فاتورة التنوير وتجارة الأكاذيب المريحة

خالد منتصر في الأربعاء ٢٢ - فبراير - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً

من يتصدى لقضية التنوير فى بلادنا هو كمن يرمى نفسه فى التهلكة! تنوير العقل وزرع فضيلة السؤال فى الأدمغة وإيقاظ غدة الشك فى الأرواح، مهمة فى منتهى الصعوبة، وتقابل بعدوانية وشراسة مرعبة، تبدأ بالاغتيال المعنوى والتجريس والتشهير والشتم والسباب والوقاحة، وتنتهى بالاغتيال الجسدى ومصادرة الجماهير للمفكر تمهيدا لمصادرة الفكر نفسه، فاتورة التنوير صعبة جدا، ومكلفة جدا،ولابد لكل من يتصدى لقضية التنوير والسباحة ضد التيار والتحليق خارج السرب، أن يتوقع تلك التكلفة الهائلة التى يدفعها من أمانه وسكينته وسمعته وسمعة أسرته وراحتها. من سيدخل معركة التنوير بمنطق أفلام أنور وجدى فى زمن الأبيض والأسود، لن يجنى شيئا وسيظل على الحافة، عائشا على الهامش، يريد أن يعبر المحيط بدون أن يبتل، معركة أنور وجدى كان يخرج منها البطل مهندم الزي،ممشط الشعر، بدلته ليست بها كسرة أو ذرة تراب!! معركة التنوير مختلفة، لابد أن يتسع صدرك للوقاحات وأيضا النبذ الاجتماعى والعزلة حتى من أقرب الأصدقاء، وأحيانا من عائلتك نفسها، الثمن لابد أن تدفعه راضيا رغم قسوته، الفاتورة لها جانب أكثر قسوة، وهى أنك تدفعها دون انتظار مقابل فى حياتك! فالمعركة التنويرية طويلة وشاقة والتراكم فيها بطىء، وعليك بقبول أنك ستبذر البذرة وغالبا لن ترى الثمرة، فالتخلف والرجعية والجمود والتطرف تجرى وتعدو كالفهود وأسرع من الصوت، كالرصاصة، إنما التنوير والعقلانية والمنطق وعلامة الاستفهام، فهى كالسلحفاة فى غابة سافانا!.

المجتمعات الأوروبية عبرت الى شاطئ التنوير على جسور من الدم، خاضت معارك طاحنة، ما بين المفكرين التنويريين والكنيسة، وما بين طوائف الشعب نفسه، القلة من الراغبين فى التنوير،والأغلبية التى تتمسك بالقديم والنمطى والحرفى والثابت، أحرق القس برونو لأنه حاول أن يوقظ المجتمع بأفكار كوبرنيكوس، وسجن جاليليو لأنه قال معيار الحقيقة عندى سأراه بالتليسكوب ولن أراه بعيون الكهنة من خلال نصوص محفوظة وتلقينات مكررة، ونفى فيزاليوس رائد علم التشريح لأنه تجاسر ورفع الغطاء عن الجسد الإنسانى واكتشف أسراره ! ظلت المعركة مشتعلة حتى حسمها العلم ودخلت أوروبا الى التنوير، وأقيمت التماثيل لبرونو وجاليليو وفيزاليوس، وقدمت الاعتذارات عن زمن انتصر فيه الجهل، ولكنها فاتورة التنوير التى كانت لابد أن تدفع، تكلفتها كانت حقا باهظة، لكن نتائجها كانت انتشال هذا العالم من قاع الجهل، ومن وقتها تجاسر الإنسان على السؤال دون خوف، ودون سقف، اخترق الفضاء الى المريخ ومازال الطموح الى ما هو أبعد، زاد متوسط العمر وقلت وفيات الأطفال واختفى الكثير من الأوبئة التى كانت تحصد قارات بأكملها، استطاع الإنسان فى سيدنى أن يتواصل مع المواطن فى السيدة زينب ويرى صورته فى نفس اللحظة ! كل هذا نتيجة نضال وكفاح الفلاسفة والمفكرين التنويريين، ديكارت وكانط وروسو وسبينوزا وفولتير .. وغيرهم ممن اضطروا الى الاختباء أحيانا أو الكتابة بأسماء مستعارة أو تحمل هجوم الشارع والجمهور عليهم بأبشع السباب وأفحش الشتائم، هؤلاء دفعوا الفاتورة، والنتيجة كانت نورا بعد نار، فهل نحن على استعداد لدفعها؟ ولكن السؤال الآكثر تعقيدا والذى يطرحه البعض أحيانا عن عدم فهم أو عن يأس، لماذا يرفض الناس التنوير؟ لماذا يحاربون السؤال؟ لماذا يعادون علامات الاستفهام ويكرهون الشك والفضول؟ لماذا تلك الهستيريا عند سماع المختلف،ولا أقول عند تطبيق مايقوله المختلف، مجرد السماع والإنصات نرفضه؟!! إنها العادة والألفة، انه الاعتياد والتعود، كيف تتوقع أن تأتى لمن تعود على التلقين والحشو والحفظ وتطالبه بالتفكير والسؤال ؟ كيف تسحب وسادة ريش النعام التى تمنحه الغيبوبة وتضع وسادة من المسامير لليقظة ؟ كيف تريد أن تسحب المورفين دون أعراض انسحاب؟ كيف تتمنى أو تطمح أو يصور لك خيالك إجراء جراحة زرع مخ دون مضاعفات أو أعراض جانبية ؟ حتما ستجد مقاومة ممن تلذذ بالمخدر وأدمنه، نحن نعشق الأكاذيب المريحة، ونظل ننفخ فيها، وننصب أصحابها من تجار الصنف أبطالا ونجوما، يحصدون المليارات، نعرف أنهم كذابون ورغم ذلك نعشقهم وننسحق تحت أقدامهم !! هناك عقل جمعى يعيش حالة إنكار جماعي، مجتمع يجلس مثلما تجلس أرملة على مائدة العشاء، تضع طبقين وكوبى ماء لها ولزوجها الذى رحل!.

هى فى حالة انكار،تستبسل فى سبيل إثبات أن زوجها مازال حيا، هناك مجتمعات تعيش حالة تلك الأرملة، يصرون على أن الماضى مازال متجسدا، مازال صالحا للتطبيق، والزمن الغابر هو الخير كله، والنعيم كله، والصلاح كله، عندما تأتى لهم بحقائق التاريخ، وأن التغيير هو الثابت الوحيد، وأن العلم هو قارب النجاة الوحيد، وأن مجتمعك يركب درجة السبنسة، وأنك لكى تركب الدرجة الأولى لابد أن تدفع الثمن، عندما تقدم له كل أطواق النجاة تلك، يرفضها ويهاجمك، بل ويثقبها ويدمرها ويخربها، وعندما يأتى الطوفان يتهمك أنت بأنك سبب غرقه!.

فاتورة التنوير عالية التكلفة، ولكن استبدال الأكاذيب المريحة بها تكلفته أعلى، تكلفته الانقراض كالديناصورات التى لم تتكيف مع بيئتها.
اجمالي القراءات 1235