الأسبوع الماضى أديت فريضة الحج فى أواخر الأشهر الحُرُم : دروس وعبر :

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠٥ - ديسمبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

الأسبوع الماضى أديت فريضة الحج فى أواخر الأشهر الحُرُم : دروس وعبر :

1 ـ كنت أركب سيارة الصديق المصرى ومعى زوجتى والأمير وحسام فى الطريق الى جبل عرفات لتأدية منسك الوقوف بعرفة . مرّت السيارة على مبنى فاخر مكتوب عليه ( جامعة أم القرى ) . تذكرت مصادفة غريبة تجمع هذه اللحظة بعام 1983 .

بعد صراع داخل جامعة الأزهر ( 1977 : 1980 ) إنتصرت على التصوف ، وكنت سُنيا معتدلا ، لا أرى بأسا من الإعتماد على الأحاديث التى لا تتعارض مع القرآن الكريم . فى صراعى مع صوفية الأزهر وزعيمهم شيخ الأزهر عبد الحليم محمود لم يقف الى جانبى السنيون فى جامعة الأزهر ، بعد الإنتصار إلتفوا حولى ، وإعتبرونى الزعيم القادم للتيار السنى . نشرت على نفقتى أول كتاب ، وهو ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) عام 1982 ، وقد لقى إستحسانا فى السعودية ، وقد إشترى شيخ سعودى منه ألف نسخة وزعها على من يهمه الأمر. كانت الإعارة للجامعات السعودية حُلم الأساتذة فى جامعة الأزهر ، وبسبب التنافس وضعت الجامعة قواعد للإعارة بالترتيب . جاء دورى عام 1983 ، وطلبتنى بالاسم جامعة ( أم القرى ) ، وفرحت فهى فرصة للحج . قبل إجراء المقابلة مع اللجنة السعودية القادمة من جامعة أم القرى جاءنى خطاب رسمى عليه ختم الشيخ عبد العزيز بن باز ، يثنى على كتابى ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) ويطلب منى حذف فقرات منه  . كتبت أن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هم من يموت مؤمنا تقيا عمل الصالحات من جميع الناس حتى الذين هادوا والنصارى ، وإستشهدت بقوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٦٢﴾ البقرة) وقوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٦٩﴾ المائدة ). الشيخ ابن باز لم يعجبه هذا وطلب حذف هذه الفقرات . كتبت له رسالة غاضبة قلت فيها : ( أنا لا أعمل عندك ) . بعدها ساورتنى الظنون فى شأن الإعارة .  سألت ابن عمى الشقيق (د عبد الحميد أحمد محمد على ) الاستاذ بنفس الكلية فنصحنى ألا أذهب حتى لا أقع فى مشاكل معهم . قال لى أستاذ آخر : إن الاستاذ الجامعى الذى يذهب الى الإعارة فى السعودية عليه أن يترك كرامته فى مطار القاهرة .! . قررت رفض الإعارة وتأجيل حُلم الى الحج الى أجل غير مسمى . ذهبت بزوجتى وأولادى الصغار الى مدينة الابراهيمية محافظة الشرقية حيث يعيش صهرى الحاج محمد الباز . كان معنا أصغر الأولاد (  حسام ) المولود فى نفس العام 1983 فى نفس تاريخ ميلادى ( أول مارس ) . وصلتنا برقية على عنوان صهرى فى مدينة الابراهيمية من لجنة جامعة أم القرى تستعجلنى لمقابلتهم قبل سفرهم ، ولا أعرف كيف عرفوا العنوان . عاتبنى صهرى لأن الإعارة فرصة فقلت له : إنهم يريدون أجيرا يقول لهم ما يريدون ، وقلت له هناك خلافات بيننا فى موضوع الأحاديث ولا يمكن أن نتفق ، ولو ذهبت سأقع فى مشاكل معهم وأضطر للعودة..  بعدها ب 36 عاما أحج البيت الحرام ، والذى يتكفل بالنفقات هو ( حسام ) الذى كان رضيعا عندما رفضت أن أضع دينى فى مزاد البيع والشراء .  

2 ـ  بدأت العلاقة تتأزّم بالسعودية . كانت تسيطر على الجمعيات السلفية الشهيرة فى مصر ، وكنت أتولى السكرتير العام لجماعة دعوة الحق الاسلامية والخطيب الأول فى مساجدها ، ووصلت الى إنكار البخارى والشفاعة والعصمة المطلقة للنبى وعدم القول بتفضيله على الأنبياء السابقين . أعلنت السعودة الحرب علىّ من خلال ( رابطة العالم الاسلامى ) والسفارة السعودية بالقاهرة ، وتحالفت مع كهنوت الأزهر ، وانتهى الأمر بوقفى عن العمل وحرمانى من مستحقاتى فى الترقية ومنعى من السفر عام 1985 ، وبعد محاكمة استمرت عامين جاء قرار العزل من الجامعة، ثم بعده بستة اشهر كان القبض علىّ وعلى أول فوج من ( القرآنيين ). وبدأ طريق الآلام من عام 1985 ، وذلك بفضل النفوذ السعودى فى دولة حسنى مبارك .

إستخدمت السفارة السعودية ضدى حرب التجويع وحرب الارهاب . كانت تسيطر على ضباط أمن الدولة الذين يمسكون بملف ( أهل القرآن ) . أتذكر أن ضابطا صغيرا منهم كان يحلو له أن يستدعينى ليلا لإرهابى ، واظل أنتظره الى أن يأتى بسيارة مرسيدس فى منتصف الليل .! حين تركت الجامعة كان المعاش 87 جنيها لا يكفى اسبوعا ، ولا يكفى لإفطار طيلة الشهر ، فكان لا بد أن أعمل لأعيش بأطفالى . كنت أعمل مصحّحا لبعض المطبوعات ، وعرفت السفارة السعودية بالخبر فقامت برشوة صاحب المطبوعة لكى يستغنى عنى . وعرف بعضهم بقضيتى فكان يتحايل على السفارة السعودية ، يعرض علىّ العمل وبعد عمل لعدة ايام يذهب اليهم ويقبض منهم مقابل أن يستغنى عن خدماتى. كان معظم كتاباتى فى الصحف بلا أجر وكنت متطوعا فى عملى فى الجمعيات الأهلية ( المنظمة المصرية لحقوق الانسان ، الجمعية المصرية للتنوير ، جمعية الإخاء الدينى ، الجبهة الشعبية لمواجهة الارهاب ..) . ظللت فى معاناة عاشها معى أولادى الأربعة الكبار من عام 1985 الى أن عملت عام 1996 فى مركز ابن خلدون واصبح لى مرتب ثابت . خلال أحد عشر عاما عرف أولادى الحرمان الذى لا يليق بأولاد استاذ جامعى وكاتب مرموق . ومع الحرمان أدركوا ما كنت أعايشه من إرهاب أمن الدولة وتوقع الإعتقال فى أى وقت . إنتهى الضنك الإقتصادى بالعمل فى مركز ابن خلدون ، واصبح أولادى يصحبوننى فى جلسات الرواق ( الندوة الاسبوعية ) والتى إستمرت بلا إنقطاع من الثلاثاء الأول من يناير عام 1996 حتى غلق مركز ابن خلدون فى يونية عام 2000. الذى زاد فى هذه الفترة هو الارهاب من أمن الدولة ، والذى كان بتشجيع السفارة السعودية ، إذ بدأت الصحف تنشر لى على نطاق واسع فى إنتقاد الأحاديث ، وتوالت كتبى المنشورة والتى أعلنت إنكار السنة والإكتفاء بالقرآن وحده . وفى النهاية نجح النفوذ السعودى عام 2001 فى جعل الأمن يقبض على مجموعة من القرآنيين توطئة لإعتقالى فأسرعت بالهرب لأمريكا تاركا أولادى وأمهم . ثم لحق بى أولادى وزوجتى تباعا .

3 ـ الدرس المستفاد من هذه القصة هو أهمية الابتلاء بالحرمان . أولادى الأربعة الكبار عايشوا حرمانا فأفادهم الحرمان رجولة وشهامة وقوة على مواجهة المصاعب وتفوقا فى الدراسة وفى العمل بحيث صاروا الآن فى عينى غاية المُنى . على العكس من الأربعة رزقنى الله جل وعلا بولدين لم يشهدا ذلك الحرمان ، بل تفتح وعيهما بعد الخلاص من الضنك الإقتصادى ، وعاشا فى رعاية أخوتهم الكبار وحنان والديهما ، فتعودا على الأخذ دون العطاء وعلى الاعتماد على الوالدين والأخوة ، وبذلنا جهدا فيما بعد فى إصلاحهما ، وقد تحسّنا ولكن لا يمكن ان يصلا الى مستوى أخوتهم الذين عرفوا العناء والحرمان . لا يمكن للطفل والشاب الذى تتحقق له كل رغباته أن ينجح فى حياته . ولمجرد التذكرة فإن حسام رقم 4 هو الذى حقّق أمنية أبيه فى الحج أواخر العمر .

ولمجرد العلم فلقد رزقنى رب العزة جل وعلا بأبناء ليسوا من صُلبى ، لم أرهم بعدُ ، ولكنهم فى سويداء القلب، يجاهدون معى بكل ما يستطيعون، أولهم ابنى الحبيب الاستاذ أحمد فتحى المترجم الذى تفرّغ متطوعا من عدة سنوات يترجم كتبى ومقالاتى وحلقات اليوتوب ، لا أستطيع أن أكافئه ، ولا أملك إلا أن أدعو الله جل وعلا مخلصا أن يجزيه عنى خير الجزاء .!

4 ـ هناك درس آخر . يظن أحدهم أنه بمجرد أن يهتدى للحق ـ الذى ينكره معظم الناس ـ فإن الملائكة تقيم له حفل تكريم وأن التصفيق سيلاحقه فى خطواته وأن أنواع النعم ستهبط عليه من الرحمن . هذا خطأ فادح . الله جل وعلا أكّد أن معرفة الايمان الحقيقى مرتبطة بالفتنة والمحن. قال جل وعلا : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴿٣﴾ العنكبوت  ) وأن معرفة الحق لا بد أن يصحبها الصبر ، ولذا لا بد من التواصى بالصبر. قال جل وعلا : ( وَالْعَصْرِ ﴿١﴾ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿٢﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴿٣﴾ العصر ) ، وأن المؤمن الذى عرف الهداية لا بد أن يتعرّض للتمحيص لأن مهر الجنة ليس رخيصا بل يستلزم الجهاد والصبر. قال جل وعلا : ( وَلِيُمَحِّصَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴿١٤١﴾ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّـهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴿١٤٢﴾ آل عمران ). وفى النهاية فإن الله جل وعلا ليس محتاجا لجهادنا فى سبيله . نحن الذين نحتاج الى هذا الجهاد لنستحق الخلود فى الجنة . قال جل وعلا : ( وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿٦﴾ العنكبوت ). أرجو أن تكون المحن التى صاحبتنى من عام 1977 حتى 2001 مقبولة من الرحمن جل وعلا ، وان يجعل مثواى الجنة .!

5 ـ مع أن النفوذ السعودى فى مصر هو المسئول عن معاناتى فيها ومعاناة الغربة من عائلتى فلم أكتب مهاجما السعودية وأنا فى مصر . كتبت أهاجم حسنى مبارك ، وتكلمت ضده فى مؤتمرات علنية . عشت كما كتبت مرة ـ أحمل مصريتى عارا فوق جبهتى ، إذ كيف يسمح حاكم مصرى لدولة أجنبية ان تضطهد مواطنا مصريا فى بلده والتى من المفروض أن تحميه لا أن تبيعه بتراب الريالات . ظللت عازفا عن الهجوم على السعودية حتى وأنا فى امريكا ، إلى أن فاض الكيل حين نجح النفوذ السعودى فى جعل مبارك يعتقل جماعة من أقاربى عام 2007 ، وتعرضوا للتعذيب . كل جريمتهم أنهم أقاربى . بدأت من وقتها أهاجم السعودية بضراوة وأدعو لتحرير المسجد الحرام من الاحتلال السعودى بل والى إسقاط السعودية . ثم تبيّن لى أن سقوط السعودية يعنى ان تتحول الصحراء العربية والخليح الى حمامات دم وقبور جماعية ، وسيكون معظم الضحايا من الأبرياء، وان هذا سيطول البيت الحرام ،وأن ايران ستكون الكاسب من هذا، ومعها مصانع الأسلحة فى الغرب . تبدّل موقفى واصبحت أكتب فى إصلاح السعودية من الداخل تحقيقا للسلام أو ( الاسلام السلوكى ).

6 ـ الإصلاح يعنى تغيير الثقافة السائدة ليتكون الوعى الجمعى للمواطنين ، وهذا بإصلاح فوقى من قمة السلطة يؤكد القيم الاسلامية العليا من  السلام والحرية فى الدين والتعبير والعدل والإحسان وحقوق وكرامة الانسان . يحتاج هذا الى إصلاح تشريعى وتعليمى وثقافى ، وهو  يستغرق وقتا ويستلزم إستقرارا . النظم الملكية أقرب الى نجاح الإصلاح من الداخل لأن فيها آلية مستقرة لتداول السلطة عبر وجود (ولى للعهد ) عكس النظم الاستبدادية الجمهورية التى يتشبث فيها المستبد الجمهورى بالسلطة ليورثها إبنه أو أخاه ، ويظل طيلة حكمه فى تثبيت حكمه ومطاردة خصومه او من يظنهم خصومه . وفى النهاية يلقى مصير مبارك وبوتفليقه والبشير وبن على وعلى صالح وصدام والقذافى ، وقد تتدمر بلاده مثل سوريا وليبيا .. النظام السعودى اقرب النظم الملكية الى الاصلاح بوجود ولى العهد ، وقد تخفّف من عبء الوهابية والتى لا تعيش إلا إذا حماها الحاكم من شرّ النقاش . ولى العهد شاب فى مملكة معظم سكانها من الشباب ابناء السوشيال ميديا ، أى بينه وبينهم رابطة الحداثة. وفى بدايته إرتكب أخطاء هائلة ، ربما زينها له مستشارو السوء ، ولكن لا ضير أن يخطىء الإنسان فى شبابه طالما يستفيد من خطئه ويصلح عمله .

7 ـ وأذا كانت الوهابية هى المشكلة فإن ( القرآن هو الحل ) . وكتبنا كثيرا فى تفعيل الشريعة القرآنية الاسلامية الحقيقية ، وتطبيق هذا على الحالة السعودية يستلزم كتابات لاحقة ، ولكن يهمنا هنا موضوع الحج . أى أن تفتح المملكة الحج طيلة الأشهر الحرم الأربعة من أول ذى الحجة الى نهاية شهر ربيع الأول ، وأن تجعل الحج متاحا لكل الناس بغضّ النظر عن معتقداتهم ومللهم ونحلهم واديانهم ومذاهبهم . المهم أن يكونوا مسالمين ، أى بالاسلام السلوكى ، وهذا يستلزم إجراءات أمنية تضمن الأمن فى مكة ، وترتيبات ربما تحتاج مقالا منفصلا .

8 ـ ليست هذه نصائح. هى فقط إقتراحات من واقع القرآن العظيم . لها مردود إقتصادى هائل وتحقق سُمعة دولية جيدة للمملكة وتنقذ الآلاف من الناس ، وتطبق احد المعالم الأساس فى عظمة الاسلام ، دين السلام .!

اجمالي القراءات 4019