الكائن البشري الرّحمادي الحيوي

سامر إسلامبولي في السبت ١٧ - نوفمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

                     الكائن البشري الرّحمادي الحيوي    إن الكائن البشري هو ابن الأرض، فهو آخر أبنائها ظُهُوراً وأكملهم خلقاً، وقد مضى على ظُهُوره على وجه الأرض مدة طويلة لا تقل عن بضع مئات الآلاف من السّنين، بخلاف تاريخ الإنسان المذكور في الكتب السّماوية فهو لم يمض عليه أكثر من عشرين ألف سنة تقريبا، ممَّا يدل على أنَّ الكتب السّماوية لم تذكر تاريخ هذا الكائن البشري قبل أن يصير إنساناً فاعلاً عاقلاً، وذلك لانتفاء صنع الحضارات والأحداث بينم&ilde;ا نجد أنَّ الكتب السّماوية قد تعرضت لذكر مسألة خلق هذا الكائن ابتداء وكيف نما وتطور وصار نسله من ماء مهين، فهذه المسألة يجب الانتباه إليها أثناء الدّراسة، والتّفريق بين تاريخ البشر كخلق وتطور، وتاريخ الإنسان كحضارة وأحداث، ولكل منهما علم خاص به.
إن الكائن البشري لا يختلف في وُجُوده الفيزيولوجي كثيراً عن سائر الكائنات الحية التي تشاركه الحياة على سطح الأرض، وكون هذا الكائن ابن الأرض فهو يتمتع بصفات الأرض، ويتركب جسمه من عناصر الأرض ذاتها.إنه كائن رحمادي ممزوج بالطّاقة الحيوية له غرائز وحاجات عضوية لابد من إشباعها ليحافظ على وُجُوده الفيزيولوجي من أن يتحول إلى صُورة أخرى فيفقد وُجُوده البشري، ويرجع إلى أمه الأرض التي سوف تقوم باحتضانه في رحمها، وتحلل جسده إلى العناصر الأولى التي أعطته إياها سابقاً، والرّوح ملازمة للمادَّة تعود لتظهر مرة أخرى في صُور مختلفة من النّبات الذي يتغذى وينبت من التّربة. فالرّوح( كنظام ) التي كانت موجودة في بنية الكائن البشري عادت إلى أصلها لتشكل علاقة جديدة، وتظهر بصُور أخرى للمادَّة، وهكذا تستمر دورة الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والحياة كما هو مشاهد في الواقع قائمة في أصلها على الماء، فحيثما وجد الماء وجدت إمكانية الحياة للكائنات الحية من نبات وحيوان وبشر. قال تعالى: ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) الأنبياء 30.
والماء الذي هو أصل الحياة ليس بصُورته السّائلة، وإنَّما بأصله الغازي المولد للماء، وهو غاز الهيدروجين. ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) فصلت11.
واستمر تطور هذا الكون منذ بدء نشوئه من صُورة إلى أخرى أرقى من السّابقة إلى أن وصل إلى المستوى المطلوب، الذي يمكن للحياة أن تستمر فيه من خلال عملية توالد الموجودات من بعضها من جراء علاقات زوجية تفاعلية معقدة قال تعالى: ( الرحمن على العرش استوى ) طه 5. ( )وقال : ( وقد خلقكم أطوارا ) نوح 14.

وقال: ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) الذّاريات 49.
فثبتت علاقة وحركة الكون مع بعضه على الوضع الرّاهن
قال تعالى:(( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) الأحزاب 62.
واستمر الكون في رحماديته على نظام الثّابت والمتغير، وفي هذا الكون وعلى كوكب الأرض تحديداً ظهر الكائن الرّحمادي الحيواني البشري في المشروع الإلهي للخلق على سلم التّطور بإرادة سابقة من الخالق. لذلك لا نجد في النّص القرآني أي خطاب موجه إلى الكائن البشري نحو: يا أيها البشر. فالبشر ليسوا بمحل خطاب أو تكليف، والقرآن يذكر البشر في سياق الخلق وتطوره أو تحديد الجنس نحو قوله تعالى:
( وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهرا) الفرقان 54.
) وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) يوسف 31.
( إني خالق بشرا من طين ) ص 71.
فالوُجُود البشري مثله مثل وُجُود أي كائن حي آخر، فلا يُوجد هناك فرق بين الطّاقة الحيوية الموجودة في أجنة الحيوانات، والطّاقة الحيوية الموجودة في الأجنة البشرية، ناهيك عن أنَّ الطّاقة الحيوية موجودة ابتداء في الحيوان المنوي لكل الكائنات الحية.
والموت للكائنات الحية (النّبات، الحيوان، البشر) هو انتهاء صلاحية تركيبة الحياة البدائية على شكلها المتطور، فتفقد صفة استمرارها بهذا الشّكل فتعود إلى أصلها سواء أكان ذلك بفعل فاعل نحو أن يقوم الإنسان بقتل الحيوان أو قطع الأشجار. فبعمله ذلك يوقف تفاعل الطّاقة الحيوية وعلاقتها مع بعضها بعضاً ضمن نظام محدد، وبتوقف تفاعل الطّاقة ترجع إلى صُورتها الأولى البدائية، وتختفي العلاقة التي كانت تشكل حياة هذا الكائن الحي، ويصير في خبر كان موجوداً، أم كان ذلك بعامل الزّمن، وهو انتهاء التّفاعل الجدلي للطّاقة الحيوية ضمن هذه الصّورة فيتوقف وُجُود الحياة فيها لتعود إلى أصلها. فعناصر الحياة موجودة في الواقع ولكن مجرد وُجُودها لا يكفي لوُجُود صُورة الحياة المتطورة بل لابُدَّ من فاعل يقوم بإيجاد علاقات فيما بين هذه العناصر لإخراج صُور للحياة مركبة ومعدلة، وقد فعل ذلك الخالق عندما جعل هذه الكائنات (النّبات، الحيوان، البشر) تتوالد من جراء نظام وضعه في بنيتها (الجينات).
قال تعالى: ( هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ) غافر 67، فأصل الخلق من تراب وماء، أما ظُهُور الحياة بهذا الشّكل فهو تدخل وتدبير إلهي في جعل الحياة تستمر وتتوالد في صُورها وفق المشروع الإلهي ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ، ثم جعل نسله من ماء مهين ) السّجدة 7 ـ 8، فالأمر أشبه بوُجُود مواد للبناء مخزنة ومهما استمر وُجُود هذه المواد المعدة للبناء في المستودع لا يمكن أن يتشكل منها أي صُورة، فلابُدَّ من وُجُود الفاعل العالم الذي يقوم بإيجاد علاقات معينة بين هذه المواد لتشكيل صُور محددة منها قد أرادها الفاعل سابقاً. وهذا ما قصده الخالق عندما استخدم فعل (الخلق) أولاً ثم استخدم فعل (الجعل) لاحقاً. فعملية الجعل هي عملية لاحقة لعملية الخلق، وهي تغير في الصّيرورة فكان أصل الخلق من تراب وماء وصار الآن من ماء مهين الذي يحتوي على صُورة مختزلة لقصة حياة الكائن الحي في شكله المتطور. وعندما وصل هذا الكائن على سلم التّطور إلى عملية التّسوية والتّعديل والانتصاب على قدميه وتسوية ظهره وإطلاق يديه قال الخالق للملائكة:
) إني جاعل في الأرض خليفة ) البقرة 30، انتبه إلى كلمة (جاعل) ولم يقل: خالق. لأنَّ الكائن المقصود بالكلام موجود على الأرض، فقالت الملائكة:( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) وهذا النّص يدل بشكل واضح على أنَّ الخالق قد حدد لمقام الخلافة كائن يعيش على الأرض مشاهد من قبل الملائكة لذلك أظهروا استغرابهم من أن يكون هذا الكائن الأرضي خليفة وهم يشاهدونه يفسد ويسفك الدّماء! فمن أين تكون له الخلافة على هذا الوضع، لأنَّ الخلافة كمقام يلزمها مؤهلات، وهذا الكائن لا يتصف بها، وهذا يدل على أنَّ الملائكة لا تعلم بالمشروع الإلهي إلا ما يظهر منه في الوُجُود تباعاً، وأشار الملائكة إلى أنفسهم بأنهم مخلوقات راقية تسبح بحمد الخالق وتعظمه، وبالتّالي فهم مرشحون لأن يكونوا في مقام الخلافة. فقال لهم الخالق: ( إني أعلم ما لا تعلمون ) ولم يطلعهم على مشروعه في كيفية جعل هذا الكائن البشري خليفة في الأرض!.

اجمالي القراءات 5924