الباب الثانى : الضعف النفسى والاستضعاف والمستضعفون
المصريون والاستضعاف والحتميات

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١٠ - نوفمبر - ٢٠٢١ ١٢:٠٠ صباحاً

المصريون والحتميات والاستضعاف
كتاب ( ضعف البشر في رؤية قرآنية )
الباب الثانى : الضعف النفسى والاستضعاف والمستضعفون
المصريون والحتميات والاستضعاف
1 ـ هناك حتميات أربع مقدرة سلفا ، وهى تخصُّ الميلاد والموت وما بينهما من رزق ومصائب لا دخل لمن تقع عليه في حدوثها . قال جل وعلا : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الحديد )
2 ـ الله جل وعلا لن يحاسب البشر على هذه الحتميات ولكن على حريتهم فيما يفعلون وفيما يؤمنون . البشر فيما بينهم يكونون سببا في هذه الحتميات ، مثل الزواج وما ينتج عنه من مواليد ، والحروب وما ينشأ عنها من سفك دماء ، وحتى المصائب السيئة قد تكون عقابا إلاهيا للظالمين ، يقول جل وعلا : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) الشورى ) . الذى يرتكب القتل ويسفك الدماء يكون مسئولا عن إجرامه ، مع إن المقتول قد جاء أجله في موعده ومكانه المقدر سلفا . الأساس هنا إن الانسان لا يعلم الغيب ، وهو يتمتع بحريته في الفعل والقول والاعتقاد ، وبهذا يتحمل المسئولية يوم الدين.
2 ـ في هذه الحتميات قد يولد الطفل معوّقا ، فيكون ضعيفا حتى في شبابه ، و يكون الفرد ضعيفا في طفولته وشيخوخته وفى مرضه وفى فقره واحتياجه ، في ضعفه هذا يكتسب قوة من الآخرين . أتذكر أن شابا مصريا خفيف الظّل في غضون الثورة المصرية ( 25 يناير ) كان يصطنع التخلف العقلى ، ويضع على اليوتوب ما يقوله من تندّر على العسكر ، بطريقة بلهاء ، كنت رسالته تصل للناس وتحوز الاعجاب . ذكر في حديث جاد له أنه كان في ميكروباس ، ووقف بهم في نقطة تفتيش عليها جنود غلاظ ، فتكلم مع الضابط على أنه متخلّف عقليا . فترفّق به الضابط الغليظ القلب وتعامل معه بالتى هي أحسن ، ولم يصبه ما أصاب بقية الركّاب من أذى .
3 ـ ويصل التعاطف حتى مع المجرمين في محنتهم ، مع إن ما يحدث لهم هو عقوبة ألاهية ، فالله جل وعلا يقول : ( لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) الرعد )، ويكون هذا العذاب الدنيوى جرس إنذار لهم لعلّهم يتوبون . قال جل وعلا : ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) السجدة ) . ولكن للمستضعفين المصريين موقفا آخر ، هو نسيان ما فعله الظالم الفاجر إذا فقد سُلطانه وجاهه ، وفى الأمثال الشعبية المصرية قولهم : ( إرحموا عزيز قوم ذلّ ) . هذا مع إنه قد يكون من أكابر المجرمين ولم لم يكن يرحم أحدا في سطوته . ونتذكر أن حسنى مبارك ــ الذى قام بتعذيب المصريين 30 عاما وسرق ثرواتهم ــ عندما تهدّد سلطانه بالثورة المصرية في 25 يناير ظهر يخطب يتودّد للناس يسترحمهم ، أي إستخدم قوة الضعف ليستعيد ما فقد من قوة . والعادة المصرية لدى المستضعفين المصريين قولهم عند موت أحد الظالمين ( أُذكروا محاسن موتاكم ). يشُذُّ عن هذا غُلاة السنيين السلفيين ، فهم يشمتون بمن يموت من خصومهم ، ويعتبرون الموت عقوبة خاصة بأولئك الخصوم . هم في بلاهتهم يعمهون ، لا يدركون أن الموت من الحتميات التي لا هروب منها ، وأنهم سيموتون كما مات من قبل الأنبياء صفوة الخلق ، وكما سيموت الجميع في هذا الكوكب . قال جل وعلا : ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27) الرحمن ) ( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) مريم ).
4 ـ نقول ، إنّه في إطار حرية البشر المطلقة في القول والفعل ، وفى عدم وجود أعذار قهرية من المرض والعوز وقلّة الحيلة فللفرد أن يكون قويا بنفسه ، أو العكس : أي أن يكون ( مُستضعفا ) وليس ضعيفا . هذا يتوقف على الإرادة النفسية البشرية . للمصريين المُستضعفين قول مأثور ، لا يعملون به ، وهو ( العُمر واحد والرّب واحد ). يقولون هذا بألسنتهم ويكذّبونه بأفعالهم . إذا كان العُمر محددا ، وإذا كان على حدّ قولهم ( ما ياخدش الروح الا خالقها ) فلماذا يرضون بالذُّل والهوان ؟!، ولماذا يختارون بكل حريتهم الخضوع والخنوع والرضى بالذلة والهوان ؟!!. ليس مهمّا الشعارات ، ولكن المهم المواقف الحازمة من فرد يؤمن بأن ( الربّ واحد والعمر واحد ) وأنه ( ما ياخدش الروح إلا خالقها ) بالتالى فلا يستطيع بشر أن يُميته قبل موعد موته المحدّد سلفا ، ولا يستطيع بشر أن يدفع عنه الموت إذا جاء الأجل . بالتالى ـ أيضا ـ فلا يخاف ممّن يهدّده بالقتل أو بالتعذيب والسجن ( وهذه مصائب من الحتميات المقدّرة سلفا ولا نجاة منها ) بالتالى ـ أيضا ـ لا يرضى أن يظلم أحدا ، ولا يرضى أن يظلمه أحدُّ . هذا الفرد القوى بنفسه يستحيل أن يكون مستضعفا . لأن المستضعفين هم الذين شاءوا لأنفسهم الاستضعاف . هذا عن فرد واحد ، قرّر أن يعيش حُرّا أبيّا ، ويهون عند الموت كريما بدلا من العيش ذليلا . فماذا عن شعب إختار أن يعيش حُرّا أبيا ، يرفض أن يكون مملوكا لحكم فردى مستبدّ .
5 ـ مستحيل أن تنتشر الحُرية والكرامة من فرد واحد ليقتنع بها شعب من الملايين . تبدو المشكلة صعبة جدا مع الشعب المصرى الذى تجاوز مائة مليون نسمة ، من بينهم عشرات الألوف ـ فقط ـ من المترفين الرّعاع الذين يخدمون الفرعون . ليست المشكلة فقط في الأغلبية الساحقة للمستضعفين ، ولكن أيضا في تاريخهم العريق في الخضوع والخنوع والرضى بظلم الحكام ، وقد إكتسب هذا الظلم تشريعا دينيا في دينى التصوّف والسُّنّة ، وركّزه وجذّره أكابر المجرمين من رجال الين ، ثم في عمل الفرعون المستبد في ترهيبهم بالسجن والتعذيب والبطش والتنكيل والفصل من العمل والملاحقة الأمنية ليس للشخص فقط ولكن لأسرته وأعزّ الناس اليه .
6 ـ في هذا المناخ السوداوى المظلم لا تثمر الأمثال الشعبية المصرية التي تقول ( الرّب واحد والعمر واحد ) و ( ما ياخدش الروح إلا خالقها ) ، وتنتصر أمثال شعبية مصرية أخرى تعبّر عن الخنوع والنفاق والذُّل والصغار ، وهى كثيرة ومتوارثة ، منها :( علقة تفوت ولا حد يموت ) ،( الصبر حرق الدكان ) ، ( أُصبر على جار السوء لغاية ما يموت أو تاخده داهية ) ( ضرب الحاكم شرف ) ( إذا كان عندك الكلب حاجة قل له يا سيدى ) ( إذا دخلت بلد تعبد عجل حشّ واطعمه ) ( الناس أتباع لمن غلب ) ( الخضوع عند الحاجة رجولية ) ( علقة تفوت ولا حد يموت ) ( سلطان غشوم ولا فتنة تدوم ) ( طاطى لما تفوت ) ( ما حد يقول يا جندي غطى دقنك ) ، ( اللى ما تقدرش تواقعه نافقه ) ( در مع الأيام إذا دارت ) ( الإيد اللى ما تقدرش تقطعها بوسها ) ( اللى ما تقدر عليه فارقه أو بوس ايديه ) ( بوس الأيادى ضحك على الدقون ). ولا تزال الأم الريفية تدعو لابنها (الله يكفيك شر الحاكم الظالم). وترسب في الثقافة المصرية مفهوم ( الستر ) ووصف الرحمن جل وعلا بأنه ( الستّار ) وليس هذا من أسمائه جل وعلا الحسنى ، مع كثرة من يتسمى من المصريين باسم ( عبد الستار ) . (الستر ) تعبير مصري بليغ عن الخوف من المجهول ، والأغلب أن يأتي هذا الظلم المجهول من الفرعون ، فالمثل الشعبى يقول أيضا : ( سيف السلطنة طويل ) ، يعنى أن سيف الظلم سينال منه إن عاجلا أو آجلا ، لذا يقول المثل المصرى ( اللى سترها في الأول يسترها في التانى ) .
7 ـ ثقافة الاستعباد والعبيد والاستضعاف ممكن أن تبدّدها التوعية المكثّفة ليتحرّر الناس من سُلطة المستبد ورجال الدين ، وهما معا أكابر المجرمين . وهذا يحتاج وقتا وجهدا وتعاونا. وهنا أيضا يظهر السبب في إضطهاد العسكر لنا أهل القرآن . وفى هذا الاضطهاد يتعاون مع العسكر خصومهم من الاخوان والسلفيين السنيين . يتصارعون ولكن يتفقون على كراهيتنا ومطاردتنا . الشيوخ بفتاوى حد الردة والعسكر بالسجن والتعذيب والاضطهاد ومحاولات قطع الأرزاق والتجويع . جريمتنا أننا نوقظ الناس من غفلتهم بدعوة إسلامية من داخل القرآن الكريم الذى يزعمون الايمان به ، وهم أكفر البشر به . قلت في مقال سبق أننى في مصر كنت أحمل مصريتى عارا فوق جبهتى . حين هاجرت لأمريكا شعرت بمدى الظلم الذى تحملته في مصر ومدى حقوقى المسلوبة . في أمريكا تمتعت بالحد الأقصى من حرية التعبير . حضرت مؤتمرات مفتوحة وجلسات مغلقة ، وهاجمت فيها غزو العراق ـ وقتها ـ وفي مجلس خاص عقده لى أشهر عضو في الكونجرس وقتها ( فرانك وولف ) وحضره سياسيون من ( الدولة العميقة ) ، وسألونى عن رأيي في صُنّاع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط فقلت : إنهم بلهاء .
8 ـ ولكن في مصر وشعبها الخانع المُستضعف بإرادته كنت لا أجد سوى الاضطهاد بسبب كتاباتى . في مرة من الاستدعاءات الأمنية الروتينية الى أمن الدولة ـ وكان القصد منها إرهابى حتى أسكت ـ قلت للضابط : " أنا كاتب مُسالم لا طموح لى في السياسة ولا أعمل بها ، عملى فقط في الإصلاح السّلمى ، وأنا مثلكم ضد الاخوان ، فلماذا هذه الاستدعاءات وهذا التهديد" ، فقال : ( أنت أخطر علينا من الاخوان لأنك بتصحّى الناس ). هذا الضابط قال الحقيقة . العسكر والاخوان معا ضد توعية الشعب المصرى ، لأن توعية الشعب تعنى إنتهاء الاستضعاف ، وإذا أنتهى الاستضعاف فليس لهم مكان في مواجهة شعب قرّر أن يكون حُرّا كريما .
9 ـ جهدنا خلال عدة عقود أثمر تحطيم الكثير من الأبقار المقدسة والعمائم الملوثة ، دخل في التوعية الدينية والسياسية كثيرون ، ولكن لا يزال الطريق صعبا وطويلا ، فقد قام العسكر خلال سبعين عاما بتخريب مصر ماديا ومعنويا . وهذا العسكر الخائن الخائب قد وصل الى أحطّ الدرجات في خصومتنا ، الى درجة إتّخاذ أهالينا الأبرياء في مصر رهائن لاسكاتنا ، وهو يعرف أننا لا نسكت ولا نتراجع ولا نتوقف ، ولكنه الانتقام الرخيص .
أخيرا
أحسن الحديث ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (11) الرعد ).
ودائما : صدق الله العظيم .!!
اجمالي القراءات 2765