المقال الأول
لماذا يختلف القرآنيون?

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠٦ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :-
فى موقعنا " أهل القرآن " تدور مناقشات حامية تخرج أحيانا عن الحدود المتعارف عليها من الأخلاق ، مما دفعنا إلى إنشاء لجنة من أهل الموقع لمراجعة التعليقات . الموقع مفتوح للجميع وفق شروط نشر أهمها عدم نسبة أى حديث مهما كان للنبى محمد عليه السلام ، والإكتفاء بالإجتهاد داخل النصوص القرآنية بما يعبر عن عقيدتنا بالإكتفاء بالقرآن الكريم وحده .
خلال هذا الإطار تأتى أجتهادات من داخل القرآن بعضها غاية فى الغرابة ، تضعنا فى حيرة الجمع بين حرية الرأى والفكر وإعطاء القرآن حقه المفروض من التقديس والتقدير، لأن بعض الإجتهادات الخاطئة تأتى فى النهاية بما يمس جلال القرآن وقدسيته .
وفى محاولات التوفيق هذه بين حرية الرأى والفكر وبين إعطاء القرآن حقه تدور الخلافات بين القائمين على الموقع ، فالعادة أننا نرحب بكل مجتهد يكتب من خلال النص القرآنى ، وكل منهم له طريقته فى الإجتهاد وفى فهمه لآيات القرآن الكريم ، وقد تأتى النتائج أو الإجتهادات أحيانا مفزعة ، تستجلب الكثير من التعليقات الحادة والردود الغاضبة ، وقد ينتهى الأمر بخروج الضيف غاضبا من الموقع ينفث غضبه هجوما على أهل القرآن فى مواقع أخرى أو قد ينسحب بهدوء ..
ويبقى السؤال يحتاج لإجابة: فطالما أن القرآن الكريم مبين وميسر للذكر وهناك خط واضح فى الإجتهاد هو الإكتفاء به وحده ... فلماذا يختلف القرآنيون ؟!!!!
فى إعتقادى أن السبب هو الخلط بين الهداية العلمية والهداية الإيمانية ...

الهداية الإيمانية
هى متاحة لكل إنسان يقرأ القرآن الكريم ويصدق أنه الحديث الوحيد الذى يجب الإيمان به: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ : المرسلات 50 )(الأعراف 185)( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ : الجاثية 6 )، وأنه المصدر الوحيد للإسلام الذى يجب الإكتفاء به :( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ: العنكبوت 51 ) ، وأنه الكتاب الذى لم يفرط فى شىء يعتبر تركه تفريطا: ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ: الأنعام 38 ) ، وأنه نزل تبيانا لكل شيىء محتاج إلى بيان وتوضيح:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ : النحل 89 ) .
هذه الهداية الإيمانية تأتى فى آيات بينات محددة المعانى فى أسلوب تقريرى واضح المعنى لكل من يريد الهداية . ومن هنا فالهداية الإيمانية متاحة لكل إنسان يرغب فى الهداية بغض النظر عن مستواه العلمى أو الثقافى ، يكفيه أن يقرأ بعناية قوله تعالى " فبأى حديث بعده يؤمنون " ليؤمن بالقرآن وحده حديثا ويعتبر أن الأحاديث الأخرى ليست محلا للإيمان ولا موضع لها فى الإسلام ...
ومع أن الهداية الإيمانية متاحة وميسرة للذكر فإن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين ، وأكثرهم كما قال تعالى عز وجل: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ : الإنعام 116 ) ، هذه الأكثرية تقع فريسة للأحاديث الشيطانية من زخرف القول الذين تصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالأخرة : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ : الأنعام 112 : 115 ).
الأقلية من البشر هى التى تفلت من قبضة الشيطان وأحاديثه الكاذبة ، فيتركون الأحاديث الكاذبة ويتجهون للقرآن الكريم وحده طريقا للهداية.ولكن الشيطان لا يتركهم لحالهم ، إذ أن الشيطان لا ييأس من غواية الانسان ؛ يأتية من أمامه ومن خلفه وعن يمينة وشماله : (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ : الأعراف 17) ، ولهذا فإنه لا يترك أهل القرآن بعد أن عرفوا الهداية الإيمانية ،إذ يترصد لهم فى طريق الهداية العلمية .

الهداية العلمية :-
إذا كانت الهداية الإيمانية متاحة للجميع ومطلوبة من الجميع ، فإن الهداية العلمية لا تتاح إلا لأصحاب القدرة عليها من المتخصصين فى العلم الذين وهبوا حياتهم لهذه المهمة فاستحقوا أن يقال عنهم " أهل الذكر "، يقول جل وعلا: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ : النحل 43 ) ، و(الذكر ) من أسماء وأوصاف القرآن الكريم ، إقرأ قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ : فصلت 41 ) ، (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ : يس 69 ) ، (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ( أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي: ص 1 ، 8 ) ،( وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ : الحجر 6 ، 9 ) ، أى أن أهل الذكر هم أهل القرآن ، إذا جمعوا بين الهداية العلمية والإيمانية. و(أهل الذكر ) هم أيضا الذين أوتوا العلم ، والعلماء والراسخون فى العلم ، وأولو العلم ، والذين عندهم علم الكتاب ..
ولهم ملامح أشار إليها القرآن الكريم:

* فهم الذين يشهدون أعلى شهادة مع الله عز وجل وملائكته أنه لا إله إلا الله جل وعلا ، والله تعالى يقرن شهادتهم بشهادته جل وعلا ، يقول تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ : آل عمران 18) .
* وهم شهود على صحة نبوة خاتم النبيين ورسالته الالهية القرآنية ، يقول تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ : الرعد 43 ) فالذى عنده علم من الكتاب هو الذى أوتى الهداية الإيمانية والعلمية .
* وهم الذين يكتفون بكتاب الله تعالى وحده دون أضافة ، فقد أصبح الكتاب فى قلوبهم آيات بينات : ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ : العنكبوت 49 – 51 )
* ولأنهم يرون أن القرآن الكريم هو الحق من عند الله:(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ : سبأ 6 ) فلا بد أن يترتب على هذا الإيمان أن يخشى العالم ربه جل وعلا : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ: فاطر 28 ).
* ولأنه عالم مؤمن فلا بد أن يمتزج هذا الخشوع العقلى بمقدرته العلمية فيتعقل المعانى العميقة فى القرآن الكريم ، يقول تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ : العنكبوت 43 ).

ومن هنا فإن منهج أولى العلم أو الراسخين فى العلم أنهم يقرأون القرآن الكريم ويفهمون مصطلحاته وفق معانيها القرآنية ، ثم يستحضرون كل الآيات المتعلقة بالموضوع الواحد ، ما كان منها محدد الدلالة بأسلوب علمى تقريرى " أى الآيات المحكمات " وما كان منها مفصلا وموضحا ومتشابها ، ويفهمون القرآن بالقرآن ، أى يبحثون كل الآيات معا على أنها جميعا من عند الله عز وجل ، وهذا ما يفعله الراسخون فى العلم مناقضا للآخرين الذين فى قلوبهم زيغ : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ.: آل عمران 7 ).

الوجود التاريخى لأولى العلم وأهل الذكر :
وفى عصر النبى محمد عليه السلام كان يوجد علماء أغلبهم كان من أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون القرآن كما يعرفون أبناءهم ، ولكن كان بعضهم يكتم الحق ـ فأصبح ضالا بعلمه فأضله الله تعالى على علمه : إقرأ قوله تعالى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (البقرة 146 ) (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (الأنعام 20 ) (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) (الجاثية 23 ).
بينما جمع البعض الآخر بين الايمان و العلم فاستحقوا مدح الله جل وعلا لهم ، وثناءه عليهم ، وكان منهم علماء من بنى إسرائيل ، وقد اعتبر الله تعالى إيمانهم حجة على العرب : ( أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ : الشعراء 197 ) وذكر رب العزة جل وعلا أنه فى الوقت الذى كفر به معظم العرب فان علماء من بنى اسرائيل كانوا إذا تتلى عليهم الكتاب – القرآن الكريم – يخرون للإذقان سجدا وهم يبكون : ( قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا : الإسراء 107 – 109 )، وأن أهل الذكر من أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالقرآن الكريم وما سبقه من كتب سماوية : (لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا: النساء 163 ) .
وقد أمر الله تعالى خاتم الأنبياء أن يسألهم إذا جاءه شك فى القرآن الكريم : ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ : يونس 94 ) وبنفس الأمر قاله جل وعلا للمؤمنين (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ : النحل 43 ) .
وكان من أصحاب النبى فى المدينة نفر من أولى العلم كانوا يجالسونه ، وكانوا من أقرب الناس إليه فى المجلس . نفهم ذلك من قوله جل وعلا عن المنافقين : ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا: محمد 16) ويقول تعالى عن الازدحام حول النبى فى المسجد : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ : المجادلة 11 ) .
ويوم القيامة سيكون لأولى العلم شأن عظيم ، حيث سيرون ما كانوا يؤمنون به فى الدنيا وقد تحقق واقعا: ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ : النحل 27 ) ، ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ : الروم 55 – 56 ) .
أهل العلم أو أهل الذكر فى الإسلام ليسوا كهنوتا بل يظل أحدهم باحثا فى كتاب الله تعالى وطالب علم كلما إزداد بالقرآن علما إزداد إدراكا بأن ما يجهله أكثر مما يعلمه ، وهو على إستعداد على أن يتخلى وبسهولة عما توارثه من ثوابت إذا خالفت آية قرآنية واحدة ، ولا يصمم على رأى إذا وضح خطؤه ،أى يظل إيمانه بالله تعالى وخشيته لله تعالى مصباحا يضىء له طريقه .
هذه الهداية الإيمانية فى أهل العلم متاحة للجميع ، ولكن القدرة على التخصص العلمى مع أنها متاحة للجميع فإنه لا يقدر عليها الجميع ، ولذلك فإن التعبير القرآنى عن الذين أوتوا العلم يتحدث عنهم كطائفة مخصوصة وليس كل الناس كقوله تعالى : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ: المجادلة 11 ) ، بل إنه فى مجال أهل العلم يوجد تفاوت بينهم حسب الفروق الفردية ، يقول تعالى (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) ( يوسف 76 ) .

ونأتى للسؤال الأساس .
ما صلة هذا كله بالخلاف بين أهل القرآن ؟
الجواب : السبب كما قلت أنه يخلطون بين الهداية الإيمانية والهداية العلمية .
بمجرد أن يهتدى بعضهم إلى الإكتفاء بالقرآن وحده كتابا وحديثا " أى الهداية الإيمانية " يظن نفسه أنه قد حاز أيضا الهداية العلمية ، فيكتب قبل أن يدرس ، ويجتهد قبل أن يحوز أدوات الإجتهاد ، ويفتى مع أنه المفروض أن يسأل ، فيقع فى أخطاء مهلكة ، ثم تكون الفاجعة حين يصرّ على رأيه ، ويصمم عليه ، عندها يكون قد تمكن منه الشيطان .

دور الشيطان
الشيطان دائما يدخل للانسان من نقطة الضعف عنده ، ولا يزال يزين له الغواية حتى يسيطر عليه.
وفى حالتنا هذه فانه يتخذ وسيلته من الهداية الإيمانية التى حصل عليها أحدهم فيجعله يقارن بين الهدى الذى حصل عليه والضلال الذى وقع ويقع فيه كبار العمائم فتتضخم لديه ذاته ويظن نفسه قد أصبح مؤهلا لأن يكون من أولى العلم لمجرد أنه أهتدى بينما ضل كبار الشيوخ، ويتلاعب به هواه أكثر وأكثر فيظن أنه طالما قد أهتدى وضل الأكثرية فأن هذا مسوغ له أن يكون من أولى العلم بدون أن يستعد لبلوغ هذه المرتبة بالإجتهاد اللازم .
وهنا ينجح معه الشيطان ، فقد أفلت من براثن الشيطان حينما كان يسعى للهداية الإيمانية ،فلا يلبث أن يلحق به الشيطان ليضله ويقنعه أنه أصبح مستحقا لأن يكون من أولى العلم بمجرد الإيمان الصحيح فقط .
وبذلك يجعله الشيطان يفقد الهداية الايمانية والهداية العلمية معا ، إذ يجعله يصمم على رأى قد يكون ماسّا بجلال القرآن ، أو يقدح فى جلال الله جل وعلا ، أو يلغى العبادة ..وينتهى به الأمر وقد ضل سعيه فى الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا.
وهناك الكثير من الأمثلة سنتعرض لها فى المقال التالى.
وللحديث بقية

اجمالي القراءات 21653