مضخات الإفتاء.. هوس بالنفاق الديني أم انتحار جماعي؟
المصريون يكتشفون الله

سعد القرش في السبت ١٥ - ديسمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

مضخات الإفتاء.. هوس بالنفاق الديني أم انتحار جماعي؟


المصريون يكتشفون الله


سعد القرش


يبدو المشهد المصري حاليا شديد الإعتام، لا يفتح نوافذ على الخيال، ولا تتسرب من مسامه المغلقة آفاق للتفاؤل؛ ليس بسبب الفساد، وتحالف أصحاب النفوذ مع رجال المال، وشبح توريث الحكم، وتربص الإخوان المسلمين منتظرين أن تسقط الثمرة الناضجة الملوثة في حجورهم، بلا جهد ولا تضحيات.
المشهد قاتم، وأنا حزين ومهموم، لا أستطيع مع قلة عاجزة أن نرمم تصدعات في جسد مجتمع تبدو معظم طبقاته، في حالة من اللهاث وعدم اليقين، فالتمست الراحة الكاذبة بوهم يبدو للمتابع كأنه إعادة اكتشاف الله. لكنه اكتشاف يخلو من البهجة كما تجري العادة مع أي اكتشاف، بل يرتبط بكثير من الجهامة وكراهية الناس والحياة.
في الإحصاء الرسمي المنشور بالموقع الإلكتروني للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يبلغ عدد مواطني مصر بالداخل 72.5 مليون، يسميهم الموقع «سكان مصر».
في التسعينيات، ومع ترشيد الحق في المواطنة، أطلق على المصريين مصطلح «السكان»، ومن أجل مؤتمر السكان بالقاهرة عام 1994 أنشئت وزارة السكان، وتحول المصريون إلى أكبر جالية في بلادهم، ولايزالون.
بشيء من التبسيط فإن مصر تشهد الآن جرائم تبدأ بقلة الذوق، والعنف اللفظي، والتحرش الجنسي بأطيافه، وتنتهي بالقتل لأتفه الأسباب، مرورا بالتهرب من الضرائب وتجاهل فرائض منها ضريبة الركاز التي يسقطها الشيخ الدكتور الداعية المصري-القطري يوسف القرضاوي من حساباته وبرامجه وحماسه.
هذه بانوراما لجرائم تثير الدهشة. بعضها ربما يستعصي على التصنيف في علم الجريمة، لكنها تدرج ضمن علم الأخلاق والذوق والشياكة:
ـ موظف يصور خلسة مؤخرات الفتيات في الشوارع.
ـ مستشار لوزير الصحة يحصل على 2.8 مليون جنيه رشوة.
ـ طبيبة شهيرة تسدد للضرائب 390 قرشا (0.68 دولار) ومكتب استشارات يسدد أربعة جنيهات (0.7 دولار).
ـ مسؤولون كبار بشركة الورق الأهلية يهدرون نحو عشرة ملايين جنيه في صيغة بضائع لعملاء بدون ضمانات.
ـ طالب جامعي ذهب إلى شقيقين مدينين له بمئة جنيه فلم يردا إليه الدين، بل ذبحاه.
ـ حارس يحاول قتل شقيقه الذي يرفض العمل، فيقتل موجها بالتعليم ويصيب أربعة، ثم ينتحر برصاص بندقيته.
ـ شاب يشعل النار في زوجته لأنها سبت والدته.
ـ ضابط شرطة يعذب شابا بوضع عصا في مؤخرته، ويصوره وقائع الاغتصاب بالهاتف المحمول وينشر الفضيحة التي أدت إلى محاكمته.
ـ مواطن بالقاهرة يقتل ابنته البالغة عامين، خوفا عليها من الفقر.
انتحار جماعي
معظم الجرائم تعني أن المصريين مقبلون على انتحار جماعي، بعد انسداد أبواب الأمل، ولم يتبق أمامهم إلا الهوس بتدين شكلي، لا يؤثر في السلوك، ولا يرتقي بالذوق الذي سمعنا منذ القدم أنه "ما خرج من مصر". يحدث هذا في حين يوجد في مصر داعية لكل مواطن. وليس من المستبعد أن يكون هؤلاء المتهمون: القتلة والمرتشون واللصوص والساديون من الذين يبدون غيرة شكلية نفاقية على الدين.
بإحصائية تقريبية يمكن إثبات ذلك. سوف أحاول استبعاد الفئات غير المستهدفة بهوس ما يسمونه الدعوة إلى الله؛ فنظرا لأنهم في رحاب الله سبحانه فهم لا يقربون الجريمة أصلا.
لنستبعد من «سكان» مصر 4.6 مليون فوق سن الستين، و23 مليونا أقل من سن الخامسة عشرة، ونحو عشرة ملايين مسيحي (لا يوجد رقم رسمي بعدد الأقباط المسيحيين)، وخمسة ملايين مريض لا يقوون على الجريمة، و15 مليون سيدة بين محجبة ومنقبة، ومرتدية الشادور الإيراني الذي ينسدل من قمة الرأس إلى ما بعد القدم بشبر، ويجعل من الجسد كتلة واحدة بلا فراغات، ويمكنك أن تلمح تحته بنطلون جينز أمريكيا لكنه يكتسب شرعية إسلامية بتسميته سروالا!
أضف إلى هؤلاء خمسة ملايين عضو بهيئات ومؤسسات وجمعيات وجماعات إسلامية: الجمعية الشرعية، جمعية الشبان الملسمين، جماعة الإخوان المسلمين، جمعية أنصار السنة المحمدية، جماعة التبليغ والدعوة، جمعية دعوة الحق.
هناك أيضا نحو مليون من أسر العاملين بعشرات القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية والصحف «الإسلامية»، وخطباء المساجد والزوايا الموجودة أسفل بناية واحدة على الأقل في كل شارع أو حارة.
مع وجود هامش للخطأ، أو تداخل فئة مع أخرى، أو حصر إحدى الفئات أكثر من مرة، فإن أكثر من 64 مليونا أعادوا اكتشاف الإسلام، وعرفوا طريق الله سبحانه، وليسوا موضع شك في ارتكاب جرائم، أو من المسيحيين المسالمين.
إذا استبعدنا الفئات السابقة، فإن أقل من تسعة ملايين مصري هم وحدهم المستهدفون بنحو 250 ألف مسجد، وأكثر من نصف مليون من مكبرات الصوت التي تضخ في الشهر الواحد ملايين الخطب، إضافة إلى آلاف البرامج الدينية، وملايين الملصقات الخالية من الجمال، تحاصرك أينما وليت وجهك: من عربات المترو إلى دورات المياه والسيارات، حتى المصاعد وباب بيتك، فضلا عن ملايين من أشرطة الكاسيت تطاردك في وسائل المواصلات بمعظم أشكالها، أو تقتحم عليك بيتك، وتتدخل في تفاصيل حياتك، بداية من حكم تارك الصلاة إلى المرأة التي تصبح زانية إذا تعطرت: هكذا إذن يزايدون على القرآن، ويطلقون أحكاما تدعو إلى النفور من الدين.. أي دين.
مضمون مضخات الإفتاء يركز على القشور، ولا يترك في النفوس أثرا؛ فاللافتات تسهم في بناء مواطن هش، أحادي البعد، لا يفكر في شيء، ولن يشغله أكثر من دخوله الجنة، والاستفادة بسبعين من الحور العين المسخرات لمنحه لذة واسترخاء وبلادة، بدون أن يبذل جهدا بعد أن أصبح «الحجاب طريقك إلى الجنة»، وقناة فضائية لتاجر خليجي «تأخذك إلى الجنة».
لم يحدث أن تأثر أحد بالأذان وإقامة الصلاة وإذاعة القرآن في مكبرات الصوت، أكثر من الذين يدخلون المساجد كل صلاة. لم يفكر مسؤول مصري في إلغاء بدعة، تسيء إلى الدين ولأي قيمة إنسانية، اسمها مكبرات الصوت، وإعادة سنة الأذان فوق المآذن بأصوات طبيعية جميلة. في قريتنا، كان الشيخ عثمان ذا صوت عذب، يرتل القرآن ترتيلا، ويؤذن للصلوات، من فوق مئذنة، فنسمعه في الغيطان، على بعد ألفين أو ثلاثة آلاف متر، قبل أن تضيق المآذن بالمؤذنين حسني الصوت، وتتسع لمكبرات معدنية يتبارى في زرعها، بلا داع، كثير من الذين لا تعرف مصادر أموالهم. كان أبي حريصا على صلاة الفجر كل يوم، لا يحول دون ذلك برد شديد، أو مطر تزل بسببه الأقدام. لا أحد يجرؤ الآن على المطالبة بأن يكون مكبر الصوت في المساجد للأذان فقط، حرصا على المرضى والنيام. المفارقة أن المكبرات التي تعمل قبل أذان الفجر بساعة، وينطلق منها الأذان مرتين، لم تفلح في زيادة أعداد المصلين. هم أنفسهم الذين يذهبون إلى صلاة الفجر في ليالي البرد والمطر، حين تنقطع الكهرباء وتتعطل مكبرات الصوت.
استثمار دموع البسطاء
هناك عبادات شكلية «مستحدثة»، من أجلها تغلق شوارع مجاورة لبعض المساجد لأكثر من ساعتين، في شهر رمضان بحجة صلاة التراويح، وجلسات دعاء أشبه بجلد الذات، لها «أبطال» يستعيرون أصواتا ونشيجا لاستثارة دموع البسطاء، وتسجيلات بأصوات قبيحة تردد أسماء الله الحسنى. لم يؤثر عن الصحابة أن مارسوا جلسات «مازوكية» أصبحت جزءا من الصلاة، وسلعة مربحة؛ إذ تنسخ منها أشرطة جعلت من وسائل المواصلات والشوارع جحيما. فإذا كان الدعاء نوعا من التطهر الشخصي، الخفي، بين الإنسان وخالقه الذي يعلم السر وأخفى، فكيف يتحول إلى تجارة في صيغة عصاب جماعي، ليس أكثر من بدعة. لكنهم يتجاهلون، في مثل هذه الحالة، أن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.. بل هي النار ذاتها.
الهوس بالتدين الشكلي هو البديل العصري لغياب الخيال، وقلة الحيلة، واستعادة التوازن النفسي بعد ارتكاب كبائر تجعل صاحبها خاضعا لإحساس بذنب، فيلجأ إلى إيهام نفسه ببديل مريح يشبه هوس الثراء السريع، في غياب قيمة العمل، وهو ما يتجلى في حوادث البحث عن آثار في بيوت فقراء تزهق أرواح كثير منهم، تحت الركام أثناء البحث عن الأوهام.
مضخات الإفتاء تعمل بلا توقف، وتتناول بجرأة كل شيء، تمتد خراطيمها من المنبع إلى المصب، فلا تطفئ خطأ ولا خطيئة. لكن المتحكمين فيها لم يسألوا أنفسهم: لماذا لا تؤثر المواعظ والخطب وأحاديث الترويع والترهيب في النسبة القليلة المتبقية من الشعب، حيث يصبح لكل مواطن، في اليوم الواحد: واعظ، وخطبة، وشريط كاسيت، وبرنامج إذاعي وآخر تلفزيوني، وملصق؟
مفتي مصر الدكتور علي جمعة (الدكتور) اشتهر بكلامه عن بول النبي، وتبرك الصحابة به، وهو كلام واكب فتوى أخرى، من هذا النوع البولي، لأستاذ بجامعة الأزهر بأن ترضع المرأة زميلها في العمل، استنادا إلى كلام نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أزمنة الردة الدينية. فتوى رضاعة الكبير لا ذنب للرجل فيها، سوى أنه تأخر عن إطلاقها أكثر من ألف عام، وهي موجودة بالطبع في كتب يجب أن نقرأها من باب التسلية لا العبادة.
دار الإفتاء التي يرأسها مولانا المفتي (الدكتور) أصدرت بيانا يحرم الهجرة غير الشرعية، بحجة تعرض النفس للأذى. هي كلمة حق أريد بها باطل، لو نظر المفتي حوله، وتفكر في خلق السماوات والأرض، لتحمس لفتوى تحدد موقفه من فساد وقح، ونهب منهجي لخيرات البلاد، يدفع الشرفاء لهذا الانتحار الجماعي في البحر، هروبا من جحيم مصر. لم يذكر المفي حكم الإسلام في قتل المواطنين (السكان) في البر والبحر بلا ثمن على أيدي مسؤولين يصمتون أو يتواطأون. أو يصدر فتوى تحرم توريث الثروات والشعوب في العالم العربي لأبناء الحكام. لا نريد منه بطولة، بل تذكيرا بالآية القرآنية «ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم». لم يصدر فتوى بحرمة الإسراف في أداء الحج والعمرة، إذ حققت مصر رقما قياسيا، وطلعت الأولى في أعداد المعتمرين في الشهرين الأخيرين. وفقا للتصريحات الرسمية، فقد بلغ ما أنفقه المصريون خلال موسم العمرة الأخير ثلاثة مليارات ونصف المليار جنيه.
لم تساهم هذه المليارات في خفض نسبة الجريمة، أو التحكم النسبي في انهيار الذوق العام في الشارع، فعلى سبيل المثال يؤكد المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية وقوع جريمة اغتصاب كل 30 ثانية. أمام حقيقة كهذه، لا يجدي حج ولا عمرة ولا فتاوى في خدمة النظام السياسي.
المفتى (الدكتور) يحرص على النقوط في الفرح السياسي، عن طريق فتاوى تضمن له النشر مصحوبا بصورته الشخصية، وهذه الفتاوى تسيء للإسلام، مثل فتوى أخيرة صدرت مطلع هذا الشهر (نوفمبر تشرين الثاني 2007) تحرم حرق قش الأرز واعتبار ذلك كبيرة من الكبائر!
يعلم المفتي (الدكتور) أن السياسة متقلبة وتخضع لاعتبارات تختلف عن ثوابت الدين، فاليوم مسموح بالاتجار في العملة، وكانت قبل سنوات جريمة يعاقب عليها القانون، ولو استفتيت دار الإفتاء آنذاك، لقالت إنها من الكبائر.
بمناسبة موسم الفتاوى السلطانية، لاحظنا صرعة الفتاوى التي تحاصر الناس في التلفزيون والمترو بتحريم ختان الإناث، وأنه ليس من صحيح الدين. هذا أمر مهم، وتأخر كثيرا، لكنه جزء من حملة خارجية تتبنى حماية أجساد البنات من الانتهاك. عرفت هذه الممارسة غير الإنسانية منذ القدم، وسكت عنها الفقهاء ودافعوا عنها، ومع الاهتمام الغربي بالأمر أعادوا قراءة السنة النبوية، وهو اكتشاف لو تعلمون عظيم!
أتساءل:
لماذا تزيد نسبة الجرائم مع تصاعد مظاهر وآليات النفاق التي تدعي إعادة اكتشاف الله، وما يترتب عليها من تدين شكلي لا يغير السلوك اللفظي أو العملي؟
ألا يحتاج الأمر إلى إعادة النظر، والتفكير في أن أحد طرفي المعادلة ـ الدعاة والشعب ـ ليس على صواب؟
سأفترض أن من يسمون أنفسهم «الدعاة» على صواب والشعب مخطئ، وعليه أن يتغير. ولكي يتغير الشعب، يجب التفكير في البحث عن صيغة أخرى غير هوس ديني كاذب اجتاح مصر منذ ثلاثين عاما، وظل ينخر في الذاكرة المصرية التي عرفت فجر الضمير، وابتكرت الذوق وفنون الحياة، لكنها استجابت ظاهريا ومؤقتا لبعض المظاهر غير المصرية، تحت وطأة نفوذ بدوي كاره للموسيقى، وجيش العائدين من الحجاز حاملين عادات لا تصلح للزراعة في تربة تتحدى الزمن بغناء المواويل.
الكارثة أن يخشى الناس الفرح، ويزهدوا في الجمال، ويتوقفوا عن سماع الموسيقى.. آخر مباهج الحياة.
ــــــــــــــــ
ـ صحيفة «القدس العربي» لندن ـ 14 / 11 /2007
ـ صحيفة «الدستور» القاهرة ـ 16 / 11 / 2007

اجمالي القراءات 10552