ديكارت في مواجهة الإخوان

سامح عسكر في الأحد ١٢ - مايو - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

عندما ترى شخصا ما يطلب الحُكم ويكثر من الشعارات الدينية والخطب الحماسية فتحسس جيبك، فهو إما يسرق منك دينك أو يسرق عقلك ، لكن ما النسبة التي ستضع يديها في جيبها ؟ هذا السؤال هو محور كل الثقافات والانتقادات التي توجه للإسلام السياسي وخلط الدين بالدولة عموما، ومن الطبيعي أن من يكثر من تلك الشعارات والخطب يقدم نفسه بصورة نزيهة كي لا يحتقره الناس، فهو أحرصهم على الإقناع وكسب الأنصار ولا يتورع عن كسر كل قيمة وخُلُق من أجل منفعته الخاصة التي ستزول فور كشف الجماهير له وحيله الماكرة للتلبيس على العوام

في محاضرتي ضمن صالون د هبة دربالة منذ أسبوعين قدمت تأسيسا فكريا ومنهجيا لجماعة الإخوان المسلمين ،و ذلك بكشف الخلل المنهجي وبعض صراعات الجماعة الداخلية وأسباب تلك الصراعات، هذا لكي يدرك من يقرأ على بينة هوية التنظيم من الداخل بدلا من التنظير عليه والاكتفاء باحتقاره من الخارج، استدرك بعض الحضور أسلوبي في المناقشة وأنه ما كان ينبغي لي أن أتعرض للنقد الأدبي أو الفلسفي لعدم تضمين ذلك – من وجهة نظرهم – داخل فكر الجماعة، ولكني أرى خلاف ذلك وبشدة

معرفة منهج الجماعة وطرق تفكيرهم تحصنك من الوقوع في شباكهم أو شباك أمثالهم، فالأحزاب الدينية كثيرة ليست فقط الإخوان، لكن حسن البنا يعد هو المؤسس لمعظم تلك الأحزاب فكريا، والنقد الأدبي والفلسفي مهم لإسقاطه على نظراء الإخوان المعاصرين سواء كانوا ممن ينتمون لأحزاب دينية أو قدموا أنفسهم كعلمانيين، فمن وجهة نظري أن كثير ممن ينتمون للخط العلماني الثقافي لا يلزموه ويفكرون بطرق أصولية تشبه الإخوان، والسبب هو الجهل بأنماط التفكير وعدم تحرير المفاهيم تحريرا يمكنهم من إدراك الجزئيات ثم مناقشة التفاصيل، وهي نفس العلة التي كان يعاني منها البنا وبسببها تطرف في خلطه بين الدين والدولة

أشياء رفضتها على الجماعة من قبل لإحداث قدر من الموضوعية، قلت أن الإخوان في زمانهم – أول 30 سنة - كانوا ممثلين للإسلام المستنير شعبيا ونخبويا، وأن كل مخالفيهم وناقديهم لم ينتقدوهم في حياة البنا بل بعد وفاته، وهذ حقيقة تاريخية شئنا أم أبينا منهم من نقدهم من جانب سلطوي ومنهم من جانبين شخصي وفكري، لكن كل الانتقادات الموجهة للجماعة وقتها كانت من جانب سياسي سلطوي، لم يسلطوا الضوء جميعهم على الخلل العلمي الأكبر الذي تعاني منه الجماعة وهو (التقليد والجمود) لدرجة أن يتم تقديم الإخوان في عمل سينمائي صريح هو فيلم "الشيخ حسن" لحسين صدقي الذي يحكي فيه دعوة البنا بوضوح حتى اسمه "الشيخ حسن" هو إسقاط فني على البنا تأثرا باغتياله

القرضاوي الذي نتهمه بالتطرف والإرهاب الآن كان ثورة فقهية معتدلة في الستينات، صنف كتاب "الحلال والحرام" أجاز فيه الموسيقى والتصوير وحلق اللحية وكشف الوجه وحُسن التعامل مع غير المسلمين والمتتبع لخط القرضاوي الفكري فهو استقى معلوماته تلك من المنار والشيخ حسن البنا نفسه، وقد أشرت في المحاضرة لموقف البنا من المسيحيين ليس لأنه كان معتدلا ولكن لأنه كان حليفا للسلطة التي كانت تفرض عليه رؤية الأقليات بمنظور عقلاني متزن، ومن أجل ذلك ثار القرضاوي على سيد قطب بعد ذلك لخلفية القرضاوي البناوية.

هدفي من تقديم هذا الإنصاف بالطبع ليس تلميع الإخوان لكن قراءة للتاريخ صحيحة في سياقها كي لا يظهر أمثال الإخوان حاليا وبنمط تفكير عصري فننخدع بهم وننسى جميعنا أصل الداء وهو جمود الفكر الديني عامة وعدم تصوره للرب والكون والأشياء بطريقة عقلية، فمنهجية الإخوان تطورت أكثر من مرة لدرجة ظهور مفكرين بينهم يدعون إلى العقلانية الدينية، وهو إحياء متكرر لفكر أبو حامد الغزالي الذي يرى ضرورة التوفيق بين الدين والعقل بالكلام ، وسيجد هذا رواجا بين النخبة ثم تتكرر أزمة الإخوان مع المجتمع من جديد، فالمرة الأولى دخلوا فيها من النخبة وسيطروا بقوتها الناعمة مما حدا بواحدا من أهم أدباء عصره كالسيد قطب أن ينضم لهم معلنا إخوانيته وضرورة تطبيق الشريعة

قصة المؤامرة البريطانية كذلك بدفع مبلغ من المال لإنشاء الجماعة سنة 28 تتغاضى عن أمرهام، وهو أن تلك الحقبة كان فيها إنشاء الجمعيات الدينية أمرا طبيعيا ويتم تحت إشراف المستعمر البريطاني، فالجمعية الشرعية وأنصار السنة والشبان المسلمين والشبان اليهود والتبليغ والدعوة والمشاريع الخيرية في لبنان كلها أنشئت معا لإرضاء مجتمع ديني يرى أن التدين وسيلته الأولى لفعل الخير، وأن تصدي الاحتلال لهذه الجمعيات كان يتوجب فيه على المجتمع أن يقاوم ذلك بكل ما أوتي من قوة..حتى لو أدى ذلك إلى الثورة، وهذا يلقي الضوء على قصة نشأة الإخوان من جديد أن بدايتهم لم تكن سياسية بل اجتماعية دعوية، فهي إذن جمعية خيرية لا حزب سياسي كما نزعم الآن خطأ

لماذا هذا الكلام؟

كي لا ننشئ جمعيات خيرية بنفس الطريقة ونفاجأ يوما ما بتحولها لحزب سياسي، وهذا يستوجب من الدولة سن قوانين رادعة لمنع الخلط بين الدين بالدولة، لكن النظام المصري لا يأبه لتلك الأخطار وبات يهرب من كل ما له صلة بالعلمانية، حتى حدا برئيس البرلمان يوما ما بوصف مصر وصفا مزيفا باللاءات الثلاثة الشهيرة لترضية حزب النور وهي ( لا علمانية لا دينية لا عسكرية) في حين يجمع الدستور المصري كل هذه الدول معا في مواده 2، 7 ، 200 إضافة لكل مواد الحريات، فظهور الجمعيات الدينية إذن في هذا الجو قد يخدع الجمهور والدولة كلها تلبيسا ظانين أن ما يحدث شئ طبيعي بل هو مقدمة لإحياء الإخوانية من جديد لكن بثياب عصري يلائم طريقة تفكير المصريين حينها.

قلت أن تصور الجماعة بشكل صحيح هو الضامن للقضاء عليها فكريا وعدم إحيائها، وأن الشرط الرئيسي لذلك هو إعمال العقل الفلسفي والتفكير بحرية دون قيود وخلع كل أثواب القداسة عن التراث الإسلامي كي نتصوره بشكل صحيح، فالجماعة في جوهرها هي تنظيم تراثي يجد في بعض نصوصه مدخلا لتحقيق رغبات سياسية خاصة ، وهذا إذا ما تمت مناقشته في أجواء ثقافية ستمكننا من كشف الفارق بين تصورات هؤلاء والواقع الحداثي، فالكلام إذن عن الفارق بين فكر الجماعة الماضوي والحداثة هو متأخر عن كشف المنهج، وقد كانت هذه إحدى ردودي التي جهزتها في الرد على أحد الحضور لكن لم يسعفني الوقت لعرضها

ولتكن رؤية ديكارت العقلانية مدخلا لنقد الجماعات منهجيا ، فتفريقه بين الإدراك والخيال هو عمدة ثورته على الفلسفة القديمة، عندما رأى عن طريقه مشكلة اللاهوت في الخلط بينهم، بمعنى إن إدراك الإنسان للسماء مثلا كان يوحي له خياله بأشياء يعتقدها حقيقة بعد ذلك، وهذا كان مصدر ضلالات القدماء وأساطيرهم حين تخيلوا السماء جسدا منحنيا كما عند الفراعنة بالإلهة "نوت" ولو أسقطنا ذلك على الإسلام فخيال الفقهاء تصوروا به قصة المعراج والصعود من سماء لأخرى على شكل سلالم رأسية، هنا ديكارت وصل للداء وعرف من أين تأتي الأسطورة، فإدراك الإنسان للنص الديني يجب أن يكون بالعقل ليس بالخيال والفارق بينهم أن العقل له ضوابط في التفكير محكومة بالحس كمصدر معلومات أول بخلاف الخيال الذي عن طريقه نرى أي شئ غير موجود أو نصنع به أكاذيب عادي

العقل الإخواني هو أسطوري بالأساس يحلم بالخلافة والأستاذية والجمهورية الفاضلة، بل حين غزت الوهابية عناصر الجماعة في الستينات أضيف لهم الاعتقاد بالمهدوية برغم أن حسن البنا نفسه لم يكن مهدويا بحكمه على أحاديث المهدي بالضعف، أتصور لو زرعت تلك الطريقة العقلية في اكتشاف الحقائق ضمن مناهج التعليم والحض عليها فوق المنابر ما الذي سيحدث؟

كان رفض ديكارت لمناقشة الدين بالخيال معتمد على تساويه بالحس، يعني كما أن الحس يخطئ أحيانا فالخيال أيضا يخطئ وضرب مثالا على ذلك بتخيل الإنسان للوحوش وعرائس البحر ..فكما أن الإنسان أخطأ في إيجادهم بدون وجود حقيقي أصاب في تركيبهم من أعضاء حسية كالرأس والذيل والجسم وغيره، يعني الحس هنا مصدر الخيال ، وبالتالي مقولة لا وجود حقيقي لما لم يوجد في الحس غير صحيحة بالمطلق أو كلمة حق يراد بها باطل، لأن خيال الإنسان كما إنه قادر على تصور المحسوسات قادر أيضا على تركيبهم ودمجهم في صور غير حسية.

وباختصار فديكارت يرى أن الفارق بين العقل والأسطورة هو الفارق بين الواقع والحُلم، ولأننا في عالم واقعي يجب أن يكون العقل هو أساس التفكير لأن التسليم بالخيال والانطباعات الشخصية يؤدي للخرافة والكذب، وأثبت ذلك بتجربة الحلم أثناء النوم ورؤية الإنسان لأشياء يظنها حقيقة وقتها لكن عندما يصحو من نومه يكتشف أن كل ما رآه مجرد حلم غير حقيقي رغم تفاعله وقتها مع الأحداث ، وبالتالي ما الضامن لك أن كل ما تراه الآن وتتيقنه حقيقي بنفس المنطق؟ فما يقوله أن تسليم الإنسان لخيالاته وإدراكاته الحسية هو أصل الكذب على الله والناس، وبطريقة غير مباشرة طعن ديكارت في إيمان الكنيسة ، فالمطلوب إذن كما شككت في أحلامك أثناء نومك أن تشك في معتقداتك في اليقظة

أعلم أن هذه الطريقة من الفكر لا تناسب الجماعات لكني أرى أن مكافحة هذا الداء العضال يبدأ من تصوره بشكل صحيح أولا ثم الاهتمام بإعلاء قيم العقل كما نادى به ديكارت وكل فلاسفة التنوير ثانيا، وأذكر أنني قلت في المحاضرة أن الحضارات لا تقوم على التخطيط الجيد بل بإعلاء قيم العقل لهدم وتدمير حصون التخلف القديمة قبل كل شئ، فتلك الحصون التي لا تؤمن بالإنسان وحقوقه ولا بالعلم ينبغي أن تزول ، ولن تزول أبدا ما دمنا نرى الجماعات حسب خيالاتنا وأوهامنا بيد أنني كنت أتمنى عقد مراكز الدراسات العلمية حلقات متصلة لشرح وتصور الفكر الإخواني بعيدا عن الضلالات التي تساق في الإعلام بفعل السياسة وتسلط حمقى أغبياء لشرح الإخوان بطريقة ساذجة وعبيطة لا تخرجهم عن كراكترات عادل إمام 

أذكر في حوار قديم لي مع إخواني قولي: أن الإنسان تبعا لمُعلّمه، فنيتشة كان يقرأ لشوبنهاور فخرجت أعماله مزيجا من القوة والتشاؤم والهواجس، أما إينشتاين فكان يقرا لهيوم التجريبي فساعده ذلك على تبني منطقا تجريبيا يهمل الميتافيزيقا، والغزالي كان تلميذا للجويني فجمع بين تصوف الجويني وفقهه وبين فلسفته الثائرة على الأرسطية..فتتلمذه على يد الجويني كان يستوجب منه الثورة على أرسطو بالأساس ، كذلك البنا كان تلميذا لرشيد رضا الذين كان هو الآخر تلميذا لمحمد عبده فجمع البنا بين حسنات وسيئات الاثنين، فلم يقدر على نقد الوهابية صراحة لموقف رضا الإيجابي منها في نفس الوقت حرص على صنع تمايزا بينه وبينها بتقديم نفسه مؤمنا بالحداثة وأدوات العصر والمُلك الحديثة

وهذا كان يتطلب من البنا الإيمان بالمصالح المرسلة قبل كل شئ لينجح في إقناع نفسه وأتباعه بمنهجه الذي يخلط الدين بالدولة في وقت لا يعمل على منافسة الحكومة أصلا بل يعمل من خلالها، وبالتالي تبنى نفس الخط التراثي المؤيد للحاكم والذي تم التنظير له فقهيا في القرن 4 هـ على يد فقهاء الحنابلة وفي القرن 5 هـ على يد فقهاء الأشاعرة بعد الوثيقة القادرية الشهيرة التي أفضت بالقضاء على المعتزلة وملاحقتهم باعتبارهم معارضين للخليفة وليسوا مجرد أصحاب رأي ديني محترم

قلت أيضا أن تهميش دول العقل والحريات سيوفر أجواءا لصنع جماعات دينية بشكل مستديم، فالإنسان قد يُخدع بالأخلاق على الأرجح لكن امتلاكه أسلوبا عقلانيا يكفيه من شرور الحكم على الناس بمعايير الأخلاق المجردة من الفكر في سياق السلطة، بمعنى أن الحاكم الخلوق يكون شريرا لو أصبح مستبدا فلا يلزم الأخلاق عدلا دائما، بل التاريخ يحكي لنا صور مجرمين الحرب عن قرب أنهم كانوا أخلاقيين كهتلر ونابليون، وبعض كتب التاريخ تبالغ في وصف إنسانية ورقة هؤلاء وصولا لدفع تهم الجرائم عنهم وتحميلها للأعداء كردود أفعال طبيعية

ومشكلة الأخلاق هذه لم تغب عن عقل فلاسفة التنوير، قام سبينوزا بحلها ونفض غبار التاريخ عنها بأسلوب منطقي عقلاني، فالأخلاق إذن شأنا عقليا وليست أمرا دينيا، واستيعاب ذلك يكشف تناقضات الفكر الديني بالعموم، قصة مثلا مشهورة وتردد دائما على المنابر أنه إذا قلت كذا وكذا فأنت في الجنة وسيغفر الله لك ذنوبك لو كانت مد بصرك، هذا بكل بساطة جعلوا الجنة مغارة علي بابا تفتح بكلمة سر وشفرة إلهية مخصوصة..!. العقل الأخلاقي الإسبينوزي ينتفض فورا ماذا لو قال تلك الكلمات مسيحي أو يهودي أو شيعي فجميعهم مؤمنين بالله هل سيدخلون الجنة؟ لو قيل نعم فما فائدة عقيدتك الكلية إذن ولماذا لا تتركها، ولو قيل لا فالمبدأ نفسه باطل أن الله لا يعطي جنته بمجرد الكلام 

سبينوزا عالج هذا الخلل بتفريقه بين الميتافيزيقا وبين قوانين الطبيعة فنحن نمارس الأخلاق وفقا لقوانين الطبيعة ومصلحة الكائنات أولا لكي نرضي من هو خارج الطبيعة/ الميتافيزيقا، بينما عند الكهان ورجال الدين الأمر مختلف هم يأمرون الناس أن يقولوا كلمة كذا ليدخلوا الجنة تبعا لانشغالهم بالميتافيزيقا بالأساس ، وبالتالي أهملوا قوانين الطبيعة، فعلى رأيهم يمكن للشخص أن يفعل كل المعاصي والضلالات لكن يقول كلمة كذا يدخل الجنة فورا..!..ونظرا لسخافة هذا المنطق اهتم سبينوزا بشرح تلك الجزئية في باب الانفعالات على اعتبار ما أحدثه الشيخ هنا هو مجرد انفعال ناتج عن إهمال قوانين الطبيعة والعيش في دولة مستقلة داخل تلك القوانين بمعزل تام عنها

أقول آخرا: أن رحلة القضاء على الإرهاب تستوجب نقض أسسه الفكرية المتمثلة في كتب التراث والفقه القديم، ثم الفصل بين الدين والدولة في الدستور بنص صريح لا يقبل التأويل، ثم الحض على العقلانية لكسر أي جمود فكري من أثر الجماعات طيلة العقود الماضية..أما في ظل هذا الوضع بتضمين الدستور موادا دينية سلطوية ستصبح أساسا لتطبيق الشريعة الإسلامية السنية في المستقبل، وذلك في حال رئاسة من يؤمن بقدسية ذلك التطبيق واعتباره من عمل الجنة، فلربما الآن لا نجد ذلك الحاكم المنتظر الذي يفرض الشريعة على أساس الدستور..لكن حتما سيوجد في المستقبل مع دعوات إيمانية للعودة إلى الله واعتبارها الطريق الوحيد لإرضاء الرب الغاضب والذي أفقر المصريين وأتعسهم لتقصيرهم في العبادة..!

اجمالي القراءات 3756