قراءة في آلام البشر
المرض أقوى من الموت!

محمد عبد المجيد في الجمعة ٠٤ - مارس - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً


المرض أقوى من الموت!

يظل الموتُ في كثير من الأحيان أكثر شفقة ورحمة على بعض الناس من المرض!
تشعر بتقريع الضمير إذا تمنّيتَ لمريضٍ أنْ يغادر الدنيا في أسرع وقتٍ؛ لكن ضميرَك اليقظَ يؤنبك أكثر إذا لم تتمنّ له الموتَ العاجل.
بعضُ أنواعِ الأمراض عذابٌ، وبعضُها تعذيبٌ، وبعضٌ بعضِها تؤلمك من بعيد أكثر مما تفعل مع المريض نفسِه.
إذا فتح المرضُ أبوابَه لفقدان الذاكرة كالزهايمر أو الديمنس فقد شبك العقدة مثنى و.. ثلاث.
قضيتُ اليوم أتألم لاثنين من أقرب الناس لي عندما قصَّ عليَ ثالثٌ، عزيزٌ أيضا على قلبي، كان بصحبة رابع لا تقل مكانته في نفسي عن الثلاثة، وجميعهم في الثغر، حيث لم يخفف الأزرق الكبير من أوجاع المرض، رغم أن البحر الأبيض المتوسط تملك مياهُه الزرقاء قدرةَ مئة فارس طبيب يُعالجون الجسدَ، ويقفون حائرين أمام الروح و.. الذاكرة.
كلُّ واحدٍ مِنــّـا يحتاج إلى أنْ يتألم من أجل غيره توطئة لمستقبل مجهول قد يُبدّل الأدوارَ، فيجعلك تجلس في فراش هربتَ منه في خيالــِـك، فجسدّه الواقعُ الجديد.
عبقريةُ المرض أنه لا يكترث لحصون تقوم بحماية المُهاجـَـمين؛ فهو يأتي متسللا، ويختار ضحاياه كأن هناك ثأرًا بينه وبينهم، وإذا اشتدتْ قسوتُه جعل ضحيتَه تتمنّىَ الشفاءَ في الموتِ، فيـُـخرج لسانــَـه ساخرًا كأنه مَنْ يُحدد توقيتَ الموعدِ مع الحبيب المكروه؛ أيّ حفّار القبور.
استمعت اليوم لحكاياتٍ كانت كل واحدة تهزّ موضعَ الذاكرة فتتداعى ذكريات قديمة أضافتْ للخيال ألوانا قاتمة كأنها بحرٌ لُجّي يغشاه موجٌ في أحلك الظلامات فتبدو مظالم ظهرتْ فجأة من مخبئها.
مع حكايات اليوم التي أوجعتني جاءتْ مَشاهد لم أرها عن الموجوعين في السجون، والمعتقلات بأقبية تحت الأرض، ولذة شبق يستمتع بها السجّان؛ ليس لآلامهم فقط؛ إنما لنسيان أحبابهم إياهم أو.. خوفهم من الجهر بما يعانونه.
أكثر السجون تكتظ بمرضى يرون المستشفيات رفاهية لا يتحملون تمنياتهم فيها كأنها قصور حُكّام نافسوا اللهَ في العبودية، وتحدّوه في الألوهية.
التفكيرُ في مريضِك وأنت على مبعدة سنوات ضوئية لا يـَـشفيه ولا يـُـشقيه؛ إنما يُحمّلك ما لا طاقة لك به.
ما كرهتُ شيئا في حياتي مثل كراهيتي من يشكر اللهَ لأنه لا يتعذب مثل آخرين؛ وما أحببت أكثر من محبتي لمن يبصق في وجه كل صور الظلم من أمراض وسجون ومعتقلات واعتداءات.
حكايات اليوم جددتْ خلايا الغضب كلها في نفسي، وزاد احتقاري وازدرائي لكل صامتٍ على آلام غيره، وكان تخفيفها بيدِه أو بلسانِه أو.. بقلبــِـه.

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 4 مارس 2022
اجمالي القراءات 2316