ثقافة الفقر ( 2 ) الوقف تأمين للمال السُّحت

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٢ - مايو - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

ثقافة الفقر ( 2 ) الوقف تأمين للمال السُّحت

مقدمة

1 ـ يذكر ابن خلدون فى تاريخه أن سلطانا من المغرب فقد سلطانه وجاء منفيا الى مصر ومعه ثروته ، وإستضافه السلطان المملوكى الناصر محمد بن قلاون ، وإستخلص أموال ضيفه شيئا شيئا حتى إستخلصها كلها منه. فى العصور الوسطى لا تهريب للأموال فى الخارج . كان هناك غسيل الأموال بالأوقاف الأهلية .

2 ـ السلطة تجلب الثروة ، وإذا ضاعت السلطة ضاعت الثروة . برز هذا فى العصر المملوكى حيث التناحر على السلطة ، يصل السلطان بالتآمر الى السلطة ، وبالتآمر يفقد سلطانه ، ويرتفع أمير ويدخل آخر السجن أو يفقد حياته. وتتم مصادرة ممتلكات المهزوم ، لذا تحايل السلاطين والأمراء على تأمين أموالهم التى يجمعونها بالسرقة والنهب بوقفها ( ظاهريا لوجه الله جل وعلا ) وفعليا لتحصينها من المصادرة إذا فقدوا السلطان والنفوذ . وتحايل أصحاب النفوذ على مصادرة الأوقاف لمن فقدوا سلطانهم بوائل شتى وبإستخدام (قضاة الشرع الشريف ) .

3 ـ وفى كل الأحوال إحتكر الحكام الثروة السلطة وتداولوها بينهم ، بينما عاش معظم المحكومين يتجرعون الفقر. هنا تتجلى ثقافة الفقر بين أغنى الأغنياء ، ويكون ضحاياها أفقر الفقراء.  ونعطى بعض تفصيل :

أولا : الظلم وكثرة العمائر الدينية فى العصر المملوكى

1 ـ اشتهر العصر المملوكي بكثرة العمائر الدينية من خوانق ورُبط، وزوايا ومساجد وتكايا وأسبله (جمع سبيل) وكان تمويل إقامتها يأتى بأموال الظلم وبالسخرة وآهات المقهورين، ولا تزال تلك العمائر الدينية قائمة حتى الآن دليلاً على ذلك التعانق بين الظلم والدين السّنى .  

2 ـ ويذكر أن زين الدين الاستادار اشتهر بالظلم وكثرة العمائر الدينية . يقول فيه أبو المحاسن أنه (حسَن للسلطان أخذ جميع الرزق ( أى الأوقاف الخيرية ) التي على وجوه البر والصدقة . وبضواحي القاهرة ، وبتأثيره على السلطان عم البلاء غالب المسلمين حتى الجوامع والمساجد والفقهاء والفقراء وغير ذلك . ولما أثرى وكثر ماله من هذه الأنواع أخذ في عمارة الأربطة والجوامع والمساجد ، فعمّر جامعه بالقرب من داره بين الصورين عند باب سعادة ، ثم جامعه الذي بخط بولاق على النيل ، ثم جامعه الذي يخط الحبانية على بركة الفيل ، وفي غير القاهرة عدة أملاك وسبل ومساجد تفوت على الحصر ،كل ذلك وهو مستمر على ما هو عليه وزيادة إلى أن كانت نكبته ) وقال عنه أبو المحاسن أيضا : ( وأما أفعاله في مباشرته فكانت بالضد أيضاً ، وهو أنه كان كثير الظلم والجور والعسف وأخذ الأموال الخبيثة ثم يعمّر من ذلك الجوامع والمساجد والأوقاف على البر .).

3 ـ وقد بنى الأمير أقبغا المدرسة الأقبغاوية وجعل فيها صوفية . يقول فيها المقريزي ( وهى مدرسة مظلمة ليس عليها من بهجة المساجد ولا أنس بيوت العبادة شيء البتة) وذلك لأن أقبغا ـ حسبما يصفه المقريزي ـ ( كان من الظلم والطمع والتعاظم على جانب كبير) . وقد سخر في عمارة مدرسته كل صانع بالقاهرة ومصر : (وأقام بها أعواناً لم يُر أظلم منهم ، كانوا يضربون العمال ، وحمل لها الأصناف من الناس،  فكانت بين غصب وسرقة . ومع ذلك فإنه ما نزلها قط إلا وضرب فيها من الصناع عدة ضرباً مؤلماً , ويعبر ذلك الضرب زيادة على شدة عسف مملوكه الذي أقامه شاهداً بها ... فلما تمت جمع بها القضاة والفقراء ـ يعني الصوفية).

4 ـ وقاسى العمال الفقراء  من السخرة والضرب في بناء تلك المنشئات الدينية  كما نلمح من النص السابق، حتى أن شدة الأمير قان بردى الأشرف في تسخيرهم دفعت المؤرخ المملوكي الارستقراطى أبا المحاسن إلى الاحتجاج الذي نحسه من النص التالي ( ابتدأ الأمير سيف الدين قان بردى الأشرف في عمارة تربة عظيمة عند الريدانية (العباسية ) وشرع في ذلك أيام يسيرة ، ومع هذا ظلم في تلك الأيام الظلم الزائد ، وعسف الصناع وأبادهم بالضرب وباستعمالهم بغير أجرة ، فما عفّ ولا كفّ ، إلى أن أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ).

5 ـ واقترنت سيئات أخرى بالظلم مثل الرشوى فوصف يونس الداودارى بأنه ( كان يحب المال، ويأخذ الرشوة ، وعمّر مدرسة وخانقاه ورباطاً وزاوية وتربة وأحواض سبيل بالديار المصرية والشامية ).  

6 ـ وبعضها إقترن بالشذوذ الجنسى الذى كان منتشراً بفعل الصوفية، وأدمنه بعض أرباب الدولة ، ومنهم السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، حتى يقال في حوادث سنة 735 ( وفيها كثر شغف السلطان (الناصر محمد)  بمملوكه الطنبغا الماردينى شغفاً زائداً فأحب أن ينشئ له جامعاً) .. وهكذا ارتبط الشذوذ الجنسى  بإنشاء جامع الماردينى المشهور، وارتبط بالطبع بالظلم فقد وصف المقريزي أصناف الظلم التي واكبت إنشاء ذلك الجامع

7 ـ كان التصوف هو الدين الأرضى السائد ، وشاع الاعتقاد فى شفاعة الأولياء الصوفية ، فكان هذا مشجعا على إستمرار الظلم ، وكان تعيين الصوفية فى تلك المؤسسات الدينية للدعاء للظالمين . وقد حرص المماليك في وثائق الوقف عليها على إلزام الصوفية المعينين فيها بالدعاء لهم والاستغفار من أجلهم ليمارسوا الظلم وهم آمنون من غضب الله حسبما يعتقدون. وقد ورد في وثيقة وقف الغوري (ويتولى شيخهم الدعاء فيحمد الله سبحانه وتعالى  ثم يصلي كثيراً على نبيه ويهدي ثواب القراءة إلى حضرته الشريفة ثم في صحيفة مولانا السلطان  .. ثم في صحيفة نجله وصحيفة كريمته المرحومة خوند الصغرى)

ثانيا : تحصين المال السُّحت بالوقف والاستيلاء عليه بالاستبدال

1 ـ كانت المصادرات أبرز سمات الانتقام من المهزوم أو الحصول على الأموال من الأغنياء والمباشرين فتحايل المماليك ـ سلاطين وأمراء ـ على تحصين أموالهم من المصادرة بعد وفاتهم بالبناء والوقف عليها بأرض زراعية أو محلات تجارية يذهب ريعها للإنفاق على المؤسسة ، ويجعلون ورثتهم متمتعين بعائد الوقف مشاركين فيه ، ومع ذلك فقد احتال الغالب على سلب أوقاف عدوه المغلوب بتشجيع القضاة المتصوفة بالاستبدال .

2 ـ الاستبدال يعنى تغيير عقد الوقف بأن يتم إستبدال الأراضى الزراعية الغنية بأراض صحراوية أو أراض بور . يكون على الورق كذا فدان مقابل كذا فدان ، وبالاستبدال كان يتمكن أعداء الواقف من مصادرة أملاكه الموقوفة ، فيأخذون القصور العامرة مقابل الخرائب والأراضي الزراعية مقابل الأراضي البور. وكانت تلك الخدعة تتم بقوة السلطان ونفوذه ضد أعدائه القدامى الذين ذهب نفوذهم . وقد اشتهر الأمير جمال الدين الاستادار بطريقة الاستبدال وكان معه شاهدان يشهدان بأن ذلك المكان بور وخرائب ويغتصبه بمعونة ابن العديم قاضي القضاة، وبذلك استولي جمال الدين الاستادار علي أوقاف كثيرة كانت لآخرين.

ثالثا : مصادرة الوقف بطرق أخرى

1 ـ  وبعضهم بالغ في إساءة نفوذه السياسي بإرغام صاحب النفوذ الزائل المقبوض عليه بالتنازل عن أوقافه وأملاكه والأشهاد علي نفسه بذلك. والأمير زين الدين الاستادار مات تحت التعذيب والمصادرة في عصر قايتباى عام 874 . قبلها تعرض إلى نكبات عديدة، وكلما نكبوه صادروا أوقافه وعقاراته، ثم إذا أعادوه أعادوها إليه.  وأنشأ كثيراً من المدارس والجوامع والبيوت . وكان هو الذى حبّب للسلطان قايتباى الاستيلاء على الأوقاف .

2 ـ وأحيانا يتمكن صاحب النفوذ من تأجير أرض الأوقاف بثمن قليل . وفي عهد السلطان برقوق استؤجرت الأوقاف بأقل من أجر مثلها فلجأ بعض مباشري الأوقاف إلي هدم العقارات الموقوفة بدل تعميرها..

3 ـ وكان تعيين القضاء يتم بالرشوة ، وكان هناك ديوان ( البذل والبرطلة ) لبيع الوظائف . وبعضهم كان مباشرا لبعض أراضى الأوقاف فيسعى لتعيينه قاضيا في مقابل منح امتيازات مالية من خلال الوقف الذي يباشره إلي ذوي النفوذ..

3 ـ وأحيان يعقد السلطان إجتماعا بالقضاء والفقهاء ليصدروا له فتوى بالإستيلاء على ريع الوقف بأى حجة من الحجج ، وفعل هذا السلطان ( الورع ) قايتباى حين جمع الفقهاء والقضاء ليوافقوه على أخذ المال من فوائض الوقف ومن أرباح التجار ، فرفض القضاة ، حسبما يذكر ابن الصيرفى فى تاريخه ( إنباء الغمر بأبناء العمر.  ) . وماتت سيدة ثرية هى بنت الخازن عام 875 ، وكان لها أوقاف كثيرة من أبيها ( الخازن ) وتنازع القضاء على الإشراف على أوقافها ليسرقوها ، ووصل النزاع الى السلطان قايتباى فإستولى عليها بنفسه بحجة حماية الوقف من الغاصبين .!!.

رابعا : إفقار الفلاحين

1 ـ كان نهب إيراد الأرض الموقوفة نظاما سائدا ، ليس فقط بتزوير الحسابات بل  أيضا بتسخير الفلاحين الذين كانوا يكدون فى إنتاج الخير للغير ، والويل للفلاح الذى يقصّر فى العمل ، إخترعوا له طرقا فظيعة فى التعذيب .

2 ـ كانت الأوقاف تسيطر على شريحة كبرى من الأطيان الزراعية، وارتبطت إدارة أراضى الأوقاف بالعسف الزائد والخراب، وقلّما كان يتدخل السلطان إلا إذا كان له في تدخله غرض، كأن يكون ناقماً على ناظر الأوقاف. وذلك ما حدث يوم الثلاثاء 26 ربيع الأول 874 حين عقد السلطان مجلساً في القلعة لمحاكمة نقيب الأشراف وأخيه لأن الأشراف شكوهما ( أنهما أخربا البلاد )الموقوفة على الأشراف . يقول ابن الصيرفى : ( وغضب السلطان نصره الله من نقيب الأشراف وحطّ عليه ونقم عليه سوء مباشرته في بلاد الوقف وعدم التساوى بين المستحقين في النفقة. ).

3 ـ وقال ابن الصيرفى عن زين الدين الاستادار : ( أنّه عمّر الجوامع العظيمة .. كان قد أخرب دور أمر المدركين والفلاحين والمباشرين. ) . وهكذا يتردد الاتهام بخراب البلاد ، والمقصود خراب بيوت الفلاحين .!

خامسا : الاوقاف وإفقار الدولة : ( الأثر الإقتصادى السىء للوقف )

 1 ـ وكان لابد أن تؤثر الأوقاف علي الحياة الاقتصادية في العصر المملوكي لأن الأوقاف سيطرت علي أربعين في المائة من الأراضي الزراعية المصرية وكانت غالبية مباني القاهرة والفسطاط وقفا،  مما دعا المقريزي إلي التشكيك في صحة ملكية الأوقاف في عهده بسبب كثرتها.

2 ـ وفي نفس الوقت فإن إيرادات الأوقاف هي التي كانت تنفق علي الحياة الدينية والعلمية لمئات المؤسسات من الجوامع والخوانق والمساجد والرباطات والزوايا.. وكان يتعيش من إيرادات الأوقاف مئات الألوف من الشيوخ والطلبة والموظفين مع ذرية صاحب الوقف. كانوا يعيشون عالة على عرق وبؤس الفلاحين أفقر الفقراء . وأصحاب الوقف من ذرية الواقف عاشوا متعطلين بلا عمل اعتمادا علي الإيراد الثابت المحفوظ لديهم ، كما أن مؤسسات الوقف العلمية والتعليمية ضمت بين جوانحها آلاف الشباب الذين افنوا أعمارهم بين جدران الخوانق والزوايا لا عمل لهم إلا مجرد التبطل والدعاء لصاحب الوقف وممارسة أنواع من العبادة الوهمية يأخذون عليها أجرا وحياة مريحة.. ونقصد بهم الصوفية من المريدين والشيوخ..

3 ـ وإلي جانبهم كان هناك موظفون يقومون بأعمال خدمية وإشرافية وإنتاجية ، ومن عرقهم كان يعيش المتبطلون من أصحاب الوقف والتنابلة داخل مؤسسات الوقف.. ولكن عز علي أولئك العاملين أن يذهب عرقهم إلي جيوب القاعدين والكسالى فأهملوا شروط الواقف وتكاسلوا بدورهم عن الإنتاج واختلسوا ما قدروا عليه ، وساعدهم جو الفساد العام في الإهمال والكسل والسرقة. والدليل علي ذلك أن السلطان الأشر ف برسباي أزعجته تلك الحالة فأعلن عزمه علي الكشف عن شروط الوقف علي المدارس والخوانق وغيرها ومدي الالتزام بتنفيذها ولكنه لم يلبث أن تراجع عن عزمه لأن المشكلة كانت قد تضخمت واستشرت في كل نواحي الاقتصاد والثروة في العصر..

 4 ـ  وباتساع الأوقاف وإهمالها مع إعفائها من الضرائب تأثرت إيرادات الدولة، وتفاعلت عوامل أخري متصلة بعملية الوقف لتزيد من انخفاض دخل الدولة ، فالسلطان وأصحاب النفوذ كانوا يعطون امتيازات خاصة لمناطق الأوقاف الخاصة بهم ، وذلك يؤدي إلي نقص في إيراد الدولة ، بالإضافة إلي أن طبيعة الوقف من شأنها حبس الأموال عن التداول بأي نوع من أنواع التصرف وبالتالي منعها من القيام بدور إيجابي في خدمة اقتصاد البلاد .

5 ـ وبعض الواقفين حجروا علي المباشرين من نظار الوقف في حرية التصرف وأدت الشروط المتعددة في كتب الوقف إلي سوء استثمار الأراضي والعقارات الموقوفة هذا إذا افترضنا حسن النية لدي ناظر الوقف واهتمامه بتنمية إيرادات الوقف وليس محترفا يستغل الوقف لمصالحه الخاصة وذلك النوع من نظار الوقف قد يوجد في الأحلام فحسب..

6 ـ وبمرور الزمن تلاشت كثير من الأوقاف بتقادم السنين أو بانقراض الذرية المستحقين أو فقدان كتاب الوقف ووثائقه أو بإهمال القضاة المشرفين علي الوقف، وفي أغلب الأحوال كان أصحاب النفوذ يضعون أيديهم علي تلك الأوقاف ويملكونها عنوة ويقيمون عليها أوقافا جديدة لأنفسهم. ويظل الفلاحون الفقراء الغلابة مسخرين فى العمل .

أخيرا :

1 ـ كان إغتيال الشيخ الذهبى وزير الأوقاف عام 1977 بسبب لجوئه الى مجلس الشعب يشكو رئيس مصلحة الأوقاف المصرية ، وهو موظف تابع له ، ولكنه كان يعمل بأوامر من السادات وزوجته ، وكان ينهب الأوقاف لصالحهما مستعملا طريقة الاستبدال المملوكية . ودفع الشيخ الذهبى حياته ثمنا لهذا . كانت مؤامرة قام ببطولتها ضابط شرطة سابق ( طارق عبد العليم ) تسلل الى جماعة التكقير والهجرة ، ودفعهم لإختطاف الشيخ الذهبى ، وهو الذى قتله. وإنقطعت أخبار ضابط الشرطى المتآمر ، حكموا عليه بالاعدام مع آخرين ، ومن السهل تزييف إعدامه وتغيير ملامحه .وفى الحشد الاعلامى عن الاختطاف والقتل ومحاكمة المتهمين تناسى الناس السبب الحقيقى فى التخلص من الشيخ الذهبى .

2 ـ وتأتى الأنباء اليوم عن نية الرئيس السيسى للإستيلاء على الأوقاف بمساعدة وزير الأوقاف الحالى . وتشمل أموال الوقف 250 ألف فدان ووحدات عقارية، ومبان ذات قيمة تاريخية، بمختلف أرجاء مصر، وممتلكات قدرها  "تريليون و37 مليار جنيه، كحد أدنى (61 مليار دولار)، بخلاف ما لم يتم تثمينه ماليا لقيمته التراثية والأثرية، أو الممتلكات التي عليها خلاف مع جهات أخرى، وهى تزيد عن نصفمليون فدان.

3 ـ ولا عزاء للجوعى المصريين الذين يأكلون من الزبالة .  

اجمالي القراءات 3938