فرض الحداد على الأرملة فترة العدة

آحمد صبحي منصور في السبت ١١ - فبراير - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً


فرض الحداد على الأرملة فترة العدة
القسم الثانى من الباب الثالث : التشريعات الاجتماعية
كتاب ( تشريعات المرأة بين الاسلام والدين السنى الذكورى)
فرض الحداد على الأرملة فترة العدة
أولا :
فى الدين السُنّى الذكورى جعلوا الحداد فرضا على من مات عنها زوجها .
الإحداد او الحداد ليس من مصطلحات القرآن التشريعية ، برغم أن :
1 ـ كلمة ( حدود ) جاءت فى تشريعات القرآن . قال جل وعلا :
فى الصيام : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) البقرة ).
الميراث : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) النساء ).
الظهار :( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) المجادلة ).
الطلاق :( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (229) ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) البقرة ) ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (1) الطلاق )
2 ـ كلمة ( يحاددْ) أي يعارض . قال جل وعلا : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) التوبة )
3 ـ كلمة ( حداد ): أي حادة ومسنونة . قال جل وعلا عن المنافقين : ( سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) (19) الاحزاب ).
4 ـ كلمة ( حديد ): بمعنى حاد وشديد . قال جل وعلا : ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ق ) . وبمعنى معدن الحديد . قال جل وعلا : ( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) سبأ ) ( وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) الحج ) ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) (96) الكهف ) ( قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) الاسراء ).
2 ـ بالتالى فليس الاحداد أو الحداد من الاسلام ، إذ كيف يفرض الحداد على المرأة إذا مات زوجها ، ولا يُفرض نفس الشيء على الزوج ..؟
3 ـ قد يُقال أن ( العدّة ) مفروضة على المرأة وليس على الرجل ، فلماذا الاعتراض على ( الحداد )؟ العدة هى للتأكد من خلو الرحم من الحمل ، ولحفظ الأنساب . وهذا شىء مختلف عن الحداد .
ثانيا : تشريعات الحداد فى الدين السنى
1 ـ بدأ مالك في الموطأ تشريع الاحداد تحت عنوان : (باب ما يُكره للمرأة من الزينة في العدة) . وصنع أول حديث ، وهو عن حالة إحدى النساء في المدينة (صفية بنت أبي عبيد) كانت في حالة حداد على زوجها المتوفى ، وقد أصابها مرض في عينها ، وكانت العادة أن تكتحل النساء للتداوي ، ولكنها رفضت الاكتحال في وقت الحداد حتى كادت عينها أن تذهب ، وكان تعليق محمد الشيباني أن أبا حنيفة يأخذ بهذا الحديث ، ويرى أنه لا ينبغي ان تكتحل المرأة بكحل الزينة ولا تضع طيباً ولا عطراً أثناء حدادها على زوجها..
2 ـ وصنع مالك حديثا آخر يزعم أن النبي يقول :( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج . ). وهنا يجعل الحداد عاما على النساء من أسرة الميت ، غاية ما هناك أنه لا يزيد على ثلاث ليال . أما الحداد على الزوج فيستمر طيلة العدة ، عدة المتوفى عنها زوجها (أربعة أشهر وعشرة أيام ، إذا لم تكن حاملا).
3 ـ ويذكر الشافعي أن شريعة الجاهلية كانت تفرض على المرأة ان تحدّ على زوجها عاماً ، فاقتصر الاحداد بعدئذ على مدة العدة ، وأضاف الشافعي أحاديث أخرى في تأكيد الاحداد لم تكن من قبل ، وحاول ان يربط بين أمر القرآن بأن تظل المرأة في بيتها فترة العدة وبين تشريع الاحداد في التراث ، مع التباين بين الموضوعين . يقول رب العزة جل وعلا عن
3 / 1 : عدة الأرملة : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) البقرة ). اى ببلوغ عدتها يجوز لها الزواج من جديد .
3 / 2 : عن مُتعة الأرملة : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) البقرة ) ، أى إن المتعة من حقوقها ، وهى أن تظل عاما فى البيت دون أن يخرجها أحد . وهذا لا يعنى تحريم خروجها العادى من البيت لقضاء حوائجها والتفاعل مع مجتمعها ، ثم إن من حقها أن تترك البيت نهائيا لتتزوج . ومع أنها مناسبة للحديث عن الحداد ، ولكن هذا لم يأت فى القرآن الكريم . الشافعى خلط بين العدة والمتعة ، لكى يفرض شريعة الحداد على الأرملة أثناء العدة ، من تجرديهن من الزينة وإجبارهن على الحداد وحياة البؤس .
4 ـ صنع البخاري ومسلم احاديث مستفيضة في وجوب الحداد ، وقد راجت في القرن الثالث بجهد الحنابلة ، وموقفهم ضد المرأة معروف ، وقد تدخلت هذه الأحاديث في الثياب وألوانها ، فحرمت الثياب المصبوغة والملونة ، وقد عرضنا لجهد الحنابلة في تحريم الزينة على المرأة في اوقاتها العادية ، ولا ريب أنهم وجدوها فرصة في تشريع الاحداد الذي بدأ مالك والشافعى ، فتوسعوا فيه. وقد أذاع الحنابلة هذه الأحاديث في القرن الرابع الهجري ، ورواها الخطيب البغدادي وغيره ، ثم ذكرها ابن الجوزي في "أحكام النساء"
5 ـ إبن الجوزى ــ فقيه الحنابلة في القرن السادس ـ
5 / 1 : توقف مع تشريع الحداد بالتفصيل فيدعو إلى الامتناع عن كل عناصر الزينة المعروفة في عصره ، ويقول: " ان الاحداد هو الامتناع من الزينة مما يدعو إلى الجماع كلبس الحلي والطيب والخضاب (صبغ الشعر) والحناء والكحل الأسود والكلكون واسينداج العرائس ، والحفاف الصافي ، فأما الملون لدفع الوسخ كالكحلي والأسود فلا تمنع عنه .."ولا نعرف ماهية الكلكون واسينداج العرائس في قائمة زينة النساء في ذلك الوقت .
5 / 2 : إلا أن ابن الجوزي يضيف شيئا خطيراً إلى الاحداد ، وهو دعوة الأرملة إلى عدم الزواج وتفرغها لتربية أولادها ، وأنها إذا فعلت ذلك نالت الثواب ودخلت الجنة ، كما لو كانت الجنة من ممتلكاته الخاصة.!.وهكذا يمتد الإحداد على الأرملة إلى نهاية العمر.!
5 / 3 : وهذا يخالف :
5 / 3 / 1 : تشريع القرآن :
5 / 3 / 1 / 1 : في الحث على تزويج الأيّم ، يقول جل وعلا : (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ..) النور:32 ، والأيّم هي من تركها زوجها بالطلاق أو الموت .
5 / 3 / 1 / 2 : فى الحث على رعاية اليتيم بأن يكون تعدد الزوجان بأن تتزوج أم الطفل اليتيم ليجد من يرعاه . قال جل وعلا : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا (3) النساء )
5 / 3 / 2 : ما كان عليه الصحابة والتابعون ، وهم السلف الصالح فى الدين السّنى ، ومالك يعتبر عملهم دينا . كانت الأرملة سُرعان ما تتزوج . يذكر المؤرخ محمد بن سعد في : "الطبقات الكبرى" أن ( عاتكة ) إبنة عم عمر ابن الخطاب تزوجها عبد الله بن أبي بكر ، ومات سنة 11هــ وتزوجت بعده عمر بن الخطاب فى خلافته ، وحضرت واقعة اغتيال زوجها عمر في المسجد ، ثم تزوجها الزبير بن العوام ، ثم قتل عنها الزبير بن العوام بعد موقعة الجمل ، وبعد انتهاء عدتها خطبها علي بن أبي طالب ، فرفضت . وتقول رواية إن الحسن بن علي تزوجها ، ومات عنها مسموماً وكان أخر أزواجها.. وهناك أيضا عائشة بنت طلحة جميلة عصرها ، وتعدد من تزوجها . المّحرّم فقط كان زواج أمهات المؤمنين بعد النبى : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) الأحزاب ). وهذا تشريع مؤقت بزمانه ومكانه .
6 ـ أصبح الحداد فى الدين السُّنّى من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).
6 / 1 : أضافوا تفريعات وتفصيلات فى المحرم على المرأة وقت الحداد ، وهذا فى حديث : ( لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَكْتَحِلُ ، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إلَّا إذَا طَهُرَتْ ، نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثِّيَابِ، وَلَا الْمُمَشَّقَ وَلَا الْحُلِيَّ، وَلَا تَخْتَضِبُ، وَلَا تَكْتَحِلُ ) هذا صنعه ابن حنبل وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِي.
6 / 2 : الفقهاء الأحناف أمروا النساء فى فترة الحداد ( وقت العدة ) باجتناب ( جَمِيع مَا يتزين بِهِ النِّسَاء من الطّيب ، وَلبس الثَّوْب الْمَصْبُوغ ، والمطيب بالعصفر والزعفران ، والاكتحال ، والادهان ، والامتشاط وَلبس الْحلِيّ والخضاب ، وَنَحْو ذَلِك ) . وأظهر الفقه الحنفى بعض الرفق بالمرأة وقت الحداد ، فأجاز لها الخروج من البيت نهارا عند الضرورة ، ، و ليس من الضرورة أَنْ تَخْرُجَ لِزِيَارَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا ، على أن تعود للبيت لتبيت فيه . أى حظر تجوّل مؤقت .!
6 / 3 : المالكية حرموا عليها كل الزينة بما فيها الحلي والخاتم وما فوقه والطيب كله ، وان اضطرت إلى الكحل : اكتحلت ليلا ، ومسحته بالنهار . .
6 / 4 : الشافعية حرموا عليها أيضا أن تلبس الأحمر والأزرق الصافي .
7 ـ على أن النساء قد استجبن لتشريع الإحداد ورأين فيه فرصة لإطلاق المكبوت من عواطفهن ، وصار ذلك عادة اجتماعية ، يشترك فيها النساء معاً ، الأرملة وأقارب المتوفى ، حتى ان الفقيه الصوفي ابن الحاج في القرن الثامن احتج على ما تفعله النساء في الحداد ، إذ تظل النساء في حزن كامل لمدة عام دون اختضاب ودون دخول للحمامات العامة أو استعمال للحلي والجواهر ، ويشارك في ذلك النساء في العائلة ومعارفهن ، فإذا انتهى العام أقمن حفلاً يسمينه "فك الحزن" وبالطبع يرقصن ويغنين ، وقد اعتبر ابن الحاج ذلك بدعة ، ونسى أن الموضوع في أساسه بدعة دينية ، وللنساء حق التجديد فيها كالفقهاء تماماً ، خصوصا وأنهن أصحاب الشأن .
8 ــ وفي عصرنا الحديث دعا الشيخ شلتوت إلى اقتصار الحداد على الأرملة فقط ولمدة العدة ، دون ان يستمر إلى عام كما هو المعمول به في المجتمع المصري في وقته ، وقد كان الحزن يمتد إلى تحريم بعض الأطعمة (وسماع الراديو) .
9 ـ إلا ان الشيخ العثيمين السعودي يتبنى الفكر السلفي الحنبلي في موضوع الإحداد مع بعض التنويعات العصرية ، فيقول عن الأرملة : " يجب عليها أن تتجنب جميع الأشياء التي فيها زينة من لباس وحلي وطيب وبخور وكحل ونحو هذا مما يُعد زينة ، ويجوز لها أن تخاطب الناس في التليفون مثلاً ، ويجوز أن تصعد إلى السطح وأن تشاهد القمر ، وقيل أنه لا يجوز أن تشاهد القمر لأن القمر وجه إنسان ، وإذا خرجت إلى السطح وهي تشاهد القمر معناه أن هذا الإنسان يتفرج عليها ، وهذا كله من الخرافات ، فلها أن تبقى في بيتها وتذهب إلى فوق وإلى تحت كما تريد ..." أي ان الشيخ العثيمين ـ بكل ما لديه من أطنان الاستنارة ـ قد اجتهد في إباحة أن تنظر المرأة إلى القمر ، ولم يأخذ بأراء العلماء القائلة بأن وجه القمر هو وجه رجل ، ويحرم ان تنظر له المرأة في فترة الحداد . ثم سار في طريق الاستنارة إلى نهايته إذ أباح لها أن تتحرك في بيتها كيف شاءت في الحجرات ، او على السطح .
وهكذا يكون الاجتهاد السلفي المتطور في عصر الفضاء .!!
اجمالي القراءات 2154