تشريع عقوبة الزنا
تشريع عقوبة الزنا

أسامة قفيشة في الأربعاء ٠٦ - مارس - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

تشريع عقوبة الزنا

في الآونة الأخيرة أثير موضوع الزنا و الفاحشة على موقعنا عن طريق سؤالٍ قد طرحه الدكتور مصطفى إسماعيل حماد , مما دفعني لكتابة هذا المقال . 

عقوبة الزنا هي 100 جلدة , سواء للزاني أو للزانية , هذا في حال الثبوت أو في حال الإقرار أيضاً ,

الزنا جريمة تحدث في الخفاء و في السر بشكلٍ عام , كما نلاحظ بأن الله جل وعلا قد شدد على التثبت من تلك الجريمة من خلال الشهود أكثر من غيرها , حتى أصبح تثبيتها أمراً شبه مستحيل , في حين قد وضع عقوبة لمن يتهم أحداً بتلك الجريمة دون إثبات الشهود , و هذا لعظم الأمر الذي يهدد أركان المجتمع و يعمل على تفككه و انهياره , هذا ليس تشجيعاً للزناة بقدر ما هو ضرورة من ضرورات تماسك المجتمع و تماسك الأسرة التي هي أساس و عماد و ركيزة المجتمع .

في البداية علينا بأن نعي جيداً الفوارق الواقعة بين الحالات , فحين يأتي التعبير بالزنا فهو خاص في حالة الاتصال الجنسي الغير شرعي بين ذكرٍ و أنثى برضا الطرفين , و عليه يكون الإكراه على الزنا حاله خاصة ( الاغتصاب ) ,

كذلك الأمر هناك حالات من الاتصال الجنسي تتم بين ذكرين أو بين أنثيين بالتراضي , و عقوبة تلك الجريمة مختلفة تماماً عن عقوبة الزنا , و فيها أيضاً حاله خاصة ناتجة عن الإكراه أو بالاعتداء ( الاغتصاب ) ,

فحالات الإكراه ( الاغتصاب ) حكمها و التحقق فيها يختلف تماماً عن حالات التراضي .

الله جل وعلا و هو الخبير اللطيف , فقد أمر بالشهود في جريمة الزنا أو في جريمة الاتصال الجنسي المِثلي , و حدد عدد الشهود لتلك الجرائم الجنسية و جعلهم شرطاً نافذاً في إثبات و ثبوت تلك الجرائم , في حين نرى بأن الجرائم الأخرى كالقتل أو السرقة أو غيرها من الجرائم لا تعتمد على الشهود بقدر اعتمادها على الأدلة و الشواهد و التحقيقات , و أمر الشهود نافذ في كل زمان و لكل مكان مهما تطور العلم و مهما تطور الطب , فلا العلم و لا الطب يمكن له أن يكون بديلاً عن الشهود في الاتصال الجنسي الطوعي , أما في حالات الاعتداء و الإكراه ( الاغتصاب ) فالأمر مختلف تماماً .

أولاً : الاتصال الجنسي بين ذكر و أنثى بالتراضي ( اتصالاً غير شرعي ) :

بما أن تثبيت و إثبات الجرائم الجنسية شبه مستحيل بسبب شرط الشهود , فالاعتراف هو سيد الموقف لتنفيذ تلك العقوبة , و بالاعتراف يعاقب الطرف المعترف فقط ( في حالة وقوع جريمة الزنا بين طرفين بالتراضي ) , أي لا يشترط معاقة الطرفين معاً , كما يحق للمعترف عدم الإفصاح عن شريكه في هذا الجرم و لا يطلب منه ذلك أصلاً , فلا يجوز للمعترف بان يفصح عن شريكه إن كان شريكه لا يريد الاعتراف , أما في حالة الإفصاح عن الشريك فحينها يستوجب استدعائه للشهادة , فإما أن يعترف و إما إن ينكر الأمر بقسمه و يمينه خمس مرات , و هنا تقع عقوبة الجلد 100 جلده على المعترف فقط , أما المنكر فقد خسر رحمة الله جل وعلا بلعنه و طرده من تلك الرحمة و تلك المغفرة .

أما في حالة اتهام أحد الزوجين لزوجه بهذا الجرم , وجب أداء اليمين خمس مرات لكل طرف منهما إن كان هناك إنكار من طرف المتهم , و قلنا بأن الاعتراف أفضل و أسلم بكثير من لعنة الله جل وعلا , لأنه بالاعتراف تتحقق رحمة الله جل وعلا و مغفرته , أما بالإنكار فيتحقق الطرد من تلك الرحمة ,فإن اعترف الطرف المتهم وقع عليه الجلد 100 جلده , أما إن قام بالإنكار و حلف الأيمان الخمس فلا يوجد عقوبة لأحد الزوجين , بل يتم فسخ عقدهما و يحدث الطلاق بموجب قوله جل وعلا ( الزَّانِي لا يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) , فلا يمكن أصلاً لكلا الطرفين من التعايش المشترك بعد هذا الاتهام العظيم , و في حال لم يجرؤ من ادعى منهما على اليمين يجلد 80 جلده مقابل اتهامه و ادعائه .

و أما في حالة الاتهام من طرف ثالث ( خارج إطار طرفي الزنا ) فهنا يتوجب على صاحب الاتهام بأن يأتي بأربعة شهداء يضافون لشهادته , أي يصبح هذا الاتهام بخمس شهود غير ناقصين ( شهادة صاحب الإدعاء + شهادة أربعة شهود ) حيث يقول جل وعلا ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) أي يتوجب على هذا الرامي أو المدعي بأن يأتي بأربع شهداء غيره ,

فإن نقص الشهود شاهداً واحداً ينقلب الحكم ضدهم و هم من سيجلدون حينها , فيجلد كل واحدٍ منهم ثمانين جلده ولا تقبل له شهادة بعدها , في حين لا يجلد المتهمون و لا حتى يطلب منهم أداء اليمين بالبراءة ,

أما في حال اكتمال الشهود الخمس فهنا يتوجب على كل شاهد من أداء القسم و اليمين مرةً و قسماً واحداً فقط , فنكون أمام خمس أيمان مكتملة , و حينها على المتهمان بالزنا إما الاعتراف , و إما الإنكار الذي يستوجب اليمين و القسم خمس مرات لتعادل أيمان الشهود الخمس , و حينها لا عقاب يسري على أحد الشهود أو المتهمين , بل لعنة الله تحل على الطرف الكاذب منهم .  

ما هي علاقة أل 100 جلده بعدد الشهود و عدد الأيمان !

هناك رابط مذهل و موزون يربط الأمور الثلاث مع بعضها :

عقوبة الزاني المعترف 100 جلدة , أما الذي لا يعترف فلا يجلد ,

إن كان الاتهام من أحد الزوجين فهنا لا داعي للشهود و يتم استبدالهم بأيمان الأزواج خمس مرات , مقابل كل شاهد يمين واحده ,

و إن كان الاتهام من طرفٍ ثالث فهنا لابد من الشهود الأربعة بالإضافة لشهادة المدعي , فشهود إثبات الزنا 5 شهادات ( أربع شهود + شهادة المدعي ) , كل شهادة بيمين و قسم واحد فقط , يقابلها المتهم بالاعتراف أو بخمس أيمان تعادل شهادات الإدعاء ,

فنحن أمام 100 جلدة يقابلها 5 أيمان أو خمس شهود , كل يمين من الأيمان يعادل 20 جلدة , لذا إن اختل عدد الشهود أو الأيمان يكون نصيب المدعي أو صاحب الاتهام 80 جلدة , أي يخفف عنه 20 جلدة مقابل شهادته و يمينه , سواء كان صادقاً أو كاذباً .

تلك هي عقوبة الزنا لأي اتصال جنسي بالتراضي بين ذكرٍ و أنثى خارج إطار الزواج الشرعي , سواء كان الزاني متزوج أو غير متزوج , أما في جانب الحالة الخاصة و التي يتم الاتصال الجنسي فيها بالإكراه أو الاعتداء ( الاغتصاب ) فهنا يتم التحقيق فيها على أساس معتدي و معتدى عليه , و لا تخضع لشروط الزنا المبني على رضا الطرفين , و لا تحتاج لشهود و لا لأيمان , و يتم تجريم المتهم حال ثبوت الأدلة و تتم معاقبته بالعقوبة التي يقرها المجتمع عقاباً رادعاً و منصفاً .

ثانياً : الاتصال الجنسي بين ذكرين أو بين أنثيين ( بالتراضي ) :

إن كان الاتصال الجنسي بين ذكرين أو بين أنثيين بالتراضي , فعقوبته لا جلد فيها , و الشهود في هذه الحالة هم أربعة أي يقلون بشاهدٍ واحد عن شهود الزنا , مع غياب الأيمان و القسم في هذه الحالة ,

حيث يقول جل وعلا ( وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً*وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) :

سنلاحظ بأن عقوبة هذا النوع من الاتصال الجنسي تختلف كلياً عن عقوبة الزنا , و لا يتم تنفذ العقوبة إلا بشرط الاعتراف ( فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ ) أي إن اعترفوا و أقروا , فلفظ إن شهدوا يرجع على المتهمين مقابل شهادة الشهداء الأربعة , حتى و إن كان هناك شهود و عددهم مكتمل و قام المتهمين بالإنكار فحينها تسقط العقوبة عنهما سواء كان المتهمان ذكران أو كانتا أنثيان .  

1 – إن كانت المتهمة متزوجة و اعترفت و أقرت بجرمها , يجوز لزوجها بحرمانها الخروج من المنزل ( و حرمان الخروج بيد الزوج و هو من يقرر مدة هذا الحرمان حيث يحق له حينها حرمانها طيلة حياتها , كما يجوز له أن يحدد زمن معين لهذا الحرمان ) , هذا في حال بقائها على ذمته , أما إن طلقها فحينها لا سبيل له عليها .  

2 – إن كانت المتهمة غير متزوجة , يجوز لولي أمرها بحرمانها الخروج بنفس المعيار و بنفس التقدير , أي يجوز له من حبسها لفترة زمنية معينة أو لحين أن تتزوج فتخرج لبيت زوجها .

3 – إن كان الزوج هو المتهم , هنا يتوجب على المجتمع من عقابه بالعقوبة التي يراها ( سواء بالحبس أو بالتغريم أو بالعقوبة التي يقرها المجتمع ) , و يحق للزوجة طلب الطلاق و الخلع إن أرادت ذلك .

4 – إن كان المتهم غير متزوج , فهنا عقوبته يحددها المجتمع أيضاً لأن الرجل ولي نفسه , و لأنه ولي نفسه فعقوبته أقسى من عقوبة الأنثى التي سيحددها زوجها أو ولي أمرها ببقائها في منزلها معززه مكرمه . 

طبعاً هذا كما قلنا مرهونٌ باعتراف المتهمين بهذا الفعل فقط ( أي أن تلك العقوبات منوطه بالاعتراف ) , أما إن أنكر المتهمون فلا يقع عليهم عقوبة , و لا يطلب منهم اليمين أو القسم على صدقهم , فإن لم يتوفر الشهود الأربعة فلا قضية لاتهامهم أصلاً .

و تلك هي عقوبة الاتصال الجنسي المِثلي الواقع برضا الطرفين , أما في جانب حالته الخاصة و الناتجة عن الإكراه أو الاعتداء ( الاغتصاب ) فهنا أيضاً يتم التحقيق فيها على أساس معتدي و معتدى عليه , و يتم تجريم المتهم حال ثبوت الأدلة و تتم معاقبته بالعقوبة التي يقرها المجتمع عقاباً رادعاً و منصفاً .

و من المهم جداً التمعن بالآية التي اختتم فيها الله جل وعلا كلامه في سورة النور حيث قال ( أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) فتلك الجرائم أو الآثام هي في أصلها و مجملها تحدث بالسر و الخفاء , و الأولى بأن تبقى كذلك , و يرجع ارتكابها لتقوى النفوس فقط و خشيتها من خالقها المطلع على سرائر و خفايا المخلوقات , و هو وحده العليم و إليه يرجع الأمر و الحكم .

كما من المهم التمعن بالآيات التي اختتم فيها الله جل و علا كلامه في سورة النساء كذلك حيث يقول ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) و لعل مرتكب تلك الذنوب يتوب إلى ربه و يرجع إليه فيدخله في رحمته , فهو جل وعلا يغفر الذنوب جميعاً ,

و أختم هذا المقال بقوله سبحانه و تعالى ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

اجمالي القراءات 4578