المسلمون بعد رسول الله

محمود دويكات في السبت ١٩ - أبريل - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

المشهد السياسي قبيل وفاة الرسول عليه السلام كان ينذر بواقع صعب سيعيشه المسلمون و قد بدأ بعض الزعامات بادعاء النبوة ،فحاول الرسول الكريم أن يتفاهم مع هؤلاء بالتراسل (كما حصل مع مسيلمة) ، و بوفاته عليه السلام ترك للمسلمين كتابا واحدا و واقعا صعبا للتعامل معه فقام بالأمر أبوبكر فحارب كل من سولت له نفسه بالخروج على نظام الدولة الذي أرساه النبي الكريم. و لقد كلفت تلك المعارك المسلمين الكثير من الشهداء و لكنها أعطتهم دفعا عظيما في زخم المعارك ، فسارت نفس الجيوش الى الشمال في مجابهة سرعان ما اشتدت وطيسها مع مملكة الفرس الساسانية ، و في وقت شبه مقارب كانت أفواج اخرى من المسلمين تقرع أبواب امبراطورية الروم البيزنطية . و في عهد عمر امتدت أذرع الدولة الاسلامية مسافات موغلة في العراق و الشام و حتى مصر ، و عمل المسلمون على الاستقرار في تلك المناطق بهدف هداية أهلها الى الاسلام آنذاك . و وضع عمر بعض القوانين و المعايير العملية لضبط الامور في الدولة كنظام الحسبة و الدواوين و غيرها ، وبهذا بدأت مجتمعات مسلمة خارج المدينة المنورة بالازدهار.

عند وفاته أحب عمر بن الخطاب أن يورث العالم الاسلامي نظام انتخابات نزيه وواضح لاختيار خليفة من بعده للمسلمين عامة ، فاختار ستا من الرجال حوله و طلب منهم أن يجتمعوا على اختيار خليفة واحد ، فتأرجح الاختيار ما بين عثمان و علي ، و هذا استتبع ضرورة حسم الاختيار و بشكل قاطع ، فتم إجراء استفتاء مباشر للمسلمين في العاصمة فتم اختيار عثمان من بني امية بفارق بسيط على علي من بيت الرسول.
قام عثمان(من بني أمية) بالأمر و رضي علي بذلك كأحسن ما يكون ، إلا أن الفتن بدأت تظهر لاحقا ضد عثمان في المدينة في أواخر فترة حكمه (30 سنة بعد وفاة الرسول) ، و بدأ الناس يشككون في نزاهة عثمان الذي كان أحد أشهر صحابة الرسول. ووصل الامر الى تكفير عثمان نفسه و مطالبته بالاستقاله ، و ما لبث عثمان إلا أن وجد نفسه محاصرا في المسجد ، وكانت النصائح الموجهة لعثمان (و بعض المصادر تقول أن عليا أشار بذلك ) أن يستجلب جيش معاوية المشغول في الفتوح بالشام وتركيا حاليا لكي يحمي الخليفة نفسه ، إلا أن الخليفة نفسه أبى ذلك مخافة أن يجر المسلمين الى الاقتتال الداخلي ، إلا أنه و بعدما تأخر الوقت ، وصلت الاوامر الى القائد معاوية بن أبي سفيان من بني أمية بالرجوع من دمشق الى المدينة العاصمة لينقذ الخليفة المحاصر ، و لكن الامر قد حصل ، فقتل عثمان على يد الثائرين الذين تقدموا من جهة العراق و مصروالشام ، و كان المانع من أن يقوم وجهاء الصحابة بمقاتلة الثائرين هو عدم جر المسلمين الى حرب أهلية ، خاصة في العاصمة نفسها في الفترة التي كان جيشهم مشغولا بالفتوح.
تولى علي الخلافة بعد عثمان ، و في نفس شبه مقارب كان اتجاه من الصحابة على رأسه عائشة يطالب بهدر دم من قتلوا عثمان ، إلا أن عليا أصر على معالجة الامور بالحسنى وعدم الانجرار الى الاقتتال ، أدى هذا الى خروج عائشة والزبير وطلحة من المدينة باتجاه البصرة في العراق وقاموا بمطالبة علي بالاقتصاص من قاتلي عثمان ، و تبعهم بنفس الحجة معاوية (من بني أمية ) الذي انفصل بالشام، الامر الذي اعتبره علي خروجا عن الدولة ، و بمرور الزمن و تضخيم الكلام من الجهتين ، قام علي بالخروج في جيش لفرض سيطرة الدولة على تلك المناطق التي باتت لا تعترف بأهلية الخليفة الحالي ، فالتقى المسلمون في أول معركة في سلسلة معارك الحرب الاهلية بينهم (الفتنة الاولى) ، ودار القتال حول جمل عائشة حيث قتل المئات (وبعض المصادر تقول الالاف) من المسلمين ، وحصل الانتصار لعلي ، إلا ان معاوية (من بني أمية ) لم يسلم بذلك فالتقى المسلمون مرة أخرى في قتال عظيم في صفين واستمر القتال أياما حتى رفعت الجهتان المصحف على الرماح وطالبوا بالتحكيم بكتاب الله ، فقبل علي بذلك ، ولكن جمعا من جيش علي خرجوا عنه بسبب ذلك و أهدروا دمه (الخوارج)، فحرفوا جبهة القتال لنحوهم ، فقاتلهم علي في النهروان ولكن لم يقض عليهم في حين قوي أمر معاوية في الشام إثر حادثة التحكيم حيث تم استخدام الحيلة و المكر من أجل إضعاف موقف علي أمام معاوية . إذ يذكر لنا التاريخ أن صحابي (عمرو بن العاص ) قد ضحك و استغفل صحابي آخر (أبو موسى الاشعري) من أجل مصلحة صحابي (معاوية ) ضد مصلحة صحابي آخر (علي).
بعد وفاته حاول أبناء علي و أقاربه أن يبقوا الخلافة فيهم فتصدى لهم معاوية في سلسلة أخرى من القتال (40 – 45 سنة بعد وفاة الرسول) أدت الى ارساء الدولة الاموية مؤقتا الى وفاته ، حيث عظم بعدها أمر المنشقين في العراق و الحجاز بقيادة أبناء الزبير بن العوام و المختار الثقفي، الامر الذي دفع عبد الملك فيما بعد باعلان حرب لا هوادة فيها ضد كل معارض (الفتنة الثانية 60- 70 سنة بعد وفاة الرسول) ، واشتعل القتال على الارض و في المنابر - الى أن بلغ القتال ذروته بقذف الكعبة بالمنجنيق على يد الحجاج بعد أن استباح وخرب في المدينة المنورة ، إلى ان دانت الارض والرقاب لعبد الملك و أبنائه من بعده .
رغم خمود القتال على الارض نسبيا ، بقيت المنابر و الاحاديث أسلحة تستخدمها كافة المجموعات لدعم أفكارها و أحقيتها في الحكم . مما أدى الى نشوء حركات مناهضة ضد الدولة الاموية انتهت بمعارك طاحنة يشيب لهولها الولدان ، جاءت لنا بالدولة العباسية (الفتنة الثالثة 90 -100 سنة بعد وفاة الرسول ) ، وشهدت تلك الدولة معارك من نوع آخر كان استخدام الدين فيها أشد ضراوة من ذي قبل ، حيث نشأت الاحزاب و الحركات الفكرية من أزارقة و معتزلة و صوفية و قرامطة و غيرهم .. 
  في تلك الاجواء (200 سنة بعد الرسول) ، و التي تبدو أسود بكثير من الاجواء التي يعيشها المسلمون الان، بدأت كتابة وزعم أحاديث للرسول عليه السلام.

هذه اللمحة يجب أن تذكرنا أن الصحابة إنما هم بشر و قد يندفعون الى الكثير من القرارات التي فيها الخطأ أو الصواب . نحن نقول عنهم ما قاله الله عز وجل : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) البقرة/134 و 141  فمن الظلم المجحف بحق رسالة الله أن نقول بعدها أن هؤلاء البشر يمثلون تلك الرسالة! بل نقول أن هؤلاء البشر منهم من حمل الرسالة و منهم من حمل وزر إلقائها وراء ظهره و قد خاب من حمل وزرا. فالباقي و الدور علينا نحن: هل سنحمل الرسالة أم سنلقيها وراءنا و ننشغل كما انشغلوا من قبل في خلافات و تنازعات.. قل صدق الله:  (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) ق/37 ..

اجمالي القراءات 45664