المنهج الصحيح في قراءة القرآن الكريم (1)
المنهج الصحيح في قراءة القرآن الكريم (1)

مهيب الأرنؤوطي في الأحد ٠٤ - نوفمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة:

هذا هو الجزء الأول والذي يتناول فقط الأسس التي يقوم عليها المنهج:

بداية أحب أن أشير إلي أن عنوان الموضوع والذي يحمل عبارة: (المنهج الصحيح لقراءة القرآن الكريم) قد يجعل البعض يتهم الكاتب بالغرور وأحادية الرأي (وحاشا لله أن أكون كذلك)، فمن الملاحظ أنني قد وصفت المنهج الذي أسرده هنا بأنه صحيح مقدماً...... ولعل القارئ يتساءل: ما الذي جعلك تصف منهجك بأنه صحيح، إذ أن ما تراه أنت صحيحاً قد يراه غيرك خلاف ذلك، ولكن إذ صبر القارئ الكريم وقرأ الموضوع كله &Yaing; فسوف يتبين أن هذا المنهج صحيحاً تماماً، فالمسألة لا تتعلق بغرور الكاتب (لا سمح الله) من قريب أو بعيد، ولكن الكاتب هنا قد استند إلي معيار ثابت يقيس عليه مدي صحة هذا المنهج بدقة شديدة، والمعيار هنا هو "كتاب الله"، إذ أنني حاولت استقاء هذا المنهج من كتاب الله تعالي مباشرة ما استطعت إلي ذلك سبيلاً، أما البعض الآخر (وهو القليل) فإنني قد اعتمدت فيه علي فهمي واجتهادي البشري الذي لا يسلم أحياناً من الزلل، وعموماً فإن الخطأ مردود، ولا شك أن المناقشة البناءة سوف تثري الموضوع وتكون لها الفضل في تصحيح نسبة كبيرة من هذا الخطأ....... فالله هو الموفق والمعين وهو يهدي السبيل.

إن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد المعاصر علي وجه تلك البسيطة الذي يهيمن علي ما سواه من الكتب، فهو الكتاب الوحيد المحفوظ من الله عز وجل إلي أن تقوم الساعة، كما أنه يحتوي علي جميع الأحكام الخاصة بالتحليل والتحريم الواضحة كل الوضوح رغم اختلاف بعض المشككين في ذلك وهذا ينبع من جهلهم بطبيعة هذا الكتاب وعظمته، فأحكام التحليل والتحريم قاطعة لا تحتاج إلي تأويل أو التفاف، ذلك لأن عدل الله تعالي يقتضي أن يكون حسابه يوم القيامة عادلاً ليس فيه مثقال ذرة من ظلم ولا أصغر من ذلك، فمن غير المعقول أن يعاقب سبحانه أناساً قد التبست عليهم شبهات الحلال والحرام لعيب يرجع إلي القرآن نفسه من خلال فهمه (حاشا لله تعالي)، وكذلك فإن كل التكاليف الأخري شأنها في ذلك شأن التحليل والتحريم كلها واضحة تماماً ليس فيها أدني التباس لتكون حجة علي الناس يوم القيامة أو حجة لهم كما سنفصل ذلك في الجزء الثاني إن شاء الله.

هذا هو الفهم الصحيح لكتاب الله تعالي، فلا يصح أن يدعي مُدَّعِ أن الإسلام الحقيقي لا يمتلكه أحد وأن ما يقوله أي إنسان عن الإسلام إنما ينبع من مفهومه الشخصي وليس له علاقة بالإسلام الحقيقي!!....... هذا محض هراء وافتراء يبرأ منهما الله تعالي، وإلا فما كان هناك داعياً للإسلام من أساسه إن كانت طبيعة هذا الكتاب تجعل الناس يختلفون في فهمه، فهذا حلال عند شخص وحرام عند شخص آخر، لأن ذلك كما قلنا يتنافي مع عدل الله ونزاهته سبحانه.....!!

علي أننا يجب أن نتذكر دائماً قاعدة منهجية مهمة جداً حينما نقرأ القرآن العظيم، ألا وهي أن القرآن لم ينزل إلينا وحدنا، إذ أنه قد أُنزل للجن أيضاً، كما أنه قد أنزل لمن قبلنا ولمن بعدنا من الأنس إلي أن تقوم الساعة، لذا فلا ينبغي أن يفزعنا الوقوف عند أشياء فيه لم نفهمها (فيما لا يتعلق بالتحليل والتحريم أو العبادات طبعا)، فلا ينبغي مثلاً أن نتهمه بالتاريخانية لأنه يتكلم أحيانا عن فئة بعينها كانت معاصرة للرسول صلي الله عليه وسلم كالمنافقين مثلاً، أو مخاطبة زوجاته الكريمات، أو أحكام شخصية تتعلق بالرسول وحده، فالقرآن الكريم يخاطب أيضاً كل فئات البشر الأخري في كل زمان ومكان وهذا سر تفوقه وتفرده عن الكتب الأخري.

لا ينبغي أيضاً أن نقف عند آيات لم نفهم معناها فنسعي إلي اعتساف تأويلها تبريراً مناً بأن القرآن قد نزل إلينا كبشر، ولذلك فإنه مناسب لعقولنا جميعاً لأنه نزل ليخاطبنا نحن، ولذلك فإن الموضوع لا يحتاج منا سوي قدراً يسيراً من الاجتهاد الذي سوف ينتج عنه فهمنا لكل حرف فيه، فالذي جعلنا نفهم الرياضيات والفيزياء وعلوم الهندسة الرواثية وعلوم الفضاء، يجعلنا أيضاً لا نعجز عن فهم هذا الكتاب العظيم، فمن يتخيل ذلك فهو بالطبع غارقاً في أوهام ثقيلة، وهذا لأسباب قد أوضحناها سابقاً وسوف نفصلها تفصيلاً دقيقاً فيما بعد، فقد يفهم الناس جميع العلوم الكونية ويتفوقوا فيها ولكن لا يستطيعوا فهم ولو آية واحدة من القرآن العظيم فهماً صحيحاً إضافة إلي أن آيات القرآن الكريم (وأكرر فيما لا يتعلق بالتحليل والتحريم أو العبادات) يتغير فهمها حسب السقف المعرفي لكل عصر فضلاً عن أن القرآن الكريم هو قول ثقيل يحتاج إلي تدبر وتأن وترتيل: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل 5).

علي أننا إن أردنا تدبر القرآن الكريم فيجب ألا نقوم بالتعامل معه ككتاب علمي مثل كتب الفيزياء والرياضيات أو غيرها، فتكون دراسته حينئذ دراسة جافة صماء نخرج منها بنتائج مؤسفة لا تتفق وعظمة القرآن الكريم، إذ أننا يجب أن نتذكر دائماً أن فهم القرآن الكريم هو من أكبر النعم، بل هو أكبر نعمة في الوجود يمن بها الله تعالي علي من يشاء من عباده فيهبها للبعض ولا يهبها للبعض الآخر، وهذا ما غفل عنه الكثير حينما وضعوا مناهجهم في تدبر القرآن وفهمه، فقد تعاملوا معه ككتاب أصم وأقبلوا علي دراسته دون الاستعانة بالله تعالي في فهمه، فظنوا أن ما يضعونه من مقدمات منهجية سوف تؤدي بهم إلي نتائج حتمية تؤدي بدورها إلي فهم هذا الكتاب العظيم، وبالطبع فإن الأمر ليس كذلك أبداً لأنهم تعاملوا معه ككتاب بشري فلم يدركوا عظمته، وهذا ليس هو المنهج الصحيح في تدبره لأنه يخالف طبيعته وما أحيط به من سياج لا يتجاوزها إلا من كان مؤهلاً لذلك.

يجب ألا ننسي أيضاً أن الذي صاغ القرآن الكريم هو سبحانه الذي خلق الكون، وانطلاقاً من ذلك يجب أن نتذكر دائماً أننا لن نحيط بالأسرار الكلية الكامنة في آياته مهما أوتينا من علم ومعرفة كعدم قدرتنا علي الإحاطة بالكون تماماً، فيجب أن نقف عند حدودنا مُسَلِّمين بقصور عقولنا ومحدوديتها فلا نقحم أنفسنا في الكشف عن كل أسراره لأننا لن نستطيع فعل ذلك أبداً كما قلنا سابقاً، وذلك للأسباب التي أوضحتها سابقاً، ومن تلك الأسباب أيضاً أن الله تعالي قد جعله سبباً في إضلال الكثير من الناس وزيادة لهم في الخسران المبين (والعياذ بالله): (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا) (الإسراء 82)، ويقول أيضاً: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ*وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة 124، 125)، لذا فإن الله تعالي قد ترك مساحة للبشر حتي يُشككوا فيه مبتغين الفتنة ومبتغين تأويله وهؤلاء هم الذين في قلوبهم زيغ كما سماهم القرآن الكريم: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (آل عمران 7).

ومن تلك الآيات أيضاً ما لا يمكن لنا كشف أسراره مثل: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) (هود 7)، (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) (الحاقة 17).

والآن نستطيع أن نلخص الأسس التي يقوم عليها هذا المنهج حتي نفهم القرآن العظيم من خلال قراءته وتدبره، والأسس هي:

1- الاستعاذة والدعاء والسجود والبكاء من خشية الله أثناء القراءة:
إن الكثير من الناس يظن أنه من الممكن فهم هذا الكتاب العظيم دون تحقيق تلك الخطوة، ولكن الحق تبارك وتعالي جعلها من أهم الخطوات لهذا الفهم، يقول تعالي: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل 98)، كما أمرنا أيضاً ندعوه مبتغين من فضله أن يعلمنا آياته وأسراره، فيقول سبحانه: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه 144)، ويجب أن يخشع قلب هذا القارئ لذكر الله تعالي وما نزل من الحق، فيسجد باكياً لله تعالي متضرعاً له أن يرحمه ويهديه إلي معرفة أكبر نعمة في الوجود وهي القرآن العظيم: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ) (الإنشقاق 21)، (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم 58)، (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا*وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً*وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء 107، 109).

فهل يفعل ذلك من يقدم لنا المناهج المختلفة في دراسة هذا الكتاب العزيز؟؟!! بالطبع لا، إذ أن وعد الله حق وكلامه حق، ومن ثم يكون العيب كل العيب فيهم هم، إذ أنهم يحاولون فهمه، بل ويقدمون للناس طرق شتي في فهمه، وهم في الحقيقة أول الناس الذين يحتاجون إلي الفهم الصحيح له!!

إن تلك الخطوة من الأهمية بمكان لدرجة أن القارئ لا بد أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ليس في بداية القراءة فقط، ولكن أثناء القراءة أيضاً كلما راوده الشيطان في حالة تعثره في القراءة وفي حالة الوسوسة التي تنتابه أثناءها، وكذلك إذا أنتابه هاجس أثناء القراءة يجعل ذهنه يشت بعيداً عن الآية أو محاولة تأويلها بما لا يتفق والواقع والحق، أو يجعله هذا الهاجس يقحم نفسه في أمور الغيب التي لن يصل إليها مهما أوتي من العلم، وكذلك عندما يحاول فهم الآيات مستحيلة الفهم والذي ضربنا مثلان عليها وهما (هود 7)، (الحاقة 17)، ويجب أن يدعو ربه بين الفينة والأخري متضرعاً ومتوسلاً إليه ساجداً له طالباً بخشوع وتذلل أن يزيده من علمه في فهم هذا الكتاب وأن يمن عليه بتلك النعمة العظيمة.

2- معرفة حدود العقل: لا بد للمسلم أن يحترم عقله الذي خلقه الله تعالي له، فهو مناط التكليف، وبه يعرف الحق من الباطل، والحلال من الحرام، بل إنه يعرف به ما هو أكبر من ذلك..... إنه يعرف به خالقه عز وجل، كما يعرف به حدوده كمخلوق بشري في هذا الكون.

ولعل أول مظاهر احترام الإنسان لعقله هو أن يدرك أنه قاصر، وأن له مدي محدود لا يستطيع أن يتجاوزه، فكما أن للرؤية مدي محدداً وكذلك للسمع، فللعقل أيضاً كذلك، فيجب أن يعي المسلم أن عقله قد خُلِقَ لمعرفة خالقه أولاً، ثم لوظيفة استعماره في الأرض ثانياً، إذ يمكن للمسلم من خلاله أن يدرك وجود إله واحد من خلال النظر في آيات الكون وعجائب المخلوقات والنظام والسنن الثابتة العظيمة المطردة بطريقة منقطعة النظير، وأيضاً من خلال المنطق والتفكر اللذان هما من أهم وظائف هذا العقل، والسير في الأرض للنظر في كيفية بدء الخلق، وكذلك العمل الدائب لاستخراج كنوز الأرض المخبوءة في باطنها ودراسة القوانين الرياضية والفيزيائية والبيولوجية، وما إلي ذلك حتي تتحقق له الخلافة في تلك الأرض.

أما أن يجهد المسلم نفسه في أمور لا طائل من ورائها فهذا لن يوصله يوماً إلي ما يتخيله علي الإطلاق كمعرفة ذات الله أو ماهية الملائكة أوتفاصيل الجنة والنار من خلال العقل، أومعرفة ميكانيزم الحياة وكيفية إيداعها في كائن حي حتي ولو كان حيوان وحيد الخلية (كالأميبا)، فكل تلك الأمور خارج حدود العقل تماماً، ويجب أن يعلم أنه آثم علي إعمال عقله في كل ذلك، بل ومعاقب لا محالة علي تجاوزه لحدوده وانشغاله بأشياء لم يكلفه الله بها عن أشياء أخري أمره بها.

3- تقوي الله والبعد عن المعاصي: من الظواهر المتفشية أن تجد مثلاً شخصاً يقبل علي قراءة القرآن ودراسته بتدبر وفي فمه سيجارة مشتعلة مستنداً إلي حجة داحضة ألا وهي أن التدخين مكروه وليس حرام!!.... أو تجده يفعل ذلك وهو يلغو بكلام لا طائل منه بل ومنهي عنه أصلاً.... ألخ، وقد نسي هذا الشخص أن الله قد قال في كتابه الكريم: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) (البقرة 282)، إذ أنه لا يمكن أن يتعلم كتاب الله تعالي دون تقوي مهما وصل إلي أعلي الدرجات العلمية في العلوم الدنيوية، ومهما فهم أصعب المعضلات الرياضية والفيزيائية، فسوف يظل قاصراً كل القصور عن فهم هذا الكتاب العظيم.

وكذلك فإن ارتكاب المزيد من المعاصي يقف حائلاً دون فهم كتاب الله تعالي، بل ودون الإيمان ذاته، فقد قال الله في كتابه عن المكذبين بيوم الدين: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين 14)، وقد قال تعالي عن اليهود: (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) (البقرة 88)، وقال عنهم ايضاً: (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء 155)، يقول سبحانه أيضاً عن الذين في قلوبهم مرض عندما تنزل عليهم سورة من القرآن: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة 125)، وقال أيضاً: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا) (الإسراء 82)، بل والأدهي من ذلك والأمر أنه يرفض الحق كلما يُعرض عليه من فهم صحيح للقرآن، وبذلك فإنه يتجاوز مرحلة عدم فهمه للآيات إلي رفض الفهم الصحيح لها نتيجة لاستكباره عنها، وبالطبع فإن هذه تعتبر مرحلة متأخرة تماماً عن سابقتها وقد لا يرجي منها شفاء كالمرض الخبيث تماماً، إذ تتعطل فيها مستقبِلات الهدي لديه فلن يعد يستقبله ويصر علي عناده وضلاله وإضلاله للناس: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (لقمان 7)، وقال أيضاً بهذا الصدد: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) (الكهف 57)، وقد قال الله تعالي أيضاً عن الذين لا يؤمنون بالقرآن عن كبر وصدود عن الحق: (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) (فصلت 14).

4- عدم اللجوء إلي الروايات في تفسير القرآن العظيم، وكذلك أسباب النزول:
إن تلك الخطوة من الأهمية بمكان، وقد أشبعناها بحثاً قبل ذلك، ونستطيع أن نلخص ما قلناه علي عجالة في أن تلك الروايات لا فرق بين الآحاد والمتواتر منها، فكلها روايات ظنية، بيد أن الروايات التي توافق القرآن الكريم (فيما لا يتعلق بأحكام شرعية أو عقدية) فيجب ألا نصدقها وفي ذات الوقت يجب ألا نُكذبها، وإنما يؤخذ بها من باب مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال مع عدم إلزام الرسول صلي الله عليه وسلم بقولها، ومن أراد أن يتزيد من هذا الموضوع فعليه بقراءة المواضيع الخاصة بذلك في موقعنا العظيم (أهل القرآن).

أما أسباب النزول فهي ظنية أيضاً ولا ينبغي الاستشهاد بها، بل وبالتاريخ كله إن أمكن ذلك، فمعلوماتنا عن الصحابة الكرام وأزواجه أمهات المؤمنين، بل وعن الرعيل الأول كله الذي كان معاصرة للرسول صلوات ربي وسلامه عليه لا تتعدي الظن المحض الذي لا يصل أبداً إلي مرتبة اليقين بحال.

منهجية البحث: هناك من يتبني التيارات المناوئة للانحرافات المذهبية، وبالطبع فإن التيار الصحيح الوحيد المناوئ لها هو كتاب الله تعالي وفهمه كما ينبغي، أما بقية التيارات الأخري فهي لا تعدو أن تكون تمرداً علي الكهنوت المذهبي ولكن بصور منحرفة، إذ يحاول أصحاب تلك التيارات أن يفسروا كتاب الله تعالي بما يتفق مع أهوائهم الشخصية بما يرونه من إصلاح وتقدم مع أن ما يرونه يخالف الحق تماماً، فيُحمِلون نصوصه ما لا تُطيق ويقومون بتأويله أبشع تأويل، فبعضهم من ينكر ما جاء به من تشريع، والبعض الآخر يُسقط تكاليفه من صيام وزكاة وحج مُدّعين مثلاً أن الصيام ليس امتناع عن الطعام والشهر ليس مدة زمنية كما يعرف جميع الناس، ومن ثم فقد فسروا الشهر بطريقة غريبة جداً يبرأ العلم نفسه منها وجعلوا ذلك ذريعة لإنكار الصيام، وأن الإسلام لا يعني سوي مسالمة الآخر، وعلي ذلك فإن المسلم في نظرهم هو من يسالم الناس ويُقِر حرية الفكر فقط، فالنصراني عندهم مسلماً واليهودي كذلك، بل والملحد عندهم يعتبر شيخ الإسلام إذا ما توافرت فيه تلك الصفة!!، وأن المؤمن هو من يؤمن غيره من الشرور والآثام وأن الذَكَر ليس هو الذَكَر، وأن الأنثى ليست هي الأنثى!!...، والبعض الثالث يُنكر الآيات التي نزلت علي الرسل، فيدعي مثلاً أن نار النبي الكريم إبراهيم عليه السلام ليست ناراً حقيقية..... الخ، وقد جعل هؤلاء (العلم البشري) حكماً علي كتاب الله تعالي، فما يتفق مع العلم من القرآن فهو صحيح في نظرهم، وأما الذي لا يتفق معه فيجب ألا يأخذوا به، بل يجب تأويله بما لا يتفق مع العقل والمنطق حتي يبرروا انحرافاتهم الفكرية والعقائدية، وبذلك نجدهم قد حملوا نصوص القرآن علي المنهج العلمي وحاكموها إليه، وبالطبع فإن العكس هو الذي كان يجب أن يحدث، أي أن القرآن يجب أن يكون حكماً علي ما سواه وليس العكس، وبالتالي فإنهم قد أصبحوا أخطر علي الإسلام من الكهنوت المذهبي نفسه بكل أنواعه، بل ومن الفرق الباطنية ومن البهائية أيضاً.....

إنهم قد ضلوا عن منهجية البحث الصحيحة في القرآن الكريم لأنهم تعاملوا معه معاملة كتاب بشري دون فهم وتقوي من الله، وقد تجاهلوا جل الشروط (إن لم تكن كلها)، التي أقرها الله والتي تمثل المعول الأول والأخير علي فهم كتابه.

وتحضرني في هذا المقام مقولة ضالة مضلة يدعيها هؤلاء الناس ويجب الرد عليها وتوضيحها للعوام، والمقولة هي:

"أن ما يقوله أي مسلم عن الإسلام ليس هو الإسلام الحقيقي، وإنما يعبر عن رأيه فقط، فلا أحد يمكنه أن يعرف الإسلام الحقيقي ولا يمكنه أيضاً أن يمتلكه، لذا فلا ينبغي أن يتحدث عن الإسلام كحقيقة لأنه بذلك يجعل من نفسه متحدثاً وناطقاً رسمياً باسم الله تعالي، فيجب أن يقول الإنسان رأيه فقط، لأن القرآن حمالاً لعدة أوجه، ومن ثم فمقولة (أنت تسأل والإسلام يجيب) مقولة مليئة بالخطأ، أما صوابها فهو (أنت تسأل وأنا أجيب)!!، فمن حق أي إنسان أن يعرض قناعته الفكرية دون أن يزعم أنها من الإسلام في شئ!!" "انتهت المقولة"

وسوف نناقش هذا الكلام في ضوء كتاب الله تعالي وبما وهبنا الله من عقل ومنطق لنتبين صحة هذا الكلام من خطئه:

أولاً: إن الادعاء بعدم معرفة الإسلام الحقيقي يدعي علي الله تعالي أنه قد أنزل علينا رسالة غير مفهومة لقصور في ذاتها، ولو كان الأمر كذلك لما كان هناك حاجة للإسلام من أساسه، إذ أن تباين الآراء في الإسلام وعدم القدرة علي فهمه يجعل من وجوده أو عدمه شيئاً واحداً....!!

وقد بين الله تعالي ضلال هذا القول في قوله تعالي: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف 44).

لقد بات الآن من الواضح أن القرآن حجة علي كل البشر عامة وعلي المسلمين خاصة، إذ أنهم سوف يُسألون عن فهمه وعن العمل به، فلو كان الأمر كما يزعم هؤلاء لما كان هناك داع لسؤالهم يوم القيامة، إذ أن كل امرئ منهم يومئذ سوف يعزي عدم فهمه له بعدم وضوح القرآن ذاته، فلم السؤال إذن؟؟..... هل يقتضي عدل الله تعالي ذلك؟؟..... هل سيترك الله تعالي البشر متخبطين في حيرة من أمرهم وبذلك تكون مؤامرة كبيره منه علي عباده حتي يوقع بهم في الفخ الذي نصبه لهم؟؟...حاشا لله وكلا ونستغفر الله العظيم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن فحش هذا الادعاء... (وما قدروا الله حق قدره) (الأنعام 91، الحج 74، الزمر 67).

إن من يدعي مثل هذا الادعاء الضال قد نسي قول الله تعالي: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال 29).

فهناك فرقان بين الحق والباطل مهما تزين الباطل وكان له لمعان وبريق، فهؤلاء المدعين قد اختلط عليهم الحق بالباطل فلم يعودوا يفرقوا بينهما، ولو أنهم قد اتقوا الله تعالي في أعمالهم وتفسيرهم لكتاب ربهم فلم يتجرءوا عليه فسوف ييسر الله لهم طريق الهدي ويجعل لهم فرقاناً ويكفر عنهم سيئاتهم كما وعد سبحانه (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق 4)، فحينئذ سوف ييسر لهم طريق الفهم والعمل والعلم ويجود الله تعالي عليهم بعلمه، وحينئذ فسوف يفرقون بين الإسلام الحقيقي وما سواه من أباطيل.

ثانياً: إننا نعجب عندما نقرأ لهم هذا الادعاء ثم نري عكس ذلك عندما يقومون بوضع مناهج تجانب الصواب تماماً مثل الأمثلة التي ذكرتها سابقاً، ثم يزعمون أن هذا ليس مجرد رأي، وإنما هو الحق بعينه فيتناقضون مع أنفسهم: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) (المؤمنون 71)، فهم معرضون عن الذكر الحقيقي إما عن جهل أو لمآرب دنيوية، ولكن المحصلة واحدة في النهاية، وحينما يعارضهم أحد يتهمونه بالرجعية والتمذهب والتخلف

إنهم يسخرون من الكهنوت المذهبي في كل مناسبة ويسبونه، ولكنهم في الحقيقة شر مكاناً وأشد وطأ منه.

ثالثاً: إن مبدأهم الذي ينتهجونه في النهي عن التكلم باسم الله تعالي (أي أن الإنسان يجعل نفسه متحدثاً رسمياً باسم الله) هو مبدأ مرفوض من أساسه، وهو ينبع في الأغلب عن جهل وحقد دفين علي كتاب الله تعالي أو علي من يريد إتباعه علي نحو صحيح، إذ أن الأنبياء كانوا يبلغون رسالات ربهم التي وكلها إليهم، ومن ثم كانوا متحدثين باسم الله تعالي، فيكفي الإنسان شرفاً أن يتحدث باسم خالقه ولكن في نفس الوقت يجب ألا يتقول عليه، فهناك ضوابط شديدة تحكم ذلك الأمر وقد ذكرناها آنفاً، يقول الله تعالي في كتابه العزيز: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران 79)، فالذين يَعلَمون أسرار كتاب الله تعالي من خلال ابتاعه وتقواه وترك المعاصي وهجر الروايات في تفسيره ومعرفة حدود عقولهم حق المعرفة والسجود له حينما تُقرأ عليهم آياته، بل ولم يكتفوا بذلك بل علموه للناس أيضاً، أولئك الذين أطلق الله تعالي عليهم لقب (الربانيين)، فهم متحدثون باسم الله تعالي،وهذا يكفيهم شرفاً في الدنيا والآخرة.

ثمة نقطة أخيرة أريد أن أختم بها هذا الجزء وهي كيفية التمييز بين الحق والباطل، فقد نوهت سابقاً من خلال كتاب الله تعالي أن من يتق الله يجعل له فرقاناً، وهذا الفرقان هو القسطاس الذي يحتكم به إلي الحق، وللتوضيح نقول وبالله التوفيق:
كثيراً ما نجد من يكفر بالله تعالي مثلاً فينكر وجوده أو يشرك به شيئاً (والعياذ بالله)، فعندما نحاور هذا الشخص يجب ألا نحترم وجهة نظره كما يدعي الكثير من المسلمين الذين لا يفقهون عن دينهم شيئاً، فتلك ليست وجهة نظر لكي تستحق الاحترام، فعندما يري الملحد أنه لا حاجة لإله لهذا الكون لأن الطبيعة تسير نفسها بنفسها من خلال القوانين الباطنة المودعة فيها منذ الأزل، فعندئذ لا يمكن اعتبار أن هذه تمثل وجهة نظر، ولكنه طمس في بصيرة من يدعي هذا واضمحلال في تفكيره وشذوذ في اعتقاده ككل، ولكن الذي نحترمه فيه هنا هو حرية اعتقاده التي كفلها له الدين الإسلامي وليس أكثر من ذلك، إذ أنني أري الكثير من المتحاورين المسلمين يُكِنون المودة لمحاوريهم من غير المسلمين ويمازحونهم، بل ويشاركونهم الألعاب والطرائف وهذا ما رأيته بعيني في منتدي الملحدين العرب وغيره من المنتديات التي يقال عنها أنها فكرية والحقيقة فإنها غير ذلك إطلاقاً..... هذا مع أن الله قال لمثل هؤلاء: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) إن احترام المسلم للآخر ليس معناه هو احترام لوجهة نظره، ولكن الاحترام هنا كما أشرت سابقاً إنما يكون لحرية اعتقاده فلا يصح أن نجبره علي اعتقاد يرفضه، علي أن تكون المحاورة بيننا وبينه قائمة علي الاحترام المتبادل، وأن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا كما أمرنا القرآن بذلك، أي بشرط ألا يعتدي علي مقدسات المسلمين والتعرض لها بالسب (مثل الله تعالي والقرآن الكريم)، ولا يحق له أيضاً أن يسب أي نبي من الأنبياء، فتكون المحاورة حينئذ مثمرة وقد تؤتي بأفضل نتائجها إن شاء الله تعالي، هذا وبالله التوفيق.

مهيب الأرنؤوطي
4/11/2007

اجمالي القراءات 7220