زواج المحلل : ( 1 )

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١٧ - مايو - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً


      زواج المحلل : ( 1 )

مقدمة

  أضاع فقهاء السنة حقوق المرأة في موضوع الطلاق حين جعلوه واقعاً بمجرد أن يتفوه به الزوج ودون شهود ، وهذا ما سنتعرض له في موضعه ، ولكن ترتب على سهولة التطليق بمجرد النطق أن يستنفذ الزواج الطلقات الثلاث في جملة واحدة ــ حسب آراء بعض الفقهاء ــ أو يستنفذها في ثلاث مرات وثلاث تطليقات ، ويحتاج إلى أن يُصلح الخطأ ، أي يحتاج لمن يتزوج زوجته كنوع من التحايل ثم يطلقها ثم تعود إلى زوجها ، إلا ان الفقهاء حين رأوا هذا التحايل قاموا بهجوم مضاد هو وجوب ان يدخل بها الزوج الجديد فعلاً وإخترعوا تعبير ( أن يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته ) وصاغوا ذلك في حديثا ، ثم اردفوه بأحاديث أخرى تلعن ذلك الشخص الذي يتزوج الزوجة السابقة وأسموه "المحلل" وأصبح المحلل من قضايا الفقه الهامة . ونعرض لوجهة نظرنا القرآنية ثم لآراء أئمة الدين السنى فى زواج المحلل .

أولا :   

1 ـ في القرآن الكريم الطلاق مرتان يستطيع الزوج خلالهما ان يعيد زوجته إليه قبيل انتهاء العدة ، فإذا عادت إليه مرتين بحضور شاهدى عدل في تطليقتين قبيل انتهاء العدة وقبيل أن يصبح الطلاق بائنا دخل في المحظور ، إذ انه لو طلقها للمرة الثالثة أصبح يحرم عليه أن يعيدها لعصمته ، إلا إذا تزوجت رجلاً آخر ، وذلك بأن تنتهي عدتها ، ثم ينكحها الزوج الآخر ، ثم يطلقها ، ثم تنتهي عدتها منه ، ثم بعدها تعود على زوجها الأول بعقد زواج جديد..

2 ـ يقول سبحانه وتعالى عن الطلقة الثالثة : ( فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)البقرة:230 ، ونتوقف مع الآية الكريمة ..

" فَإِنْ طَلَّقَهَا " أي الطلقة الثالثة " فَلا تَحِلُّ لَهُ " أي للزواج بعد انتهاء عدتها منه " حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ " أي حتى يعقد عليها عقد النكاح زوج آخر " فَإِنْ طَلَّقَهَا " أي ذلك الزوج الآخر " فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا " أي الزوج والزوجة السابقان " أَنْ يَتَرَاجَعَا " أي أن يستأنفا حياتهما الزوجية " إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ " ..

3 ـ  هل في الآية ما يدل على تحريم الاتفاق على الاتيان برجل يتزوجها ثم يطلقها ..؟

والجواب أن الآية واضحة الدلالة في عدم تحريم ذلك ، بل على العكس ان فيها ما يشير ضمنيا إلى جواز ان يقوم رجل بنكاحها ثم يطلقها لتعود إلى الزوج الأول ، وهذا ما نفهمه من قوله جل وعلا : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) فالحديث متصل عن الزوجين ، وجاء الزوج الطاريء جملة اعتراضية وبعده عاد الحديث إلى الزوجين وأنه لا جناح عليهما ان يتراجعا بعد الطلاق من الزواج "الاعتراضي" . وكلمة " فلا جناح عليهما" أي لا ذنب ولا مؤاخذة عليهما لتعود للزوج الأول ، ولذلك كان رفع الحرج عنهما في ذلك مرتبطا بإرادتهما المشتركة في استئناف حياة زوجية جديدة على أسس سليمة يقيمان فيها شرع الله تعالى وحدوده .

4 ـ  هل يتعين على الزوج الجديد أن يدخل بالزوجة "ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته" كما يزعمون ؟ . لا مطلقا . لأن الله سبحانه وتعالى قال (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً) ولفظ النكاح يفيد العقد ، أي عقد الزواج ، ولا يكفي وحده في إثبات وجوب الدخول بالزوجة ، والدليل هو قوله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً)الأحزاب:49 ..أى إذا حدث عقد النكاح للزوج ، ثم حدث الطلاق بدون دخول بالزوجة فلن يكون على الزوجة عدة طلاق ، لأن العدة لاستبراء الرحم من شبهة الحمل ، وحيث أنه لم يحدث دخول فلم تعد هناك حاجة للعدة ، ولكن يكون من حق المرأة المطلقة قبل الدخول أن تأخذ متعة الطلاق وأن يفارقها او "يسرحها" أو يطلق سراحها بالتي هي احسن وبدون مشاكل وأحقاد. إذن فالنكاح غير الدخول ، ولو أراد الله سبحانه وتعالى وجوب أن يدخل الزوج الثاني بزوجته لما قال (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) ، وإنما مثلا (حتى تتزوج غيره ) او (حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها بعد الدخول ...) لكنه جل وعلا إقتصر على النكاح الذي يفيد العقد ويبيح الدخول إذا شاء الزوج .

5 ـ  وهنا تبرز الحكمة في التشريع ، وأنه وسيلة لإصلاح الزواج الأول وعدم هدم الأسرة التي استمرت في العيش معاً ، وقد أدت المشاكل بين الزوجين على حدوث الطلاق مرتين ، وفي هذا الطلاق يواجهان مشكلة يتعلق مصيرها فيه بأن تتزوج بعد عدتها رجلا آخر . ولو كان الزواج كاملاً بمعنى الدخول لأصبح ذلك نقطة سوداء في تاريخهما إذا عادا ، ولكن الاسلام إحتفظ لهما بخط الرجعة بإدخالهما في تجربة عقد زواج ، وأن تكون الزوجة في عصمة رجل آخر إذا شاء دخل بها ، وفي هذا تأديب كامل للزوجين السابقين ، فإذا اجتازا هذه المحنة وطلقها الزوج الجديد ورجعت إلى زوجها الأول بدون "خسائر في الأرواح والمعدات" فسيكون درساً لن يُنسى . وهذا يؤكد حرص القرآن الكريم على الأسرة التي لا تعني مجرد الزوجين ولكن ربما تشمل الأبناء وذكريات الماضي وآمال المستقبل ، وضرورة الإصلاح حتى تستمر الحياة وتستقر.

6 ـ ونخلص مما سبق الى :

6 / 1 : أن القرآن الكريم لا يمنع ولا يحرم وجود اتفاق مسبق في أن يتولى رجل القيام بدور ما اصطلح على تسميته فيما بعد بالمحلل شريطة ان يكون ذلك وسيلة لإقامة شرع الله وحدوده ، وأن القرآن جعله "نكاحا" بمعنى انه لم يلزم الزوج الجديد بالدخول ، وإنما مجرد العقد ..

6 / 2 : إن ذلك النكاح بدون دخول لا يستلزم عدة ( سورة الأحزاب : 49 ) أي انه في مجلس واحد يتم عقد النكاح ، ثم يتم الطلاق ، ثم يتم عقد الزواج الذي ترجع به الزوجة إلى زوجها السابق ، ذلك إذا لم يمانع الزوج (المحلل) إذ أن من حقه إذا شاء ان يدخل بزوجته ، ومن حقه ان برفض طلاقها ، ومن حقه ان يحتفظ بها ما شاء ن ولا سلطان لأحد فيما يختار.

ثانيا : فى الدين السُّنّى

 1 ـ مالك في الموطأ أثار القضية تحت عنوان " المرأة يطلقها زوجها فتتزوج رجلاً فيطلقها قبل الدخول" ثم ذكر عنوانا آخر مشابها لهذا العنوان في تفصيل آخر لنفس القضية .  وفيما قال لم يرد مصطلح المحلل ، وان أورد مالك حديثا يشترط على الزوج الثاني أن " يذوق العسيلة" حتى يصح الطلاق ، ويصح رجوعها على زوجها الأول . والحديث فيه غموض وخلط ، يقول " إن رفاعة بن سموأل طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله (ص) فنكحها عبدالرحمن بن الزبير ، فأعرض عنها فلم يستطع ان يمسّها ، ففارقها ولم يمسها ، فأراد رفاعة ان ينكحها وهو زوجها الأول الذي طلقها ن فذكر ذلك لرسول الله (ص) فنهاه عن تزوجها وقال : لا تحل لك حتى تذوق العسيلة " . فإذا كان زوجها الثاني قد طلقها فعلا وفارقها دون ان يمسها فكيف يقول النبي للزوج الأول الذي يريد استرجاعها "لا تحل لك حتى تذوق العسيلة" هل معنى ذلك ان نرغم طليقها الثاني وقد أصبحت عليه حراما ان يذوق عسيلتها بعد الطلاق والانفصال التام بينهما ..؟. والمضحك أن محمدا الشيباني راوى الموطأ يقول مؤيداً (وبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة لن الثاني لم يجامعها فلا يحل لها ان ترجع إلى الأول حتى يجامعها الثاني) . وتأسيساً على ذلك نقترح ان يذهب وفد الفقهاء إلى عبد الرحمن ابن الزبير كي يقنعه بأن يدخل بالسيدة تميمة بنت وهب في زواج جديد ، ثم يتأكدوا من دخوله بها ..!!

2 ـ   الشافعي أول من ذكر مصطلح "المحلل" تحت عنوان "نكاح المتعة" وقد ربط بينهما في موضوع اشتراط المدة، أي انه نكاح محدد بمدة في الحالتين ، وأفتى بأن كل نكاح مؤقت حكمه الفسخ ، أما إذا بيتا النية دون التلفظ بها فإن النية لا تفسد النكاح ، أي أن التلفظ أو الاتفاق على وجود محلل يفسد زواج المحلل عند الشافعي إذا كان ذلك التلفظ أثناء العقد..

ثم عرض الشافعي للموضوع تحت عنوان "نكاح المطلقة ثلاثا" وروى فيه حديث مالك بطريقة أخرى ، يقول ان امرأة رفاعة القرظي (ابن السموأل) جاءت للنبي تقول له أن رفاعة طلقها ، وبتَّ في طلاقها ، أي أصبحت بائنة منه ، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وقالت إنّ ما معه "مثل هدبة الثوب" أي تصف عضوه الجنسي بالارتخاء ، ويزعم الشافعى : " فتبسم النبي(ص) وقال أتريدين ان ترجعي الى رفاعة .؟ لا ، حتى تذوقي عسلته ويذوق عسيلتك " . ويذكر الحديث ان أبا بكر كان حاضراً فدهش لما سمع من المرأة وقال لخالد بن سعيد بن العاص : ألا تسمع ما تجهر به هذه المرأة عند رسول الله ..؟".  والواضح هنا اننا في إطار مشكلة أخرى ، امرأة تشعر بالحنين إلى زوجها الأول الذي طلقها ، وهي لذلك تشكو للنبي ــ حسب زعم الشافعى  ــ من عجز زوجها الثاني ، والنبي يرفض حتى يحدث بينهما اللقاء الجنسي ، فربما عند ذلك يتغير رأيها . فى الحكاية ( الشافعية ) ما يفيد أن الموضوع بعيد عن قضية المحلل ، فالزوج الأول هنا هو الذي يرفض إرجاعها والزوج الثاني لم يطلقها ، وهي التي تتهمه بالعجز الجنسي ، ولذلك فإن عبارة العسيلة وتذوق العسيلة لها حكم مختلف هنا. ولكن حتى الآن نعثر على أحاديث تلعن المحلل ، مع ان الشافعي ذكر مصطلح المحلل.

3 ـ ويلاحظ أن البخاري أورد نصّ الحديث المذكور في "الأم" للشافعي على أن للزوج الأول طلق امرأته ثلاث ، وانها تريد العودة إليه وتترك زوجها الثاني بسبب ضعفه الجنسي ،  وأن النبي بزعمهم رفض حتى تذوق العسيلة . والتطور الجديد هنا هو ان الرواية تشكلت ملامحها لتقترب من حالة من طلق امرأته ثلاثا ثم أراد ان يسترجعها بعد ان تزوجت رجلاً آخر ، واشترط تذوق العسيلة .

4 ـ ثم اتى مسلم باللمسات الأخيرة التي تجعل حديث رفاعة (وامرأته وعبد الرحمن بن الزبير) مطابقاً لموضوع المحلل واشتراط تذوق العسيلة ، فقد أورد نفس الحديث بروايات مختلفة ، ثم اتبع ذلك بمفتريات أن النبي  سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها ثلاث فيتزوجها رجل آخر فيطلقها قبل الدخول بها ، أيصح أن ترجع للأول ، وأنه :" لا، حتى يذوق الآخر عسيلتها ما ذاق ."   أي انه لا يصح ان ترجع للأول وعليها ان تعود للثاني ليتزوجها ويدخل بها ، أو تتزوج آخر ويدخل بها ، ثم بعد العدة تعود للزواج من الأول بعد الثاني ،وربما الثالث .  

5 ـ أما لعن المحلل فقد ورد في احاديث لابن حنبل والنسائي والترمذي ، والحديث الأصلي يقول ( لعن رسول الله المحلِّل والمحلَّل له) ثم تكاثرت روايات أخرى منها (ألا اخبركم بالتيس المستعار ..؟ قالوا بلى : قال: هو المحلل ، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له) وهذا ما رواه ابن ماجه ، ثم احاديث أخرى منسوبة لعمر (لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما) وهو قول غريب أن يرجم من تورط في نكاح فاسد في رأي من يرى الفساد في هذا النكاح ، إذ انه لا حدَّ  عندهم في النكاح الفاسد. والواضح ان ابن حنبل قد تزعم هذه الحملة ضد المحلل ، فقد أفتى بأن الزوج الثاني إذا نوى دون تصريح بأن يكون محللا ولم تعلم المرأة بذلك فهو ملعون.

6 ـ وفى القرن الثامن الهجرى فى العصر المملوكى ـ هاجم الفقيه الحنبلي ابن القيم فى كتابه ( إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان ) موضوع المحلل ومن يؤيده من الفقهاء.  وذكر أن الحرائر المصونات من النساء كن يقفن على حوانيت المحللين في صورة مبتذلة ،  وهناك الشهود يشهدون على الزواج ، ومعهم الأولياء والأزواج السابقين وبعد الاتفاق على أجر الشهود واجر المحلل يأخذها الزوج المحلل بعد العقد إلى الخلوة ليضاجعها ،   والمطلق والولي والشهود وقوف ينتظرون ، بعدها تعترف لهم بالدخول ، ثم ينطق المحلل بالطلاق ويأخذ الشهود والمحلل اجورهم ، ويعود المطلق بزوجته السابقة ، وتنتظر إلى ان تنتهي عدتها ، وبعدها يتزوجها . ويقول ابن القيم أن بعض المحللين المستأجرين كان يتزوج أحيانا الأم وابنتها ،  ويجمع من خلال هذا الزواج بين أكثر من أختين ، وأفاض في ذكر الأحاديث التي تلعن المحلل مع اعترافه بأن عهد النبي والخلفاء ( الراشدين ) لم يعرف مصطلح المحلل . إذن فكيف يلعن النبي ما لم يكن يعرفه .؟.  

7 ـ  وفي عصرنا الراهن أفتى الشيخ سيد سابق (السلفي ) بتحريم زواج المحلل متأثراً بابن القيم وغيره . وتطرف الشيخ شلتوت فجعل نكاح التحليل شرّا من نكاح المتعةً. ونقل عن الإمام محمد عبده هذا القول .

8 ـ ونحن سعداء بمخالفتهم فى دينهم ورأيهم .   
اجمالي القراءات 1562