الحضارة العربية بين الواقع واللغط

محمد حسين في الأحد ٢٨ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

يحلو للبعض ان يطلق لفظ "الحضارة العربية" على الحضارة والعلوم التى انتشرت عقب الغزو المقنع بالاسلام للمنطقة والتى كان يتحكم بمقاليد امورها الخليفة المسلم . وانتشر هذا اللفظ بين جموع المتحدثين باللغة العربية داخل مصادرهم انفسهم وبنيت على اثاره كثرا كثيرا من الثوابت سواء ان كانت ثوابت علمية او اجتماعية او ما الى ذلك من الثوابت التى ادت الى سرقة العلوم والمعارف على اختلاف اجناسها فى تلك الفترة التى سنتناولها فيما بعد بايجاز والصاقها بكلمة "العربية". ولكن ا&Uعتقد اننا يجب علينا قبل ان نطلق لفظ الحضارة على شئ ما او نلصقه بثقافة ما انه من الاحرى بنا ان نوضح ماهية الحضارة وما قدمه ما التصق بها من صفة حتى نستطيع اما اثبات او نفى صحة التعبير.

والحضارة لها وجهان للتعريف ، وجه يعرف الحضارة بعدة تعريفات عامة دالة على ماهيتها ، والوجه الاخر هو تعريفها حسب نظر اصحابها اليها او مضمون الحديث عنها عند اصحابها . اما عن الوجه الاول فقد اختلفت التعريفات ولم تتفق المعايير عند كل معرف ، فقد ذهب البعض الى تعريف الحضارة على انها مجموعة التفوق فى النواحى العلمية والثقافية والانسانية التى جعلت مجموعة ما فى مكان ما فى زمن ما متميزة عن اخرياتها فى تلك الفترة ، والبعض الاخر ذهب الى تعريفها على اساس اعتياد الفرد على اسلوب معين من الحياة والمعيشة يختلف عن من حضارة الى اخرى ، وبل وحلل البعض الحضارة وعرفها على اساس المعنى الحرفى للكلمة العربية على انها كل ما يتصل بالحضر ومعيشته وما يختلف عن البدو او البداوة او طريقة معيشة البادية. ورغم ذلك اتفق المهتمون بشئون الحضارات عند تعريف عام مهما اختلف اللفظ اللغوى من لغة الى لغة ومهما اختلف نظر البعض لها عن الاخر من حيث الافضلية على انها الميراث الثقافى والاجتماعى والانسانى والعلمى الذى تميز به مجموعة معينة من الافراد فى مكان ما فى حقبة معينة من الزمن.

واذا قارنا التعريف الشامل بمجموعة الحقائق التاريخية لوجدنا ان كلمة حضارة كانت تطلق على المجموعات متصفة باماكنهم ، فمثلا الحضارة الرومانية نسبة الى روما ولم يطلق عليها الحضارة اللاتينية ، والحضارة الفرعونية نسبة الى الفراعنة او الحضارة المصرية القديمة ولم يطلق عليها الحضارة الهيروغليفية ، والحضارة الاغريقية والحضارة الاشورية وما الى ذلك من الحضارات التى اتصلت صفاتها بمجموعة الافراد فى مكان ما فى حقبة من الزمن وليست بلغتها .
واذا صح لنا ان نأخذ هذه المعايير قياسا لما بين يدينا فإنه يتبين لنا صحته نسبيا ، ذلك ان اللغة يمكن لها ان تمتد رغم افول الحضارة ، فاللاتينية كلغة استمرت لالاف السنين ولكن لم يبزغ نجمها الا مع حلول الرومان كقوة مسيطرة مركزيتها فى روما ، او اللغة الهيروغلوفية التى استمرت لفترة ليست بالقصيرة من الزمان وبزغت فى عصور الفراعنة ، وهكذا اليونانية القديمة او اليونانية عموما التى لم يبزغ نجمها الا مع ظهور الاغريق كقوة مسيطرة . وهكذا دواليك. ولم تكن لتلك الحضارات ان تبزغ لولا توافر عدة عوامل ابرزها العوامل العلمية والثقافية واللتان تعتبرا مقياسا لدخول الحضارة وتقديمها للعالم على انها اختلاف قد ساعد فى بزوغ تلك الحضارات .

واذا انتقلنا بهذه العوامل كأدوات تحليلية لما نطرحه موضوعا للبحث هنا عن صحة لفظ "الحضارة العربية" من عدمه ، لوجدنا اننا نقف هنا امام حضارة لم يبزغ نجمها الا مع علوم الدول المحتلة التى حولها ، فعلى سبيل المثال اذا امسكنا بورقة وقلم كى نرتب العلماء فى تلك الحقبة من الزمن لوجدنا ان السواد الاعظم منهم كانوا من غير العرب ، وظهروا فى وقت كانت قوى العرب قد خارت وافلت بسرعة شديدة ، فالرازى والبحترى وابن سينا وابن الهيثم وحتى البخارى اذا اعتبرناه شخصية واقعية كانوا من غير بلاد العرب. وابلغ دليل على هذا ان فى داخل طيات التاريخ الاسلامى نجد هناك الحضارة الاندلسية ، والتى اتصل اسمها بمكانها دون اللغة ، فلم يكن هناك ما يسمى باللغة الاندلسية ، ولا العرق الاندلسى ولم يكن حديث ابن رشد اندلسيا.
اذا فمجموعة العلوم لا تعطى مؤشرا الى انها عربية حتى لو فرضنا اللغة صفة توصف بها الحضارة .

ولندع هذا جانبا ونأخذ الجانب العمرانى على سبيل المثال ، فالفنون العمرانية كانت خليطا من الفن البيزنطى والاعمدة الفارسية وما الى ذلك والتى تم اذابتها فى المجتمع الاسلامى فى ذاك الوقت على ايدى مهندسين لم يكونوا بعرب على الاطلاق ولم تكن للعرب وقتها قوة تذكر ، وحتى فنون الخط العربى فانقسم الى اندلسى وكوفى وثلث ... الخ ، وهذا دليل اخر على ان اداة اللغة لم تكن دليلا على احتكار الحضارة من اجلها . وحتى الجانب الادارى فى ادارة الدولة الاسلامية ، لم تكن الا نظام ادارى اتخذ بغثه وثمينه من النظام الفارسى بعد ان تم غزو بلاد فارس وهى من القلائل ان لم تكن النادرة التى اخذت القيم القرآنية كلغة عربية وظلت على عرقها ونهجها ولغتها .
فالحضارة اذا نظرنا اليها باختصار غير مسهبين فى تلك الدلائل ، لاستخلصنا انه لا يصح لنا ان نلصق الحضارة باللغة ، ذاك ان الحضارة تبدأ بقوم وتنتهى بنهايتهم ، ولكن اللغة عادة ما تبقى ان رفع شان المتحدثون بها ام انحدر . ودليلا اخر حيا على حضارة نعيشها الآن وهى الحضارة الامريكية بتقدمها العلمى والثقافى والتقنى والاجتماعى والذى ادى الى انتشار لغتها مما جعلها اللغة الاولى فى العالم الان ومع ذلك لا يمكن لنا ان نطلق عليها الحضارة الانجليزية لمجرد ان الاميريكيين يتحدثون الانجليزية ، ولا يصح لنا ان نطلق عليها الحضارة "الهندية الاحمرية" لوجود الهنود الحمر فى تلك المكان فى يوم من الايام ، ولكن ارتباط الحدث الحضارى باسم المكان يجعلنا نطلق عليها مجبرين ومقيدين بمعايير التعريف اسم "الحضارة الامريكية". 

ولكل حضارة تأثيرها فى العالم من حولها ، فلنأخذ مثال هنا وهو مصر كدولة تم احتلالها بواسطة القرشيين ان صح التعبير والذى يطلق عليهم عرب وتم تسليمها كإرث من خلافة الى خلافة ، واذا فرضنا كما قال المزيفون يوما انها دولة عربية نظرا للغتها ، فلننظر للحقبة التاريخية التى هى عمرها 1400 سنة ، واذا نظرنا الى التاريخ بدقة دون تزييف ، فسنجد ان مصر كدولة رغم ما يطلق عليها من لفظ عربية انحدرت فى كل العلوم وفنون الحياة فى تلك الفترة من التاريخ ، اللهم الا البسبوسة والقطائف والكنافة التى دخلت فى عهد الدولة الفاطمية . ولم يحدث لها اى تقدم تقنى او علمى على مدار تلك الفترة ، الا انها تأثرت بمظاهر الدولة فى بعض الاماكن فى العاصمة القاهرة والتى انحسرت فى المساجد العمرانية لا غير. فلم يهتم الخليفة الا بتسخير الشعب المصرى لامره او الجزية او ما شابه ذلك دون اى تطوير فى نواحى الحياة ، ذلك التطوير الذى يجعلنا مجبرين ان نطلق عليها لفظ الحضارة العربية فى مصر مثلا. ولم تشهد مصر طفرة فعلية الا فى عهد اسرة محمد على ودخول الانجليز الذى جعل مصر لها اسلوبها الثقافى والحضارى ، رغم انها لم تتح لها الفرصة لظروف تاريخية ان تتعدى الحدود حتى يطلق عليها حضارة فى ذلك الوقت ، ولكنها تقدمت فى مجالات كثيرة بعد ان كان الميراث الذى ورثه محمد على هو مجموعة من التخلف والمرض والجهل الشائع بين العامة . وانتجت تلك الفترة لمصر –واعنى هنا فترة حكم عائلة محمد على باشا ، والذى لم يكن عربيا بالمعنى المفهوم بيننا- مشاريع ضخمة منها ما انجز فى ذلك العهد ومنها ما انجز لاحقا واغتصبه الافاقون كالسد العالى مثلا ، ومجموعة من الفنون المعمارية التى بنيت فى اولها على ايدى مهندسون اوروبيون ثم لاحقا على ايدى مصريون عندما انتشر العلم بين صفوف المصريين ، وحتى الادب والفكر المصرى تقدم فانتج لنا مجموعة مثل محمد عبده وطه حسين والغزالى ونجيب محفوظ ومصطفى مشرفة والسباعى والعقاد ... الخ.
ولما عادت مصر الى نغمة العربية مرة اخرى اتجهت مصر الى انحدار تام فى كل معانى القيم والاخلاق والفنون والعمارة والتعليم والفن وكل ما يكون الدولة الحضارية التى لم ترتقى بعد لان يطلق عليها الحضارة.

ولكننا لن نتهم العربية كلغة هنا او نجاملها فنجعلها السبب فى الحالتين ، لان اللغة لم تطلق على نفسها حضارة وانما متحدثيها من فعلوا هذا ، ولكن لا يصح ان نلصق لفظ اللغة التصاقا بالحضارة لوصفها اذا كنا سنستخدم تلك المعايير فى الحكم على صحة لفظ حضارة ما او لا.
وهذا كله واللاحق منه ينتهى بنا مؤقتا الى الاستنتاج بانه مجرد اطلاق لفظ الحضارة العربية على ما حدث فى تلك الحقبة من التاريخ ماهو الا لغظ تاريخى تم ادراجه والصاقه الى غير اصحابه ، اما "قصر ديل" كما نقول ، او حقد تجاه ما سبق من حضارات لجعل الرؤوس فى افق ومجال ومستوى واحد ، وهو ما نجده درب من السفه ان تم تصديقه او الاعتراف به. 

ومع ما ياتى من تحليلات اخرى نجد اننا فى موقف تحليلى اخر قد يكون قاعدة لاخضاع لفظ اخر لنفس المعايير والقياسات بمعنى اوسع واشمل ، الا وهو لفظ "الحضارة الاسلامية". 

يتبع

اجمالي القراءات 16003