ليلة إحتضار الملحد .. قصة قصيرة

شادي طلعت في الجمعة ٠٩ - أكتوبر - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

أثناء هطول أمطار يناير، وشدة البرد القارص، كانت سيدة (متدينة) تضع حملها، مع كل صرخة، وطلقة من طلقات الولادة، كان يصاحبها (دوي الرعد) فــ يملأ الدنيا رعباً.

زاد الخوف والإرتجاف، ممن كانوا حول السيدة التي تضع حملها، شعروا وكأن السماء تنبأهم بأن مكروهاً سيحدث، دوي الرعد مخيف، مرعب، ويرهب كل من كانوا حول غرفة الولادة، وصراخ المرأة يوحي بأنها تنازع الموت، وأن الليلة هي ليلتها الأخيرة.

 

وفجأة توقف صراخ المرأة، وسكت دوي الرعد، صمت كل شيء، وإذ بالسماء تضاء ببرق بديع، ومع لحظة ظهوره، إنطلق الصراخ، ليس صراخ المرأة هذه المرة، بل كان صراخ الطفل الذي خرج للحياة.

 

خرج الطبيب ليخبر المنتظرون، أن المرأة قد ولدت ولداً، وأنها والرضيع بخير، إبتسم الجميع وظلوا يتبادلون التهاني، بمناسبة المولود الجديد، إلا شخص واحد، كان عبوساً بسبب ولادة المرأة تارة، وعبوساً لأحوال الطقس المخيفة تارة أخرى.

كان هذا الشخص، هو والد الطفل الرضيع، بعد أن سمع بإتمام الولادة على خير، خرج لشرفة المنزل ينظر إلى السماء، وكأنه يسألها، لكن البرق ظل يضيء، وظل الطفل يصرخ، وما أن توقف البرق، حتى هدأ الطفل وسكت عن البكاء.

دخل الطبيب على شرفة الأب يسأله أن يدخل على زوجته ليطمأن عليها وعلى وليدهما، لكن الأب كان ينظر للسماء يناجيها، كان لسانه ينطق بعبارات تسألها السلامة للوليد الحديث، إنها دعوات رجل صالح، وليست مجرد دعوات أب لإبنه، قد كان الأب رجل دين، يختلف عن أي من رجال الدين، كان بينه وبين السماء علاقة خاصة، يسألها، ويناجيها، وكان الناس يقولون  أن السماء ترد عليه مناجاته.

 

أنهى الأب دعواته، ثم دخل على زوجته، وكانت ترضع الوليد، نظرت المرأة لزوجها، وأفلتت الرضيع من صدرها وحملته بيديها إليه، قائلة، ماذا ستطلق على إبنك ؟.

حمل الأب الرضيع، فوجده هادئاً، حاد العينين، ينظر إليه بنظرات ثاقبة، عيناه ثابتتين، لا تنحرفان، ومن لحظة أن حمله الأب، لم تحد عينا الرضيع عن عينا الأب، كما لو أنه غير عابئ بأي ضوضاء حوله، لم يعني الرضيع في تلك اللحظة إلا أباه الصالح.

وظل الأب أيضاً ينظر في عين إبنه، ظل كلاهما في نظرات متبادلة يتناجيان، لكن لم يعلم أحد ماذا كان يدور بين الأب وإبنه !.

 

أعاد الأب الطفل إلى أمه، قائلاً لها، أكملي رضاعة "أصمع"، صمتت المرأة لحظات، ثم قالت لزوجها :

 

الأم : أهذا إسمه.

الأب : نعم قد أسميته "أصمع".

 

الأم : ليس ذلك بإسم معتاد !.

الأب : وإبنك ليس بالطفل المعتاد.

 

مرت سنوات من العمر، ودخل "أصمع" المدرسة، وكان نجيباً في دراسته، منذ السنة الأولى وطوال مراحل دراسته، لكن .. طوال تلك الأعوام التي أصبح فيها "أصمع" يدرك، لم تكن الإبتسامات تعرف طريقاً بينه وبين والده، ولم يحدث مرة أن حاول "أصمع" و أبوه، أن يتبادلا النقاش حول أي من الأمور.

 

تعجبت أم "أصمع": من لغة حوار إبنها مع زوجها، كانت الأم تعلم أن زوجها رجل غير عادي، إنه رجل صالح بشهادة الجميع، صاحب كرامات، عادل، أمين، لكن لم يبدو للأم أن ولدها سيكون مثل زوجها.

 

حان وقت إختيار الجامعة لـ "أصمع"، توقع الجميع أن يتوق الفتى النجيب لدراسة الطب أو الهندسة، إلا أنه إختار دراسة الفلسفة !.

تذمر كل أقارب وأصدقاء "أصمع"، من إختياره لدراسة الفلسفة، إذ ليس لمثل تلك الدراسة مستقبل في وطنه، إلا أن الفتى كان مُصِرُ على رأيه، ومع تذمر الجميع من قراره هذا ومحاولتهم نأيهم عنه، كان الأب يتفهم ما يدور برأس إبنه، فلم يتذمر عليه أبداً !، بل ذهب إليه ودعا له بالتوفيق في عالمه الجديد، لكن الفتى لم يُعر الأب أي إهتمام، فقال له الأب :

 

الأب : عليك أن تعلم أني لم أدعو لك منتظراً منك الشكر.

أصمع : أحسنت، فلن أقدم لك الشكر.

 

الأب : قد نكون الآن في غرفة واحدة، ليس أحدُ معنا، بيد أننا لم نلتقي منذ ولدت.

أصمع : ولن نلتقي يا أبي، عليك أن تعي هذا.

 

الأب : أعلم هذا منذ أن نظرت بعينيك، يوم ولادتك، وجدت عيناك عينا ذئب جامح، يُصِرُ على رأيه.

أصمع : لو كنتُ خيرت بينك وبين آخرين، ما كنت إخترتك.

 

الأب : صدقني يا بُني، سيأتي يوم ونلتقي.

أصمع : إذاً سوف تأتي أنت إلي.

 

الأب : لا .. بل سوف تأتي أنت إلي، واعلم .. أنا لن أمل من إنتظارك، حتى وإن فارقت الحياة.

أصمع : إن فارق أي منا الحياة، فاعلم أننا لن نلتقي أبداً.

 

  • سمعت الأم بعد أن تنصتت على زوجها وولدها، هذا الحوار الذي دار بينهما، لكنها لم تدرك أبداً ماذا كان يقصد كلاهما من حديثه !.
  • وبعد أن تخرج "أصمع" من الجامعة، جاء يوم أسود على عائلته، وكل من كانوا على علاقة بوالده، لقد مرض الأب، ذلك الرجل الصالح صاحب الكرامات، ذهب أصمع لرؤية والده، فإذا بأبوه يقول له :

 

الأب : أنا أنتظرك منذ ولدت، وليس موعد زيارتك معي اليوم.

أصمع : ألم أخبرك أنه إن فارق أحدنا الحياة أننا لن نلتقي.

 

الأب : صدقني يا بُني، سترحل بعيداً، لكنك ستعود إلي.

اصمع : يا أبي .. عليك أن تعلم أنني قد عُدت منذ ولدت.

 

دخل على الأب وإبنه أحد رجال الدين، فقطع حديثهما، وما أن دخل، حتى خرج "أصمع" من غرفة والده، غير عابئ بمرضه أو بما قد يلحق به، ولم يمضِ وقت طويل حتى توفي الأب.

فــ وجد الجميع في "أصمع" ضالتهم، كــ بديل عن صاحب الكرامات الذى رحل للسماء، لكن كان رد "أصمع" على الناس قاسِ وقوي :

 

أصمع : ماذا تريدون مني ؟

الناس : أنت وريث أبيك الصالح، نريد منك دعاؤك.

 

أصمع : عن أي دعاء تتحدثون أيها الجهلاء، حياتكم أنتم من وضعها، ليس من مات ولا أنا، ولن تنجدكم السماء.

الناس : لا تقل ذلك عن أبيك، قل في نفسك ما شئت، ولا تشكك بإيمان ترسخ في قلوبنا.

 

أصمع : عن أي إيمان أيها الجهلاء تتحدثون، ما أنتم إلا آلات مادية، تحفظ ما يملى عليها وتردده، خلقتم بعقول عاطلة عن العمل.

الناس : إعلم أن بينك وبيننا سد لن يزال إلى أن تموت أو نموت نحن، ما كنا نعلم أن إبن صاحب الكرامات (شخص ملحد) !.

 

نعم كان "أصمع" شاب ملحد، غير مؤمن بما يؤمن به أهله، وكان صاحب علم غزير، فقد نال عن والده العلم، كما نال ودرس وتعلم، في العلوم الدينية والدنيوية الأخرى الكثير، لذا كان مناظراً شرساً كان إسمه على مسمى، إن ناظر أحد.

لم يكن "أصمع" على قناعة بحياة الناس، فرفض متاع الدنيا من مال وجنس، فلم يتزوج، ورسخ حياته لنشر أفكاره حول كل شيء ليس له إجابه.

لم يجني "أصمع" المال طوال حياته العملية، ولم يكترث لأمر المال أو المتعة، كانت مشكلته أكبر من أن يشغله عنها أي شيء في الدنيا، لكن في مقابل ذلك، هاجمه الناس، ووصفوه بالكافر، والزنديق، بيد أن أمه كانت هي من تعتصر ألماً كلما سمعت من يهاجم إبنها، لكنها كانت على أمل .. لكن ما هذا الأمل ؟

 

عندما إسترقت الأم السمع بين زوجها وولدها، سمعت زوجها يقول لـ  "أصمع" (سنلتقي يوماً)، فكانت على أمل أن يعود إبنها إلى رشده، ويتخذ من أباه قدوة له.

 

لكن .. يبدو أن أمل الأم لن يتحقق، إذ رحل "أصمع" إلى حيث لا يعلم أحد، وطال سفره لشهور، وبعد أن مر عام كامل، عاد إلى أمه يسألها أن تسامحه على فترة غيابه، وإستأذنها أن يدخل غرفته للراحة، على أن يفيق ويخبرها بكل شيء عن رحلته.

وما أن دخل إلى غرفته، حتى ذهب في سبات عميق، لكن سباته قد طال، مما جعل الأم تطلب العون من العائلة وأصدقائها، كما أحضرت له الأطباء.

كانت ليلة عويصة، ظلماء في شتاء يناير، كان دوي الرعد مرعب لكل من كانوا بغرفة "أصمع"، بيد أن الشاب قد فتح عينيه الثاقبتين، لكنه لاينظر إلى أي ممن هم حوله، بل ينظر إلى سقف الغرفة، لا يجيب على الأطباء، ولا أصدقاء عائلته.

وفي لحظة توقف المطر، وصمت الرعد عن الدوي، وإذا بالبرق يملأ السماء، ومع لحظة ظهور البرق، أغلق "أصمع"، عينيه، لكنه هذه المرة، اغلق عينيه إلى الأبد، لقد مات الشاب الملحد.

 

أين كان في فترة غيابه، ماذا حدث معه، ما سبب علته، أسئلة جميعها لا يعلم الرد عليها إلا صاحبها الذي بات من الأموات.

 

إجتمعت العائلة، وأصدقاء العائلة، يتساءلون : كيف سيدفن "أصمع"، قد كان ملحداً غير مؤمن بالدين الذي يدين به الجميع، ولا يجوز أن يدفن إلا بطقوس المرتد أو الكافر.

 

وذهبوا ليخبروا الأم بقرارهم، والتي عندما علمت بأمر طريقة دفن ولدها، قالت لهم، فلتفعل السماء ما تشاء، وبينما يتحضر الجمع لتكفين "أصمع" من دون غسله، إذ برجل غريب على الجمع يدخل فجأة، وإذ به يحظى بــ إنتباه الجميع، فسألوه :

 

الناس : من أنت ؟

الغريب : قد أتيت لأصلي على اصمع.

الناس : أجب .. من أنت ؟

 

الغريب : أنا شخص أهتديت على يديه، كان شاباً صغيراً حقاً، لكنه كان أكثرنا إيماناً.

الناس : كيف وقد كان "أصمع" ملحداً.

 

الغريب : ما كان يوم ملحدا، تلك القاب أطلقتموها وسميتموها، قولوا كان باحثاً عن الحقيقة، وقد وصل إليها، أما أنتم فمتبعون، من دون أن تبحثوا عنها.

الناس : ما كنا نعلم بهذا.

 

الغريب : وها أنتم قد علمتم، فماذا أنتم فاعلون.

الناس : سيدفن طبقاً لشريعتنا.

 

إستأذن الغريب الناس بالدخول على أم "أصمع" ليعزيها في وفاة إبنها، فسمحوا له، وبدأوا في تغسيل "أصمع"، وإتخاذ كافة مراسيم الجنازة الشرعية، وما أن إنتهوا حتى ذهبوا لأم "أصمع"، ليخبروها، والغريب ببدء الصلاة على الميت.

 

لكن .. لم يجد الناس الغريب، فسألوا الأم :

الناس : أين الغريب يا أم أصمع ؟.

الأم : عن أي غريب تتحدثون ؟

 

الناس : الرجل الذي دخل عليك منذ دقائق ليقدم لكِ التعازي.

الأم : لم يدخل أحد غرفتي سواكم.

تعجب الناس مما سمعوا، ولم يعرفوا كيف خرج الغريب ..

فقصوا عليها قصة الرجل الغريب، وهنا قامت المرأة من عزلتها، وإبتسمت قائلة، أخيراً إلتقى إبني بزوجي.

 

لم يفهم الناس ما قصدته الأم، ولم يفهموا قصة الغريب، ولم يستوعب ما حدث مع "أصمع" إلا قليل، فهكذا هم البشر، متاع الدنيا شاغلهم الشاغل.

 

شادي طلعت

اجمالي القراءات 3366