خاتمة كتاب ( مسلسل الحُمق .. )

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٢ - نوفمبر - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 خاتمة كتاب ( مسلسل الحُمق .. )

أولا :

1 ـ تخيّل قرية ما يعيش سكانها في هدوء لا يسمع بهم أحد . ثم ظهرت فيها عصابة ، إشتهرت العصابة ، وارتبط إسم القرية بهذه العصابة . لا أحد يعرف أهل القرية الطيبين ، ولكن المجرمين هم الذين ترددت شهرتهم في الإعلام . وفيما بعدُ لن يتذكر الناس من هذه القرية سوى أسماء مجرميها ، أما الأهالى فلن يعرفهم أحد . ولو جاء مؤرخ فلن يسجل إلا ما هو مذكور في الصحف وما تواتر على ألسنة الناس ، أي لن يذكر من هذه القرية سوى مجرميها . لهذا نقول إن التاريخ ينام في أحضان الطغاة .

 في ألمانيا في أربعينيات القرن الماضى كان فيها الملايين من غير النازيين ، لم يذكرهم التاريخ لأنه إنشغل بهتلر وأتباعه ، وهكذا في نفس الحال في كل زمان ومكان . ربما تغيّر الأمر بعض الشىء بظهور السوشيال ميديا التي أتاحت حيّزا للناس العاديين أن يعبروا عن أنفسهم وأحوالهم وآرائهم . لكن تظل الحقيقة سافرة : إن التاريخ لا يهتم إلا بأكابر المجرمين من المستبدين ورجال الدين ، الذين يصلون للحكم وبالفساد ، وبهم يعُمُّ الفساد .

2 ـ ينطبق هذا على تاريخ المسلمين ، فهو يدور حول أكابر المجرمين من الخلفاء والسلاطين وأعوانهم من رجال الدين . أما المستضعفون فلا يهتم بهم التاريخ إلا بالأوصاف ، أو عندما يتعرضون لكارثة ، يذكرهم بدون أسماء ، في سياق خبر فعله أحد كبار المجرمين المذكور بالاسم والوصف والوظيفة .

3 ـ يظهر هذا واضحا في التناقض بين القصص القرآنى عن عصر النبى محمد عليه السلام ، والتاريخ المكتوب عن الصحابة بعده . لقد ذكر رب العزة جل وعلا في سورة التوبة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) ، وذكر في سورة الأحزاب الصحابة الذين صدقوا الله جل وعلا ما وعدهم: (  وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22) مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) ، والصحابة في سورة الحشر الذين هاجروا تاركين أموالهم وديارهم إبتغاء مرضاة الرحمن جل وعلا فأصبحوا فقراء في المدينة : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8)). القصص القرآنى لا يهتم بذكر الأسماء لأنه ليس تاريخا ، هو قصص للعبرة والهداية . التأريخ للمسلمين تم تدوينه بعد عقود من الروايات الشفوية ، صنع أحداثا لا أصل لها ، واشخاصا لا أصل لهم ، وإختلف مع ما ذكره رب العزة جل وعلا في تصوير شخصية النبى محمد الذى أرسله الله جل وعلا بالقرآن الكريم رحمة للعالمين .

هذه كلها خطايا هائلة . ولكن يهمنا منها في موضوعنا أن هذا التاريخ وقع في نفس الخطأ ، أي أهمل تماما الصحابة السابقين بالعمل الصالح ، وركّز على أكابر المجرمين الذين قاموا بالفتوحات ، وغيّروا موازين القوى في عصرهم ، وكوّنوا امبراطورية تحت شعار الإسلام ، وهى ضد الإسلام . جعلهم التاريخ آلهة ، وأطلق عليهم لقب ( الخلفاء الراشدين )، تمييزا لهم عمّن جاء بعدهم من الخلفاء الأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين .

4 ـ مع هذا نجد العُذر للتاريخ والمؤرخين ، فقد كتبوا التاريخ بأثر رجعى ، كتبوه بعد عقود من الروايات الشفهية ، وفى ظل عصور الخلافة التي تستمد شرعيتها السياسية والدينية من الخلفاء الأوائل مؤسسى الإمبراطورية العربية ، ولأنهم ــ وهذا هو الأهم ـ لم يعثروا على أي أخبار عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . لماذا ؟ لأن السابقين حافظوا على التقوى حتى موتهم فاستحقوا الجنة . أي رفضوا المشاركة في الفتوحات ، ورفضوا التصارع على حُطام الدنيا ورفضوا إستخدام إسم الإسلام العظيم في الاعتداء على أقوام لم يبدأوا العرب بالاعتداء ، ورفضوا إحتلال بلاد الغير وسلب أموالهم وإسترقاق نسائهم وذراريهم باسم الإسلام ظلما وعدوانا . هؤلاء السابقون رأوا في كل ذلك تناقضا مع ما عاشوا عليه في صُحبتهم للنبى محمد عليه السلام ، لذا آثروا الابتعاد عن المشهد والانسحاب من مسرح الأحداث ، فجاء التاريخ فلم يجد سوى أكابر المجرمين .  

ثانيا :

1 ـ هذا يذكّرنا بقوله جل وعلا :

1 / 1 :  ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص) . فالذين لا يريدون عُلُوّا في الأرض ولا فسادا هم المتقون أصحاب الجنة في الدار الآخرة . أما الذين يريدون العُلُوّ فوق رءوس الناس فلا يمكن أن يصلوا لهذا إلا بالفساد وسفك الدماء والإرهاب ، ولا يمكن أن يحتفظوا بالعلو إلا بالفساد وسفك الدماء والإرهاب .

1 / 2 : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) الفرقان ) .

1 / 2 / 1 : يتّضح من الآيات الكريمة أن عباد الرحمن هم المتقون أصحاب الجنة . يستحيل أن يكون منهم أولئك الذين يريدون عُلُوّا في الأرض وفسادا . على النقيض من ( عباد الرحمن ) تجد ( شياطين الإنس ) من أكابر المجرمين من المستبدين ورجال الدين . هل تتصوّر أحدهم يمشى على الأرض هونا وإذا خاطبه الجاهلون قال سلاما ؟ هل تتصورهم يبيتون لربهم سُجّدا وقياما ؟ هل تتخيلهم يخشون عذاب الآخرة ؟ هل تتصورهم لا يقعون في خطايا الكفر والقتل والزنا ؟

1 / 2 / 2 :  تاريخ الخلفاء والسلاطين والحكام المستبدين كان ــ ولا يزال ـ مسلسلا من سفك الدماء والتعذيب والظلم  والقهر والبهتان ، ويعينهم عليه أتباعهم من رجال الدين ، وهما معا  ( أكابر المجرمين ) ، وهما معا ( الأبطال في التاريخ )، وهم حاليا نجوم المجتمعات التي تتناثر أخبارهم في الصحف والمجلات والقنوات  .  

ثالثا :

1 ـ أكابر المجرمين من السلاطين أنواع ، منهم : العلماني الذى لا يؤسّس سلطانه على زعم دينى . قد يلجأ أحيانا الى مسوغات دينية هامشية ، لكن تظلُ قوته في مهارته السياسية وفى إمتلاكه أدوات القوة. هذا لو فشل في الوصول الى الحكم أو في الاحتفاظ به فهو فاشل ، ولكن لا يصحُّ وصفه بالحُمق .

2 ـ المستحق للوصف بالحمق هو الذى يرى نفسه متميزا عن الآخرين بسبب دينى ، ويرى هذا كافيا للوصول للحكم أو الاحتفاظ به . بسبب هذا التميّز ـ الذى يؤمن ـ به تراه لا يأخذ بأسباب القوة ، ولا بألاعيب السياسة ، وبهذا الحمق يخسر وينهزم ويفقد حياته .

3 ـ الشيء الغريب هو توارث هذا الحُمق في (على ) والطامحين للحكم من ذريته . (على ) كان يرى نفسه متميزا عن زملائه خلفاء الفتوحات بأنه الوحيد صاحب ( تراث محمد )، أي الذى ينبغي أن يكون الوارث سياسيا بالخلافة والوارث ماليا في غنائم الفتوحات . وعلى سُنّته سار الحسين ثم زيد بن على بن الحسين ثم يحيى بن زيد ، ثم محمد النفس الزكية وأخوه إبراهيم .

4 ـ لو كان (على ) من السابقين عملا وإخلاصا ما عرفه أحد . ولكنه دخل في صراع دنيوى ، يسفك الدماء في الفتنة الكبرى ، وبدون أن يتّخذ للأمر عُدّته كما فعل غريمه معاوية ، بل بلغ (على ) في حمقه أنه هو الذى أعان معاوية على نفسه بسوء سياسته ، والتفصيل في كتابنا ( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين .  وسلك بعض ذريته مسلكه   في الصراع على السلطة بنفس الحُمق .

4 ـ، هم ذرية حمقاء بعضها من بعض .

5 ـ  والأحمق منهم من يؤلههم ويتخذهم أربابا من دون الله جل وعلا . 

اجمالي القراءات 2173