ف 8 : فقه النصف الأسفل يحظر تجول المرأة ( فى الشارع والحمامات وفى السفر )

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٧ - يوليو - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً

ف 8 : فقه النصف الأسفل يحظر تجول المرأة ( فى الشارع والحمامات وفى السفر )
القسم الثانى من الباب الثانى عن تفاعل المرأة فى التراث والدين السُنّى
كتاب ( تشريعات المرأة بين الاسلام والدين السنى الذكورى)
ف 8 : فقه النصف الأسفل يحظر تجول المرأة ( فى الشارع والحمامات وفى السفر )
في الشارع :ــ
1ــ بدأت الدعوة لحظر التجول امام المرأة في داخل كتب الحديث نفسها التي تؤرخ للنبي عليه السلام ، ومن الطريف أن ( مسلم ) فى صحيحه يجعل (بابا) بعنوان : ( ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات الرجال )، ثم يأتي بأحاديث تؤكد خروج النساء في العيدين مع الرجال دون مفارقة ، اللهم إلا إشارة بأن من أصابهن الحيض كن يتأخرن خلف الناس ولكن يكبّرن في الصلاة مع الناس ، أي معتزلين الصلاة فقط ولكن يشهدن التكبير والدعاء بالخير للمسلمين ، والفارق واضح بين العنوان الذي وضعه مسلم ، والأحاديث التي رواها ، والأمر واضح في أنه يحاول بهذا العنوان التوفيق بين عصره وما كان سائدا في عصر النبي .( مسلم 8/203 ) .
2 ـ على أن هذا المسعى للتفريق بين الرجال والنساء قامت به أحاديث موصوفة بالضعف والانتحال ، مثل حديث يقول للنساء " استأخرن ... عليكن بحافات الطريق " . ومن التأخر على حافة الطريق تطورت الدعوة إلى حظر التجول وجرّ المرأة إلى داخل بيتها ، في القرون التالية بعد عصر البخاري ومسلم ، واشترك في هذه الدعوة الفقهاء الحنابلة المتشددون مع خصومهم من الصوفية الموصوفين بالتسامح مثل الغزالى وابن الحاج . جمعهم الولع المريض بالمرأة .
2 / 1 : ففى القرن الخامس يحذر الغزالي في " إحياء علوم الدين " من خروج المرأة إلى الشارع منعاً للغيرة في البيوت " لئلا تطّلع النسوان على الرجال " وأن أقرب ما تكون المرأة من وجه ربها إذا كانت في قعر بيتها ، وأن للمرأة عشر عورات فإذا تزوجت ستر الزواج عورة واحدة ، فإذا ماتت ستر القبر العشر عورات ..!. ويجب على المرأة ان تقعد في قعر بيتها ، لا يكثر صعودها وإطلاعها ، قليلة الكلام لجيرانها ، لا تدخل عليهم إلا مضطرة ،ولا تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها ، وحينئذ تكون مختفية في هيئة رثة تسير في المواضع الخالية حتى لا يسمع غريب صوتها أو يتعرف عليها، و إذا تعرف عليها احد فعليها أن تتظاهر بانها لا تعرفه. ( الإحياء 2/48 ــ 60 : 61 ).
2 / 2 : وتلقف الراية بعد أبي حامد الغزالي شيخ الحنابلة في القرن السادس ابن الجوزي الذي انتقد اختلاط النساء بالرجال في حلقات القُصّاص والوعاظ ، وكيف كانت النساء تتأثر بما تسمعه في تلك المجالس فيبكين ، هذا مع أن ابن الجوزي كان أشهر الوعاظ والقُصّاص في زمنه ، يزدحم على مجالس وعظه الرجال والنساء ، وكثيرا ما إفتخر فى تاريخه لنفسه فى اواخر تاريخ ( المنتظم ) بذلك ، وكيف كان شديد التأثير في مستمعيه من الرجال والنساء . وقد نسى هذا وارتدى لباس الفقه الحنبلى فى كتابه " احكام النساء" . وفيه كتب تحت عنوان " تحذير النساء من الخروج " يحذرها من الخروج لأنها ان سلمت من نفسها لم يسْلم الناس منها ، ويدعوها إلى التزام بيتها تحت عنوان " ذكر فضل البيت للمرأة " مؤكدا على أن النساء عورة ويجب حبسها في البيت .. واستشهد بكثير من الأحاديث التي راجت في عهده بهذا المعنى . ثم لم يتركها ابن الجوزي في بيتها سجينة ، بل أمرها بألا تتطلع من "الخوخات" او الشبابيك الضيقة ، وألا تنظر إلى الشباب الذكور في مناسبات الزفاف خوف الفتنة ، وينصحها إذا كانت فاتنة بألا تخرج ، وإذا خرجت متعطرة فهي زانية ، ولم يسأل نفسه حينئذ : هل إذا كانت زانية هل يقام عليها (الحد) لأنها تعطرت ..؟ أم انه من السهل رمي المحصنات بجريمة الزنا وهتك عرضهن لمجرد استعمالهن الطّيب ..؟ . ويستمر ابن الجوزي في تشريعه المريض للمرأة فيؤكد أن أجود ما للمرأة ألا ترى الرجال ولا يراها الرجال ، وقرّر ابن الجوزي بكل أسى وحزن أن أصل العشق إطلاق البصر وأنه قد ذهب دين خلقٌ كثير من المتعبدين بإطلاق البصر وما جلبه ، ولذلك فهو يحذر من ذلك .!! ( ابن الجوزي : تلبيس إبليس 122 ، احكام النساء 39 ، 40 : 43 ، 62 ).
2 / 3 : وفي مصر المملوكية ظهر الشيخ الصوفي الفقيه المالكي ابن الحاج العبدري لينقم على المرأة خروجها وعدم انصياعها لفتاوى الفقهاء ، وقد أفاض في كتابه "المدخل" ما يؤكد ان المرأة المصرية كانت تقضي أغلب أوقاتها خارج بيتها ، كأنها ــ على الطريقة المصرية ــ تُخرِج لسانها للفقهاء وتشريعاتهم ..( ابن الحاج : المدخل 4/102 ، 1/245 ــ ، 250 ــ ، 267 .. ، 270 ، 272 ، 275 ، 281 ، 291 )
الحمّامات الشعبية :ــ
1 ـ واجتهد ابن الجوزي في منع المرأة من الذهاب للحمامات الشعبية ، وكان الذهاب للحمامات عادة اجتماعية ، يرتادها الرجال والنساء في أوقات مخصصة لكل فريق ، يقوم رجال على خدمة الرجال ، ونساء على خدمة النساء ، ولكن ابن الجوزي لم يعجبه خروج المرأة إلى الحمامات في الأوقات المخصصة لهن ، لأنه لا يجوز عنده ــ كفقيه حنبلي ــ أن تنظر المرأة للمرأة فيما بين السرة والركبة ، وكأنه تخيل أن المرأة تنظر للمرأة في الحمام بعيون الرجال ، او كأنه تخيل نفسه رجلاً وسط نساء متجردات في الحمام ، وهو فقه الغرائز على أي حال ، ولهذا نجده بعد ان تحسر على أحوال النساء في الحمام لأنهن يتجردن للاستحمام في الحمام نراه في (أحكام النساء) يأتي بأحاديث تتنبأ بفتوحات الشام والعراق وان المسلمين سيجدون فيها حمامات عامة ، وأن عليهم منع نسائهم من ارتياد تلك الحمامات إلا إذا كانت المرأة مريضة او نفساء ... ( ابن الجوزي : تلبيس إبليس 388 ــ 389 ، احكام النساء 24 ).
2 ـ وكانت حاجة المرأة للنظافة في تلك الحمامات أقوى من احاديث ابن الجوزي المصنوعة ، ولذلك تناسى النساء (والرجال) تلك الأحاديث وازدادت الحمامات في العدد وفي الروّاد من الجنسين ، حتى جاء شيخ الحنابلة في القرن الثامن ـ وهو ابن تيمية ـ فتجاهل الموضوع حين سئل عن ذهاب المرأة للحمّام ، فلم يستشهد بأحاديث ابن الجوزي في تحريم الذهاب للحمام ، وإنما تحدث في موضوع آخر يخص الاغتسال بوجهه عام ، ( ابن تيمية : فتاوي النساء 22 ).
3 ـ واكتفى الفقيه الصوفى المالكي ابن الحاج ــ وكان يعيش في نفس عصر ابن تيمية ــ بالتنبيه على الزوج في رفق بألا يأذن لزوجته في دخول الحمام مخافة ان ترى النساء الأغراب عورتها ، خصوصا وقد تكون من الأغراب نساء أهل الكتاب اللائي يحرم أن ترى إحداهن جسد المرأة المسلمة .!. ثم أخذ يذكر آداب دخولهن الحمام ، وتجاهل الأحاديث التي رواها ابن الجوزي في (أحكام النساء) مما يؤكد على أن تلك الأحاديث لقيت مصرعها بالسكتة العقلية في عصر ابن الجوزي في القرن السادس .. ( ابن الحاج : المدخل 2/172 )
في السفر :ــ
1 ـ وإذا كانت احاديث ابن الجوزي لم تنجح في منعهن من ارتياد الحمامات العامة ، فإن حديثا واحداً نجح في تقييد سفرهن خارج البلد ، وهو الحديث المشهور " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تسافر مسيرة يوم إلا ومعها رجل ذو محرم عليها "، فأصبح سفر المرأة الطويل مشروطا بوجود زوجها او محرم معها ، مع أن ذلك الحديث يتعارض مع حديث البخاري المروي عن عدي بن حاتم والذي قال فيه أنه عاش حتى رأي المرأة ترتحل من الحيرة في العراق حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله (البخاري 3/46 ) ثم :( مسلم 4/102 ) .
2 ـوفي بداية عهد المسلمين بالمدينة كانوا محاصرين فيها ، وهم قليل مستضعفون يخافون أن يتخطفهم الناس (الأنفال 26) ووعدهم الله تعالى بالاستخلاف في الأرض والتمكين فيها وأن يبدلهم من بعد خوفهم امناً ،( النور 55 ) وذلك ما حدث فعلاً ، واستتب الأمن في شبه الجزيرة العربية ثم في الرافدين بعد توطيد الفتوحات ، وعاش عدي بن حاتم فرأى الفارق بين أحوال الجزيرة العربية قبل وبعد الإسلام .. وكيف ان المرأة تسافر من العراق إلى الكعبة لا تخشى إلا الله ، وهي بالطبع تؤمن بالله واليوم الآخر ، ولا ترى في سفرها بدون محرم او زوج مما يستجوب غضب ربها عز وجل ..
3 ـ وقد مرّ بنا أن المؤمنات هاجرن من مكة إلى الحبشة مرتين ، ومن مكة الى المدينة ، ولم تكن كلهن مع محارم أو أزواج ، وكن يهاجرن حباً في الله ورسوله ، وإيمانا بالله ورسوله ، مع ما يعني ذلك لهن من مخاطر ، وقد ماتت بعضهن في الطريق ، وبعضهن في الغربة ، والله سبحانه تعالى وعد المهاجرين والمهاجرات بالأجر العظيم في الدنيا والآخرة ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) النحل 41 ) .وأكد القرآن الكريم أن المهاجر يجد متاعب شاقة ، وقد يقع في الموت ، وحينئذ يقع اجره على الله ، ولذلك شرع الله جل وعلا قصر الصلاة في الخوف حين الهجرة والمطاردة وحين لقاء العدو (فقط) قال جل وعلا : ( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً (101) النساء ) وكان يمكن أن تتسع تفصيلات القرآن لتحريم الهجرة ــ والسفر ــ على النساء إذا لم يصحبهن محْرم أو زوج ، طالما ان الأمر يتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر ، إلا ان ذلك لم يحدث ، وذلك الحديث لا أصل له ..
4 ـ لقد ذكر ابن سعد أن صبية صغيرة دون الحُلم هاجرت إلى المدينة تاركة اخويها ووالدتها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة " خرجت من مكة وحدها وصاحبت رجلاً من خزاعة حتى قدمت المدينة في الهدنة ، هدنة الحديبية فخرج في أثرها اخواها الوليد وعمارة .." وطلبا من النبي ردها فصممت الفتاة الصغيرة على الرفض ، ورقّ لها النبي ، وضحّى بشرط صلح الحديبية من اجلها ، فهل هذه الفتاة حين سافرت بدون محْرم وبدون زوج كانت لا تؤمن بالله ورسوله ..؟. ويروى ابن سعد أيضا أن قيلة بنت مخرمة خرجت مهاجرة للنبي فرافقت في الطريق حريث بن حسان الشيباني وافد بني بكر على النبي ، فقدمت معه ..( ابن سعد 8/167 ، 228 ).
5 ـ والراوي الأساس لحديث " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ..... الخ" هو أبو بكر بن أبي شيبة وأخوه عثمان ، وقد كانا من اتباع ابن حنبل ، وأشهر الحنابلة في خلافة المتوكل العباسى ، وقد استطاعا مع اخوانهما الفقهاء وأصحاب الحديث التأثير على الخليفة المتوكل فأقلع عن سياسة الدولة العباسية في موضوع خلق القرآن ورفع الاضطهاد عن اتباع ابن حنبل ، ثم وجّه اضطهاد الدولة الى خصوم الحنابلة من الشيعة والصوفية ، وبدأت الدولة تتعصب ضد أهل الكتاب وتضطهدهم في الدين ، في نفس الوقت الذي قامت فيه الدولة بتكريم الحنابلة وإرسالهم في مهمة تعليمية لنشر الأحاديث التي تعبر عن سياسة الدولة الجديدة ، وجلس عثمان بن أبي شيبة على منبر خاص في مدينة المنصور وحوله ثلاثون ألفا يكتبون عنه ( إفتراءاته )، كما جلس اخوه أبوبكر في مجلس الرصافة نحو ثلاثين ألفا آخرين ، وعنهما تم تدوين كل الأحاديث التي تؤكد الفكر الحنبلي وبمباركة الدولة وقتها ، وكان ذلك سنة 234هــ ( ابن الجوزي : المنتظم 11/ 206 : 207 .. تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى .. طـ . بيروت ).
6 ـ ولذلك لا نعجب من تسجيل مسلم والبخاري لكثير من الفكر الحنبلي المتشدد في كتابهما ، وقد ادركا العصر الذي سيطر عليه فكرياً ابنا أبي شيبة عثمان وأبو بكر ، وهما ينقلان عنه كثيرا ..جدا !...
7 ـ ويلاحظ ان الشافعي المتوفي سنة 204 حين تعرض لحج المرأة لم يذكر حديث " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تسافر .....الخ " وقد أجاز للمرأة السفر للحج مع نساء ثقات وأن لم يكن معها زوج او محْرم...( الأم للشافعي 2/100 ).
8 ـ كما ان مالك لم يذكر ذلك الحديث مطلقا في الموطأ ، وهو أقدم كتاب في الفقه والحديث ، وقد توفى مالك سنة 179 ، كما انه سئل عن المرأة تريد السفر للحج وليس لها ولي فقال تخرج مع من تثق به من الرجال والنساء (الموطأ 332 ).
9 ـ هذا يعني باختصار أن ذلك الحديث لم يكن معروفا في عصر مالك والشافعي ، ثم اخترعه الحنابلة ونشروه في خلافة المتوكل حين كان لهم الجاه والسلطان ، ومن ثمّ أخذ طريقه للتدوين في كتب الحديث التالية ، واهمها : ( البخاري 3/275 ، 4/61 ، مسلم 2/127 ، 6/116 ، 4/119 ،)
10 ـ والمؤسف أن شخصين فقط من الحنابلة هما عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة أصدرا قرارا بمنع المرأة المسلمة من السفر إلا مع محرم ، ولا يزال هذا القرار سارياً .... حتى الآن .
اجمالي القراءات 2273