فضل الاعتزال -1-

عمر أبو رصاع في الجمعة ١٤ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

                                                  مقدمة

كان لاكتشاف فرقة في التاريخ الاسلامي العربي اسمها المعتزلة أثر استثنائي في حياتي ، كنت لا أزال حدثاً في تلك الفترة و كان لهذا الاكتشاف أن ينقذ ايماني بالله عز وجل و يعمق فهمي لدينه ، و لا ضير فقد كان شأني شأن جل الناشئين في الطبقة المتوسطة من مجتمعنا العربي إبان النكسة الكبرى ان نعتصم بحبل الايمان ، انه نموذج {...ظل من تدعون إلا الله} شكل من اشكال رد الفعل على الهزيمة الحضارية الهروب إلى حصن الدين المنيع ، حيث كان الاعتصام بحبل الايمان العميق رد فعل عام و أساسي في تربيتنا .
انكببت بجهد واجتهاد كبيرين احفظ كتاب الله عز وجل وألتهم كتب الحديث الصحيحين والترمذي ثم تفسير ابن كثير وقبله الجلالين وقصص الانبياء والصالحين والصديقين وسيرة ابن هشام وفقه السنة .....الخ حتى صرت اصنف نفسي حافظاً لكن ما لم يكن ليخطر في بالي هو أن أناقش كافراً بديني يومها بدأت أسرد عليه مما أحفظ قال تعالى وقال عليه الصلاة والسلام لكن صاحبنا قال يا حبيبي أنا لست مؤمناً لا بكتابك ولا بنبيك ، فسقط في يدي وغلب عقلي على أمره كيف لي أن اجابه حجته إذا كان لا يؤمن أصلاً بأن القرآن من عند الله وبأن سيدنا المصطفى نبيه وخليله؟!
ليس هذا فحسب بل تبين لي اننا نعيش داخل نظام معرفي مغلق نتكلم فيه منطقاً خاصاً فتنبني فيه الحجج على مسلمات هذا المنطق لكن هذه المسلمات التي بنينا عليها منطقنا في الواقع ليست مسلمات في منطق آخر من خارج هذا النظام المغلق ، بل اكثر من ذلك هي معرفة منطقية مبنية على مسلمات صيغت بمعقولية قروسطية(*) و هو امر احتجت وقتاً طويلاً من تتبع آثار المعقوليات الحديثة و بنياتها المنطقية لافهمه بشكل جيد.

أعود إلى مجادلي ذاك ، فقد أخذ يجادلني بالمنطق ولا علم لي بالجدل والحجة العقلية اصلاً وأنا الذي ارتاح ضميره واستقرت نفسه للمعرفة النصية و لما جاء به السلف فاستغنيت بهما عن تعب البحث ورهق العقل . اشتد حنقي وكنت يومها أذود عن ما نذرت له نفسي كيف لا وأنا من أنجب طلبة الكلية الاسلامية وشاعر المدرسة وخطيبها يسقط في يدي فلا املك حيال كافر بديني جوابا! وكان أوسع الناس علماً في ذهني ذلك الوقت شيوخي واساتذتي في مدرستي لكن بلا جدوى فكلهم أعاد علي من كتاب الله وسنة نبيه فلما قلت لكن مناقشي كافر بهما كيف اقنعه ؟
قال قائلهم : دعك منه إنه يفتنك عن دينك وإنك لا تهدي من احببت .

و احمد الله أني لم اعمل بنصيحتهم ، و ذهبت وأنا طالب في الأول الاعدادي او الصف السابع اليوم إلى الجامعة الاردنية ودخلت على رئيس قسم اللغة العربية آن ذاك الأستاذ الدكتور عبد المجيد المحتسب - تغمده الله برحمته - فضحك مني لما اطلعته على ما أرَّقني وقال : هل سمعت بالجاحظ يا بني؟
قلت : بلى أليس هو صاحب البخلاء ؟

قال : هو عينه ، له كتاب اسمه رسائل الجاحظ قد تجد فيها ما يعينك وإن أشكل عليك فهم شيء فعد إلي.

و كانت البداية التي عرفت فيها لأول مرة أن تاريخ الثقافة العربية الاسلامية ليس فقط تاريخ النقلة و الحفظة بل أنه و ذلك هو الأهم تاريخ العقل لا النقل ، و عرفت كيف تقوم الأدلة بالوجوب و بالعقل كما يوافقها النقل ، نسيت محاوري الكافر لأنه لم يعد لي موضوعاً بعد أن اكتشفت أن كل ما عرفته وكنت أظنه العلم الكامل ليس إلا ذرة في بحر الفكر الانساني ، وأن في تاريخنا علماء و مفكرين لا يقلون عن أبي حنيفة و مالك و الشافعي و ابن حنبل و ابن تيمية و رواة الحديث شأناً إن لم يفضلوهم في الكثير من الأمور كواصل بن عطاء و الجاحظ و ابن رشد و ابن سينا و الكندي و الفارابي ، و عرفت أن (الكافر) جان جاك روسو مثلاً لم يكن كافراً و انما نبي بغير وحي ، و اكتشفت و ذلك هو الأهم أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ختم النبأ من السماء لكن عظماء من بني الانسان بعده حملوا رايات النور من اجل مستقبل افضل للبشرية فكانوا انبياء العلم و العقل و المناضلين الذين ارسوا قواعد العدل و الخير التي من اجلها كانت كل الرسالات ، و أن التاريخ لم ينتهي عند ابن تيمية و ابن القيم الجوزية بل تجاوزهما بمراحل ربما أعظمها تجريبية فرانسوا بيكون و قوانين نيوتن نبي الفيزياء العظيم ، إن جاز لنا ان نفاضل لكن الذي صار حقيقة مؤكدة هو ان مسيرة التاريخ تواصلت و ان مشعل النور البشري يعلو يوماً بعد يوم و تتسع دائرة ضيائه لتعم ما كان معتماً من قبل ، لقد عبرت الانسانية مراحلاً و قطعت اشواطاً لا يمكن ان نظل نحن معها حبيسي بنية منطق احكمت بنيته و اغلق علينا ، و هكذا فإن الرحلة المعرفية للانسان متصلة في بحر الوجود ، و لعلي لا اتجاوز ان سميت رحلتي المعرفية المتواضعة رحلة للالتحاق بركب حضارة الانسان بدأت و لن تنتهي عند حد ما دمت حيا.

رغم تنقلي في الكثير من الوان المعرفة و أهما ما هو معاصر فدوماً الأخير يتجاوز سابقه ، ظلت للمعتزلة مكانة خاصة في النفس فنذرت لدراستها زمنا غير يسير من عمري خرجت منه بمخطوطة لم تنشر بعد لأني لا أكل النظر فيها و التنقيح و الإضافة و التعديل و كلما رأيت فيها ما أجيزه كتاباً اقدمه للناس اعادني عن نشره عدم استقرار رضاي عن شكله ، و ها أنا ذا أضع بين يديكم بعضاً مما جاء فيه تعريفاً بهذه الفرقة الاسلامية و أصولها الخمس : العدل و التوحيد و المنزلة بين المنزلتين و الوعد و الوعيد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
لكن قبل ان نبدأ التعريف بالأصول الإعتقادية الخمس التي يقوم عليها فكر المعتزلة ، أرى من الضرورة بمكان ان اقدم اولاً بنبذة عن النشأة و التسمية.



                                             *النشأة والتسمية :

هناك فارق أساسي بين نشأة الاعتزال كفرقة كلامية مستقلة و بين ظهور مسائلها و أصولها كمسائل كلامية ، فأصول الاعتزال هي مثار بحث منذ بواكير الفكر الاسلامي جلها مما خاضت فيه كل المذاهب التي تقدمت نشأة المعتزلة فالقول بالقدر قالت به القدرية والقول بنفي الصفات و خلق القرآن و انكار رؤية الخالق بالعين قال بها الجهم (1) كما قال مقالهم في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الخوارج ، و وافقوا الشيعة بوجوب الإمامة و إن انكروا الوصية و العصمة كما جوزوا التأويل (2) و قالوا مقالة الحسن البصري في العدل والاختيار(3)
و كلها مقالات لها جذورها في النص القرآني نفسه و تكلم بها أيضاً سواء بما وافق الاعتزال أو خالفه العديد من المتقدمين من الصحابة .
إذن فإن اختمار أصول الاعتزال في الثقافة العربية الاسلامية ليس صدفة و لا اعتباطاً ، و لا ترجمة و سنرد في حينه على هذا الرأي انما هو فكر ولد في بيئته و استجاب لمتطلبات عصره.

أما نشأة المعتزلة كفرقة كلامية فتعود إلى أواخر القرن الهجري الأول أوائل القرن الثاني ، و يعتبر المؤرخون كل من واصل بن عطاء الغزال (80-131هج 699-748م) و عمرو بن عبيد (80-144هج 699-761م) (4) شيخيها المؤسسين ، و قبل النشأة كانت الجماعة المؤتلفة حول الحسن البصري تكنى بأهل العدل و التوحيد ، و يرى الشهرستاني انه حصل خلاف بين الحسن و واصل في الحكم على مرتكب الكبيرة أهو مؤمن أم كافر فخرج واصل برأي مفاده انه في منزلة بين المنزلتين و قام واصل عن الحسن و ترك مجلسه مؤسساً له حلقته الخاصة و في ذلك يقول الشهرستاني أن تسمية المعتزلة بهذا الاسم إنما ترجع لعبارة اطلقها الحسن إبان خلافهما "اعتزلنا واصل" فسمي وجماعته بالمعتزلة (5) .

أما البغدادي فيرى أن هذه التسمية جاءتهم لأنهم اعتزلوا اجماع الأمة (6) ، و المسعودي من جانبه رأى أن تسميتهم بالمعتزلة لأن قولهم بالمنزلة بين المنزلتين إنما يعني عزل مرتكب الكبيرة عن المؤمنين و الكافرين فسمي أصحاب هذا القول أي المنزلة بين المنزلتين بالمعتزلة (7) بينما يرى المرتضى المعتزلي انهم من اطلق التسمية على انفسهم لاعتزالهم الاقوال المحدثة و المبتدعة من تكفير الخوارج لمرتكب الكبيرة إلى قول المرجئة بايمانه (8) بينما يذهب المستشرق نيللينو أنهم استعاروا التسمية مِن مَن وقفوا موقفهم السياسي الشهير في اعتزال الفتنة الكبرى و هو رأي ساقه ايضا النوبختي "لما قتل عثمان افترق الناس ثلاث فرق ..... و فرقة اعتزلت مع سعد بن ابي وقاص وعبدالله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد ....... فسموا المعتزلة و صاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد"(9) و يرجحه ما ذكره السبكي من أنه وقع على كتب للمعتزلة تصنف عبدالله بن مسعود المعلوم اعتزاله القتال بين علي ومعاوية كأحد روادهم (10) ، بينما يرى القاضي عبد الجبار المعتزلي ان سبب التسمية اعتزالهم الفتن و الشرور .

إلا أننا نميل مع ما ذهب إليه جل المؤرخين من أن تسمية المعتزلة إنما جاءت من اعتزال واصل لمجلس الحسن لأن رأي البغدادي فقير للمنطق و يعكس تعصبه ضدهم فكيف يقبل المعتزلة أن يكنوا بذلك لأنهم اعتزلوا اجماع الأمة على رغم أنهم كانوا يحبون أن يكنوا بأهل العدل والتوحيد لكن لم يكن يضيرهم تسميتهم بالمعتزلة ، بل كان واحدهم يعرف نفسه أنه فلان المعتزلي لذا لا نطمئن لرأي البغدادي ، و أما رأي المسعودي ففيه شيء من الصناعة الاشتقاقية أنهم عزلوا مرتكب الكبيرة عن مرتبتي الكفر و الايمان فسموا معتزلة فهذا أيضا لا نطمئن إليه لميله لإفتعال التسمية و هو من طبائع المسعودي و عنايته باللفظ و الصنعة اللفظية ، و قول المرتضى و إن كان صحيحاً فعله لكنه مما شارك فيه المعتزلة غيرهم كالحسن نفسه فلا يدل عندي على خصوصهم و لذا لا اطمئن إليه أيضاً ، أما رأي نيللينو و النوبختي و الدمشقي أن مرد التسمية لمن اعتزلوا القتال بين معاوية و على فعلى و جاهته فهو انتحال دالة لدالة أخرى لإن نشأة المعتزلة كفرقة لحقت ذلك بزمن زالت فيه الفرقة التي اعتزلت القتال أصلاً ناهيك عن أنه لم يكن ينتظمها غير ذلك الموقف من القتال لذا فنحن لا نطمئن أيضا لهذا الرأي ، بينما يأتي الرأي الأول من أن التسمية اشتقت من قولة الحسن اعتزلنا واصل أصوب و أقرب للمنطق فهي تعكس فعلاً لحظة الانبعاث للفرقة الكلامية "المعتزلة" و هي لحظة القول بالمنزلة بين المنزلتين فلم يعرف هذا الرأي في مرتكب الكبيرة قبل واصل بن عطاء بل ان هذا الرأي بالذات ميز المعتزلة كفرقة كلامية و هو اصل من الاصول الخمسة التي يقوم عليها الاعتزال ، على ان من الواجب هنا التنويه لمسائل اعتورت ما اورده الشهرستاني لا بد من ان نشير لها.

يقول الشهرستاني: دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا امام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً في الإسلام ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاًً ولا كافر مطلقاًً بل هو في المنزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر بما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة

أولاً : لماذا قبل ان يجيب الحسن البصري؟ هنا الرواية لا تحمل لنا رأي الحسن. و الحق اني لا اعول كثيراً على دقة الشهرستاني خاصة ما عرف عنه من كراهية شديدة للمعتزلة.
ثانياً : المعتزلة تصنف الحسن البصري في الطبقة الثالثة من طبقاتها و واصل في الطبقة الرابعة اي ان المعتزلة تكرم الحسن و ترى صلاحه فمعلوم قول الحسن بالعدل و التوحيد و هي الكنية المحببة إلى المعتزلة و إن كانوا لا يرفضون تسميتهم بالمعتزلة.
ثالثا: يبقى ان الرأي الوارد عن الشهرستاني هو المرجح رغم ذلك لأن الحسن لم يشتهر عنه رأي في مرتكب الكبيرة و لأن بيان الاصول الخمسة اكتمل مع واصلبن عطاء و عمرو بن عبيد و قد عاصراه و كانت لهما حلقة في ذات المسجد ، فرغم عدم قناعتي بدقة الحوار الذي دار إلا ان اعتزال واصل لحلقة الحسن و جلوسه لحلقة خاصة هو الامر الذي يعول عليه ان المعتزلة كإسم اتى من اعتزال واصل لمجلس الحسن البصري ، اما ان المعتزلة قبلت التسمية هذه على ان اعتزالها هو اعتزال للفتنة و الشر ففيه وجاهة من حيث انها سمة اثبتتها لنفسها ، إلا ان المعتزلة ايضاً لم تعتزل الشأن العام على العكس من هذا تماماً كانت في قلب الحدث السياسي دائماً و كانت لها ثوراتها و لو كان الاعتزال هو ترك الامور و الحياد السلبي لما جازت هذه سمة له ، فهو اذن اعتزال واصل لمجلس الحسن سواء لخلافهما في الحكم على مرتكب الكبيرة او لتأسيس المعتزلة لحلقتها مستقلة عن حلقة الحسن البصري.


                                                  يتبع


(*) قروسطية ، مصطلح اول من استخدمه الفيلسوف العربي الكبير الاستاذ الدكتور الطيب تيزيني في كتابه مشروع الرؤية الجديد و قصد به النسب إلى القرون الوسطى ، لهذا اقتضى التنبيه ، و مما يذكر ايضاً انه نسج على هذا المنوال كثير من النسب التي شاع بعضها فيما بعد و اختفى الآخر مثل : سلفوية و قروسطية و غيرها.
(1) الدمشقي-تاريخ الجهمية والمعتزلة-ص5
(2) المرتضى، الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى -المنية والأمل_ص 4و5
(3) احمد امين-فجر الاسلام –ص 296 و297
(4) عبد الوهاب الكيالي-ط1 1990الموسوعة السياسية الجزء السادس-ص 241.
(5) الملل والنحل – ج1 – ص55.
(6) الفرق بين الفرق – ص94.
(7) مروج الذهب-ج6-ص22.
(8) المرتضى الزيدي ، الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المنية والأمل-ص4 ، و كذلك اورد ابو القاسم البلخي المعتزلي
(9) النوبختي - فرق الشيعة – ص 4 و5.
(10) الدمشقي – تاريخ الجهمية والمعتزلة – ص16.

اجمالي القراءات 18074