أن يتعافى من قهر الديكتاتوريات السابقة ، وينهض.
ولكن الذى حدث هو العكس تماما .
فبعد غزو العراق تم تسريح الجيش العراقى وترك أفراده وأسلحته تتسرب داخل الشعب العراقى فى وقت غاية فى الصعوبة وشديد الحساسية حين انهار بسرعة غير متوقعة النظام العاتى المتجبر، ورأى العراقيون أنفسهم أحرارا ومعهم السلاح. بين عشية أو ضحاها تحول أفراد الجيش العراقى الى مدنيين ومعهم أسلحة ، وليس هناك دولة ، وليس هناك قانون بل طوائف مختلفة ومتعادية لكل منها ارتباطات بدول الجوار التى لا تريد للعراق ان يكون قويا لأن قوته ضد مصالحها ، أى تحول الجيش العراقى رمز وحدة العراق إلى ميلشيات طائفية ونصف طائفية تقتل وتقاتل بعضها البعض ، وانفتحت حدود العراق أمام القاعدة ليتاح لأمريكا تصيد أتباع القاعدة ، فأصبح العراق مسرحا واقعيا للمجازر الأهلية اليومية ، ونموذجا للفوضى الخلاقة التى تتم فى حماية الجيش الأمريكى .
وفى نفس الوقت يتم تجهيز لبنان لنفس المصير ، ومعه سوريا ومصر والسودان وباكستان وأفغانستان ..الخ ..
هذه هى رؤية المحافظين الجدد فى الهرشمة ، هرشمة بلاد العرب والمسلمين .
9 ـــ النظرة الأمريكية الأخرى هى المرشلة . نسبة لمشروع نظام مارشال فى مساعدة ألمانيا وأوربا بعد الحرب العالمية الثانية .
وتقوم هذه النظرية على مساعدة هذا الجيل العربى المسلم على أن يصلح نفسه بنفسه وفق ثقافة الديمقراطية بإستغلال سلاح المعونة الأمريكية للحد من تحكم الإستبداد العربى ، ومحاولة إصلاح نظام التعليم ليتطهر من الفكر الوهابى والسلفى ومساعدة منظمات حقوق الإنسان والديمقراطية والمجتمع المدنى والتنوير .
وكل هذا ترفضه بشدة نظم الإستبداد العربية ، وبقدر إستمرار المعاناة والفساد والقمع والجوع وتأكيد قوانين الإستبداد والطوارىء فإن تلك النظم تظل متشبثة بالسلطة ومعادية لسياسة المرشلة الأمريكية الراغبة فى الإصلاح السلمى ، وبنفس الطريق يلتقى الإستبداد العربى مع سياسة الهرشمة للمحافظين الجدد فى أمريكا .
ثانيا
بعد هذا التحليل يبقى أن نقول بإيجاز شديد:-
1 ـ أن سياسة الفوضى الخلاقة ستضر أمريكا حيث ستنتقل الفوضى الخلاقة إلى داخل أمريكا نفسها ، التى ينتشر الإسلام فيها ( بالتأويل الوهابى ) وتتحكم الوهابية فى ملايين المسلمين الأمريكان بما يهىء الفرصة لتكوين طالبان أمريكان خلال عقدين من الزمان ، وسيساعد على ذلك ثورة المعلومات والإتصالات وسهولة حصول الأرهابيين السنة والشيعة على أسلحة الدمار الشامل لإستعمالها داخل أمريكا. وفى ظل ثورة المعلومات والاتصالات لم يعد مجديا أى إجراءات أمنية لاتحمى أمريكا المنفتحة بطبيعتها لأن الحرب الجديدة هى حرب فكرية فى الأساس وليست أمريكا مهيئة أو مؤهلة لمواجهة الحرب الفكرية ( دينية المضمون عربية اللسان ) فكيف تكون مؤهلة للهجوم بها على المتطرفين داخل وخارج أمريكا .
2 ـ أن وسيلة الإصلاح السلمى هى سبيل الإنقاذ ليس للمسلمين فحسب ولكن لأمريكا أيضا . وقد كنت أتحدث فى ندوة فى واشنطن صباح الثلاثاء 28 أبريل وقلت أن الشرق الأوسط لايحتاج وحده للإصلاح ولكن لابد قبل ذلك من إصلاح السياسة الأمريكية الخارجية أولا ، ثم لا بد من تنفيذ الإصلاح السلمى بالمواجهة الفكرية السلمية لفكر التطرف والإرهاب من داخل الإسلام ولتأكيد إقامة دول علمانية للمسلمين والعرب وفق المواثيق الدولية لحقوق الانسان ، وهى أقرب ما كتبه البشر الى الاسلام الحقيقى و القرآن الكريم .
3:- بالنسبة لمحور الشرّ فى بلاد المسلمين ، وهو التحالف غير المقدس بين الإستبداد والفساد ، دعنا نفترض أنه ما زال هناك بقية من ضمير لدى هذا التحالف يصلح للتخاطب معه ، فنقول : كفى ما أفسدتم ... وكفى ما تحكمتم وما نهبتم ... هذه الشعوب المسكينة التى تحملتكم عقودا من الزمن آن لها أن تتحرر منكم سلميا ... من الممكن إجراء عقد للرحيل ترحلون بموجبه فى سلام وأمان مع تحويشة العمر وتتركون تلك الشعوب تعيش حرة كريمة .
من الطبيعى أن تحالف الفساد والإستبداد تحميه قوة الجيش ، وهنا نقول أن مهمة الجيش لا تعرف الوسطية: أما أن يكون جيشا وطنيا نبيلا يحمى الشعب ويوجه سلاحه ضد كل معتد على الوطن من الداخل أو من الخارج... وإما أن يكون جيشا خائنا للوطن والشعب مهمته قهر الشعب وحماية المستبد. ومنذ أن استولت النظم العسكرية على السلطة فى بلاد العرب والمسلمين فإن تلك الجيوش قد إرتكبت جريمة الخيانة العظمى؛ خانت شعوبها وأمتها ودينها ومهمتها المقدسة النبيلة .
وقد آن الآوان للجيوش العربية والمسلمة أن تتخلص من هذا العار بأن تعود إلى ثكناتها تحرس حرية الشعب فى الداخل وأمن الشعب من العدو الخارجى ، أى أن تتحرك لغسل العار عنها بطرد المستبدين وتهيئة الوضع لحكماء كل شعب لإقامة حكومة مؤقته تضع أساس الإصلاح التشريعى الذى تقوم عليه ديمقراطية وعدالة إجتماعية وحقوق الأنسان .
وبهذا يمكن أن ينجو العرب والمسلمون من الطوفان القادم ... طوفان الفوضى الخلاقة ... أوالهرشمة ..
ان لم يتحرك الجيش فسيأتى الوقت الذى يتحول فيه إلى ميلشيات يقاتل بعضها البعض وتنفذ الهرشمة ... أى يتحول الجيش إلى قنابل ذرية تدمر الوطن والمواطنيين .

أخيرا:
اللهم بلغت .. اللهم فاشهد ..

اجمالي القراءات 18634