الباب الثانى : الضعف النفسى والاستضعاف والمستضعفون
الضعف النفسي : قصص من الحياة ومن التاريخ

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٦ - نوفمبر - ٢٠٢١ ١٢:٠٠ صباحاً

الضعف النفسي : قصص من الحياة ومن التاريخ
كتاب ( ضعف البشر في رؤية قرآنية )
الباب الثانى : الضعف النفسى والاستضعاف والمستضعفون
الضعف النفسي : قصص من الحياة ومن التاريخ
أولا :
قصص من الحياة
1 ـ هذه قصة مشهورة . بطلها ــ رحمه الله جل وعلا ــ كنت أعرفه جيدا .
1 / 1 : كان إنسانا بسيطا وشهما وفقيرا . كان يعمل في زراعة أرض يملكها أحد الأثرياء أصحاب النفوذ . عمل هذا الفلاح بكل ما في وسعه في موسم زراعة القطن ، وطمع صاحب الأرض الثرى في أن يخرجه من الأرض بالقوة ، برغم الاتفاق المكتوب بينهما . أمره أن يترك الأرض بلا مشاكل ، فرفض . قال له : " ستخرج منها بالقوة ، وإياك أن تذهب الى هناك ". في اليوم التالى ذهب الى الأرض فوجد عشرة من الرجال الأشدّاء كل منهم معه بندقية يلوّح بها في الهواء تهديدا له . كان معه الفأس ، رفعه وجرى نحوهم عازما على أن يقاتلهم ، رأوه بحالته هذه ، فهربوا جميعا .
1 / 2 : هذا شخص وحيد ، وأمامه عشرة رجال مسلحون . المنظر الخارجي يؤكد أنهم الأقوى . ولكن هذا الشخص ( الضعيف الوحيد ) أيقظ في نفسه قوة كامنة. ببساطة قرّر أن يموت دفاعا عن حقه وكرامته . الآخرون ليست لهم قضية تستحق أن يقاتلوا في سبيلها . هم راهنوا على ضعف الرجل متأكّدين أن مظاهرتهم المسلحة سترعبه وتُخيفه . لم يخف ، بل هجم عليهم بقوة فهربوا .
2 ـ كتبت هذا المقال ونشرته جريدة الأحرار في يوم 28/ 9/ 1992 . وكان عنوانه ( فلسفة النجاح ) . أُعيد نشره هنا :
( 1 ـ هذه قصة حقيقية حدثت في الستينات. بطلها فلاح مصري عادي, كان يمتلك بضعة أفدنة يقوم على زراعتها بنفسه لأن أولاده تخرجوا في الجامعات وتشعبت بهم السبل وتركوه وحيدا يزرع الأرض . وفي تلك الأيام كانت الجمعية الزراعية تسيطر على كل ما يخص الأرض والفلاح ، وكان مركز البوليس يعيش في فترة طوارئ في موسم زراعة القطن , وكان الفلاحون يساقون إلى مركز البوليس بالعشرات إذا اتهمتهم الجمعية الزراعية بالتهاون في مقاومة دودة القطن أو مخالفة الدورة الزراعية ، أو بأي تهمة تجول بخاطر السيد المسئول عن الجمعية الزراعية . وهناك في المركز كان المأمور وزبانيته يقومون بعملهم الروتيني ؛ يعلقون الفلاحين المساكين كالذبائح وينهالون عليهم ضربا . وبعد العلقة الساخنة يعود كل فلاح يلعق جراحه ويشكو الظلم لربه ويكتفي بذلك ، حيث اعتاد الفلاح هذا العذاب منذ أيام السخرة في عهد محمد علي باشا حتى ارتبطت شجرة القطن في ضمير الفلاح المصري بوصف ( شجرة العذاب ) . وشاء حظ صاحبنا الفلاح بطل هذه القصة أن يساق مع غيره إلى المركز بتهمة أنه لم يساهم بأنفار – أو صبيان - في المقاومة. وكان عذره واضحا، لأن أولاده كبروا وتركوا البلد ، واعتاد أن يستأجر بعض الصبيان حتى لا يعطي الفرصة لخصومه في الجمعية الزراعية ، ولكن حدث أن تخلف أحد الصبيان يوما فاستيقظ صاحبنا من نومه في اليوم التالي على استدعاء له بالذهاب لمركز الشرطة. وهنا ذاق ما ذاقه الآخرون من التعليق والضرب بالسوط والعصي والفلقة، وعاد وجروحه النفسية والجسدية أقصى من طاقته على الاحتمال. وظل طوال الليل لا تغفل له عين . وفي الصباح أستأجر رجالا قاموا بتقطيع كل أشجار القطن في أرضه ، واستأجر عربة نقل ضخمة. وفوجئ مأمور المركز في اليوم التالي بأكوام هائلة من أشجار القطن ملقاة أمام مبنى المركز. ودخل عليه صاحبنا الفلاح ، وقال له بصرامة: ( هذا هو القطن الذي علقتني بسببه كالذبيحة وتورم جسدي في سبيله. خذه) ، وقبل أن يفيق المأمور من دهشته تشجع صاحبنا الفلاح وبصق في وجه المأمور ، وصرخ بأن لديه بندقية في بيته وإذا جاءه أحد من طرف المركز بعد الآن سيفرغها فيه ثم يقتل نفسه، وانه لن يزرع قطنا بعد الآن ولن يستطيع مخلوق أن يرغمه على زراعة هذا القطن الملعون. وبعد ذلك خرج الفلاح من المركز مرفوع الرأس ، والمأمور قد توقف عقله عن التفكير من الذهول والمفاجأة والخوف، وهو لا يعرف كيف يتصرف في أطنان الشجر الذي يسد الطريق أمام المركز، وهو يخشى أن يصل الأمر إلى رؤسائه وأن يكون متهما في تدمير تلك الثروة. وفي النهاية أمر قطيع الفلاحين الغلابة ــ الذين جئ بهم في ذلك اليوم لينالوا نصيبهم من العذاب – أمرهم بالتخلص من تلك المشكلة. وتعلم من يومها أن يحترم ذلك الفلاح الشجاع وألا يعترض طريقه. وحافظ صاحبنا على كلمته فلم يزرع القطن في أرضه إلى أن مات عزيزا كريما.
2 ـ عايشت هذه الحادثة حين كنت طالبا في الثانوي ، وعاش هذا الفلاح في عقلي نموذجا للمصري الأبيّ الذي يستيقظ فيه فجأة بركان الصبر على الظلم فيدمّر ما يقف في طريقه .!. وبركان الظلم في الضمير المصري يبلغ من العمر سبعين قرنا من الزمان ، احتمل فيها الفلاح المصري آلاف الظلمة من الأجانب ، ثم جاء على طريقهم الحكام المصريون بعد الثورة فألهبوا ظهور إخوانهم بالسياط في أقسام الشرطة والسجون والمعتقلات , ولا يزالون يفعلون .. ويحدث أحيانا أن يستيقظ البركان وتظهر فورة غضب مدمرة ولكن تستطيع الدولة القضاء عليها دون حل جذري للمشكلة ، مما يجهز المسرح المصري لفورات غضب أخري والله وحده هو الأعلم بعواقبها .
3 ـ إن المصريين مثل رمال الصحراء ؛ قد يتحملون أقدام الظالمين ، ولكنهم في لحظة ما تثور رمال غضبهم في عيون الظالم وتجرفه الرمال المتحركة إلى غياهب المجهول . ولابد من علاج لهذا الحال حتى لا يتراكم الإحساس بالظلم وينفجر في بركان .
4 ـ أيها المصري : لا تظلم أحدا ولا تدع أحدا يظلمك . لا تفرط في حقك ولا في كرامتك طالما أنت على الحق . وتذكر أن ربك وحده هو الذي بيده مفاتيح الرزق وبيده موعد الموت ، ولا تملك قوة في العالم أن تمنعك رزقا كتبه الله لك ، ولا أن تُميتك قبل الموعد الذي حدده الله تعالى لموتك . وطالما أن الرزق والعمر بيد الله تعالى وحده فلا تخش أحدا إلا الله ، وإذا اتقيت الله وحده فلن تخاف البشر . إنك إذا تمسكت بحقك ورفضت الظلم أرغمت الظالم أن يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على ظلمك. أما إذا تمسكت بفلسفة النعاج وتحملت الظلم مرة ومرات فإنك تشجع كثيرا من الحيوانات الأليفة على افتراسك ، فحيث تتكاثر النعاج تتكاثر إلى جانبها الذئاب ، والشعب الواهن الذليل هو الذي يخلق الفرعون المستبد في كل مكان. والشعب الخانع يفرز حكومة ظالمة تستأسد على الشعب الذي أنجبها وتتضاءل في نفس الوقت أمام حكومات العالم ، ولا تستطيع أن تنتصر إلا على الشعب الذي تسترقه ..
5 ـ إننا ينبغي أن نكون شعبا من الأحرار الأقوياء لتنبثق عنا حكومة قوية حرة. إن ذلك الفلاح المصري الذي بصق في وجه المأمور الظالم ينتمي إلى أسلاف عظام كان منهم السحرة الذين رفضوا إرهاب فرعون. ).
انتهى المقال الذى كتبته عام 1992 ، قبل الثورة الشعبية المصرية عام 2011 .
وأقول الآن ( 6 نوفمبر 2021 ) :
1 ـ لو تجمع عدة مئات من كل قرية أو حىّ في كل مدينة ، وتوجهوا الى أقرب مقر للشرطة أو ( أمن الدولة ) وزحفوا نحوه بتصميم وعزم فان الجنود والحراس سيهربون ، وسيهرب الفرعون نفسه .
2 ـ الفرعون يستمد قوته وجبروته من ضعف الشعب واستكانته وخضوعه وخنوعه ورضاه بالذلة والهوان . ولكن في داخل الفرعون خوفا ورُعبا يفوق المظالم التي يرتكبها والفساد الغارق فيه . هو الأضعف في نفسه ، ولكنه يستند على :
2 / 1 : استكانة الناس ، وثقافة ( الأنا ماليه ) يعنى ( وأنا ما لى ) .
2 / 2 : جنوده من نفس الشعب المأمورين بتعذيب وقهر أفراد الشعب .
هؤلاء ليست لهم قضية تستحق أن يناضلوا في سبيلها ، وهم يعرفون أن ما يفعلونه ظلم وقهر ، ولا يرضى أحدهم أن يحدث لأهله ما يفعله بالأبرياء ، ولكنه مُرغم أن يكون ترسا في آلة القهر . لا يقتصر هذا على الجنود بل هو نفس الحال مع الضباط ، وهم الأكثر وعيا وثقافة . في النهاية حين يزأر آلاف من الناس وينهضون دفاعا عن حريتهم وكرامتهم وحقوقهم الإنسانية والسياسية والوطنية فلن تصمد أمامهم تروس آلة القهر .
ثانيا :
من التاريخ المصرى
نحكى بعض ما جاء في تاريخ ابن الصيرفى ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) الذى يؤرّخ فيه لعصر السلطان المملوكى قايتباى .
1 ـ قال عن بعض الحرفيين من طوائف العوام الذين رفضوا الظلم : ( وأصبحت مصر وأهلها ( يقصد ما يعرف الآن تقريبا بالقاهرة الكبرى ) في ألم شديد من عدة وجوه : وهو أن أساكفة ( أي صُنّاع الأحذية ) رُمى عليهم من ديوان الدولة جلود ( أى ألزمتهم الدولة بشراء جلود ليصنعوا منها الأحذية ) وأخذوا منهم عدة زرابيل ، نحو كل زربول بستة أنصاف ( النّصف عُملة فضية ) تحت ستة آلاف زربول ، وأما الخياطون والجوخيون ( صنّاع الجوخ ) وأرباب الصنائع فهم مجتمعون في عمل احتياج عظيم الدنيا الدوادار الكبير لأجل سفره ( أى تم تسخيرهم فى إعداد الحملة الحربية المتوجهة لقتال شاه سوار بقيادة الداودار الكبير يشبك ) ومصروفه في كل يوم على ما بلغني يصل إلى ألف دينار، ولا يقطع لأحد منهم درهماً واحداً ( أى لا يعطيه ) ..، وأما التجار الذين بالحوانيت فإنهم من أول شهر رمضان (875) إلى نصف الشهر المذكور بطّالون ( أى عاطلون ) بسبب بيع تركة الكفيلى بردبك الفارسي.. وإلى الآن ما انتهى المبيع، واتفق أن الأمير شرف الدين موسي بن غريب المتكلم في الوزارة عوضاً عن قاسم ، رمى الجلود التى أخذها منه من المدابغ على الأساكفة الذين بين القصرين وعلى أهل الصليبه: الدرهم بمثله مرتين على ما بلغني ، ( أى باعه لهم قسرا بثمن مضاعف ) ، وغرموا لأعوانه وقربائه ما لا يطيقونه،( أى أرغموهم أيضا على دفع الرشوة )، فأما أساكفة بين الصورين فإنهم اخذوا الجلود ووعدوهم ببعض الثمن ، وأما أساكفة أهل الصليبة فقد أصبحوا فوقفوا للسلطان فردهم خدام الحوش السلطانى ، فرجعوا وصعدوا إلى أعلى الجبل المقابل لحوش السلطانى الذى يجلس فيه للخدمة والأحكام واستغاثوا، فسأل السلطان عن أمرهم فأخبروهم بحالهم، فغضب السلطان- نصره الله ــ على ابن غريب وانتهى الأمر بإنصاف الأساكفة.).
2 ــ وتكرر نفس الموقف من تجار الأخفاف أو الأحذية في 8 أو 9 جمادى الآخر 876 ، فقد وقفوا للسلطان يشتكون الوزير لأنه استجد عليهم ضرائب جديدة، فقد كان عليهم في كل شهر أربعمائة درهم فزادها عليهم إلى ثلاثة آلاف، فأمر السلطان الوزير ابن غريب أن يرفع عنهم الزيادة ، وذهبوا لابن غريب فجعل المبلغ ألفاً وخمسمائة درهم فعادوا يستغيثون بالسلطان للمرة الثالثة فيما يحكيه مؤرخنا، فما كان من السلطان إلا ألغى ضرائب الأخفاف مطلقاً .
نقول : هؤلاء أساكفة حىّ الصليبية ( لا يزال حتى الآن في القاهرة ) لم يرضوا بالظلم وصمموا على الاحتجاج فأنصفهم السلطان. ماذا لو فعل ذلك كل العمال الحرفيين والفلاحين والمثقفين ؟
ثالثا : من التاريخ الفرنسي
1 ـ قبل يوم 14 يولية عام 1789 ، كان لسجن الباستيل في باريس نفس الشهرة المتوارثة في القهر والتعذيب ، مع أن المساجين فيه تقلّص عددهم . ولكن تشجّع ( أقول : تشجّع ) بعض الباريسيين فهاجم موقعا للبوليس في ليزانفيلد وغنموا ما فيه من بنادق ، ولم تكن فيها ذخائر . كانت الذخائر مع معظم الأسلحة داخل سجن الباستيل المُرعب ، والذى يقوم على حراسته حوالى 600 شخص . إتّجه حوالى 1000 من المتظاهرين وأحاطوا بالباستيل غير خائفين ، وصرخوا في الحراس يطالبونهم بالاستسلام . ودارت مفاوضات ثم مناوشات وسقط قتلى ، بعدها سقط حصن أو سجن الباستيل . واصبح يوم 14 يولية 1789 عيد قوميا للحرية الفرنسية .
رابعا :
قالها :
1 ـ أحمد شوقى :
1 / 1 : وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدقٌّ
1 / 2 :وما نيل المطالب بالتمنّى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
2 ـ أبو القاسم الشّابى :
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلى ولا بد للقيد أن ينكسر

أخيرا
أحسن الحديث :
قال جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )(11) الرعد )
اجمالي القراءات 2831