( حواء بين سطور التاريخ )
بعض المنشور فى مجلة ( حواء) (2) قصص تاريخية من العصر العباسى

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٥ - فبراير - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

بعض المنشور فى مجلة ( حواء) (2) قصص تاريخية من العصر العباسى

( حواء بين سطور التاريخ )

( العادة أن حركة التاريخ تسير على قدمين، إحداهما للرجل والأخرى للمرأة ، ولكن كتابة التاريخ عمل أنفرد به الرجل لذلك جعل المرأة تتوارى بين سطور التاريخ .. وهذه محاولة للكشف عن " حواء بين سطور التاريخ " .).

قصة : أم سلمة : زوجة أبى العباس السفاح أول خليفة عباسى

أولا :

1 ـ العادة أن من يقيمون الدول لا يجدون الوقت للاستمتاع بالمحظيات والجواري الفاتنات، حتى إذا توطدت الدولة وورث أبناؤهم ملكاً مستقراً اتسع الوقت أمام الأبناء للتمتع واللهو والمجون ، وهذه القاعدة تنطبق أكثر على الدولة العباسية ، فأبو جعفر المنصور الذي شارك أخاه أبا العباس في تأسيس الدولة ثم قام بنفسه على توطيدها ، لم يكن له في مبدأ حياته وقت لكي يستمتع بالجواري ، فلما أحس بالاستقرار تلفت حوله لكي يسرق لحظات من المتعة قبل أن تدركه الشيخوخة فوجد زوجته له بالمرصاد، إذ كان أبو جعفر قد تزوجها في فقره فاشترطت عليه ألاّ يتزوج عليها وألاّ يتخذ عليها سرائر ـ أي جواري محظيات ـ ووفّى لها أبو جعفر ، حتى إذا أدركه الشيب واستقر له الأمر ، ووجد أتباعه من كبار القادة يتمتعون بالجواري الفاتنات من كل صنف وجنس اتخذ قرارا بأن ينقض عهده مع امرأته ، ولكن الزوجة الغيور أحبطت محاولاته.كان المنصور يرسل إلى الفقهاء يستفتيهم ليجدوا له مخرجاً يستطيع به التحلل من عهوده لزوجته العنيدة حتى يتمتع بالجواري الحسناوات ، ولكن الزوجة كانت ترسل بالهدايا إلى نفس الفقهاء ولا تزال بهم حتى يرفضوا منحه الرخصة والتأويل ، ثم ماتت الزوجة العنيدة ، وفي نفس اليوم أهديت للمنصور مائة جارية بكر من أجمل بنات الدنيا فاحتفل معهن بخلاصه من أسر زوجته العجوز الراحلة.

2 ـ واختلف الحال مع ذرية المنصور من الخلفاء العباسيين فكان للواحد منهم آلاف الجواري يستمتع بهن ما شاء ، وعلى سبيل المثال فقد كان للخليفة المتوكل أربعة آلاف جارية حسناء ، وقد استمتع بهن جميعاً في حياته المباركة.!!

3 ـ وقصة أبي العباس السفاح ـ أول خليفة عباسي ـ مع زوجته أم سلمة بنت يعقوب إحدى النوادر..

ثانيا :

1 ـ كانت أم سلمة من بني مخزوم من أشراف قريش ، أبوها يعقوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة ، وقد تزوجت عبد العزيز ابن الخليفة الوليد بن عبد الملك الأموي ، وبعد أن مات عنها ورثت منه أموالاً كثيرة فطمع فيها هشام بن عبد الملك فتزوجها ، وتولى هشام الخلافة ، وكان بخيلاً مقتراً على نفسه ، فاحتملته إلى أن مات وورثت عنه جملة أخرى من الأموال والجواهر. وبقيت عَـزبة تتطلع لأن تتزوج بشاب من قريش ، ويا حبذا لو كان فقيراً وسيماً يتمتع بمالها وهي تتمتع بشبابه وجماله ، وبينما هي تجلس في دارها تتخيل عريسها إذ مر عليها أبو العباس ، وكان شاباً وسيماً ، فتعلقت به وسألت عنه فعرفت أنه من نسل علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي ، فأرسلت إليه إحدى جواريها المسنات تعرض عليه أن يتزوجها ، وقالت لخادمتها العجوز: " قولي له هذه سبعمائة دينار تستعين بها على شئونك " ، والتقت به الخادمة وتحدثت له عن نسب سيدتها وثروتها ورغبتها فيه وعرضها عليه الزواج ، فقال لها أبو العباس : "إنى فقير لا مال عندي" ، فأعطته الخدامة السبعمائة دينار وقالت له : " استعن بهذا على أمرك "، فرضي أبو العباس وكان ذلك المال يعتبر ثروة هبطت على أبي العباس من حيث لا يحتسب ، ولذلك سارع أبو العباس بالذهاب إلى أخ أم سلمة وطلب يدها وقدم له مهرها خمسمائة دينار ، وأهداها مائتي دينار ، فزوجها له .

2 ـ واستعدت أم سلمة لدخوله عليها ليلة الزفاف ، فغطت جسدها كله بالجواهر والذهب وجلست على منصة مرتفعة ، فحاول أن يصل إليها فلم يستطع ، فأمرت جواريها فاجتمعن حواليها فنزلت معهن وغيرت ثيابها ووضعت عنها جواهرها ولبست ثياباً مصبـًّغة ملونة ، وأبدلت المنصة بأثاث قريب من الأرض ، ودعته إليها ، ولكنه كان مبهوراً بما يرى فلم يستطع أن يصل إليها ، فقالت له : لا يضرك هذا ، كذلك الرجال كان يصيبهم ما أصابك ، ثم خلعت عنها بهرجها وزخرفها وأقبلت عليه بما يأنس من الثياب فأنس إليها ودخل بها . وتمكنت من قلبه بعدها ، وحظيت عنده حتى حلف ألا يتزوج عليها وألا يتسرى أي يتخذ عليها جواري محظيات ـ فولدت له محمداً و ريطة. وتمكن نفوذها عليه بعد أن أنجبت منه . ولما أقام الدولة العباسية كان لا يقطع أمراً إلا بمشورتها ، ولم يكن يدنو إلى غيرها من النساء ووفـّى لها بما أقسم ، وكان يقول لجلسائه : أتركوا الحديث في النساء والطعام..

3 ـ وكان خالد بن صفوان من فصحاء العرب ودهاتهم ، وكان أبو العباس السفاح يميل إلى مسامرته ، وقد اختلى به الخليفة يوماً فوجدها خالد فرصة ليزيد من مكانته عند الخليفة السفاح فقال له :" يا أمير المؤمنين ، إني فكرت في أمرك وسعة ملكك وقد ملكت نفسك امرأة واحدة ، واقتصرت عليها فإن مرضت مرضت وإن غابت غبت ، وحرمت نفسك التلذذ باستظراف الجواري ومعرفة أخبار حالاتهن والتمتع بما تشتهي منهن ،  فإن منهن يا أمير المؤمنين الطويلة الغيداء ، وإن منهن البضة البيضاء ، والعتيقة الأدماء ، والدقيقة السمراء ، والبربرية العجزاء ، من مولدات المدينة من تفتنّ بمحادثتها وتلذ بخلوتها ، وأين أمير المؤمنين من بنات الأحرار والنظر إلى ما عندهن وحسن الحديث منهن؟.. ولو رأيت يا أمير المؤمنين الطويلة البيضاء والسمراء اللعساء والصفراء العجزاء ، والمولدات البصريات والكوفيات ، ذات الألسن العذبة والقدود المهفهفة والأوساط المخصرة ، والأصداغ المزرفة ، والعيون المكحلة ، والثدي المحققة ، وحسن زيهن وشكلهن ، لرأيت شيئاً حسناً .." . وأخذ خالد بن صفوان يجيد في الوصف ويستعمل ما أوتي من فصاحة ويكثر من الإطناب بحلاوة لفظه ومنطقه ، فلماء فرغ من كلامه قال له الخليفة السفاح: " ويحك يا خالد ، ما صكّ مسامعي والله قطّ كلام أحسن مما سمعته منك ، فأعد علىّ كلامك فقد وقع منـِّي موقعاً حسناً ".ّ. . فأعاد عليه خالد نفس الكلام وأجاده حتى أخذ بعقل الخليفة ، وتركه رجلاً مختلفاً عما كان ، وظل يفكر فيما سمعه من كلام خالد . فدخلت عليه امرأته أم سلمة فلما رأته مستغرقاً فر تفكيره قالت له: " هل حدث يا أمير المؤمنين أمر تكرهه "؟ قال :  " لم يكن من ذلك شيء ". قالت : "فما قصتك ؟ " فجعل يحاول أن يـُداري عنها فلم يستطع ، وفي النهاية اعترف لها بما سمعه من خالد ، فقالت غاضبة: " فما قلت لابن الفاعلة "؟ فرد عليها الخليفة مستنكراً : "سبحان الله ، ينصحني وتشتميه ".ّ.  فخرجت من عنده غاضبة ، وبعثت من فورها جماعة من الشرطة إلى بيت خالد ، وأمرتهم أن يضربوه حتى لا يتركوا فيه عضواً صحيحاً..

4 ـ ويقول خالد بن صفوان يصف حاله بعد خروجه من عند الخليفة : "وانصرفت إلى منزلي وأنا على السرور بما رأيت من أمير المؤمنين وإعجابه بما ألقيته إليه ، ولم أشك في أن هداياه ستصلني ، فلم ألبث حتى وصلني أولئك الناس وأنا قاعد على باب داري ، فلما رأيتهم قد أقبلوا نحوي أيقنت بالجوائز والأموال والهدايا فوقفت أستقبلهم ، وقلت لهم: " ها أنذا خالد بن صفوان ."، فسبق إليّ أحدهم بهراوة كانت معه فلما أهوى بها إلىّ وثبت فدخلت منزلي ، وأغلقت الباب عليّ واستترت ، ومكثت أياماً على تلك الحال لا أخرج من منزلي ، ووقع في خلدي أن تلك الكارثة جاءتني عن طريق أم سلمة ، وطلبني الخليفة أبو العباس طلباً شديداً ، فلم أشعر ذات يوم إلا بقوم قد هجموا علىَّ ، وقالوا:" أجب أمير المؤمنين " ، فأيقنت بالموت ، فركبت وليس عليّ لحم ولا دم ، فلم أصل إلى الدار حتى استقبلني عدة رسل ، فدخلت عليه فألفيته خالياً ، فسكنت بعض السكون ، فسلّمت ، فأومأ إليَّ بالجلوس ، ونظرت فإذا خلف ظهري باب عليه أستار قد أرخيت وحركة خلفها ، فعلمت أن أم سلمة خلفي تحصي عليّ أنفاسي ، وقال لي الخليفة : " يا خالد لم أرك منذ ثلاث "، قلت: " كنت عليلاً يا أمير المؤمنين " ، قال: " ويحك ، إنك كنت وصفت لي في آخر مرة شأن النساء والجواري ما لم أسمعه من أحد قط ، فأعده علي " . قلت: " نعم يا أمير المؤمنين ، أعلمتك أن العرب اشتقت اسم الضُّـرة من الضرر وأن أحدهم ما تزوج من النساء أكثر من واحدة إلا كان في جهد " ، فقال: " ويحك لم يكن هذا في الحديث "، قلت: " بلى والله يا أمير المؤمنين ، وأخبرتك أن الثلاث من النساء كأثافي القدر يغلي عليهن " ، قال الخليفة: " برئت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت سمعت هذا عنك في حديثك" ،قلت : " وأخبرتك أن الأربعة من النساء شر مجموع لصاحبهن يُشيـَّبْنه ويُهرمنه ويسقمنه ". قال : " ويلك ، والله ما سمعت هذا الكلام منك ولا من غيرك قبل هذا الوقت "، قلت : "بلى والله "، قال : "ويلك أتكذبني "؟ قلت: " وتريد أن تقتلني يا أمير المؤمنين ؟ " قال: "فاستمر في حديثك "، قلت: " وأخبرتك أن أبكار الجواري رجال ولكن لا خصي لهن." ، فسمعت الضحك من وراء الستر فقلت للخليفة : " وقلت لك يا أمير المؤمنين إن بني مخزوم ريحانة قريش ، وإن عندك ريحانة من الرياحين وأنت تطمع بعينك إلى حرائر النساء وغيرهن من الإماء ."، فسمعت من وراء الستر أم سلمة تقول: " صدقت والله يا عماه وبررت ، وبهذا حـدَّثْت أمير المؤمنين ولكنه بدّل وغيّر ونطق عن غير لسانك "، فقال لي الخليفة : " مالك قاتلك الله وأخزاك ". فتركته وخرجت وقد أيقنت بالحياة ، وعدت إلى داري ، فلحقني رسل من أم سلمة ومعهم عشرة آلاف درهم وثياب ودواب وغلام..

5 ـ وبعد هذه التجربة اكتفى الخليفة أبو العباس السفاح بنصيبه من الدنيا وأقنع نفسه بأن يستمر في مسامرة الرجال وأن يقتصر الحديث على جليل الأمور وعظيمها حتى لا يتطرق إلى ذكر النساء واللهو ، وحتى يعزّى نفسه من محنته هذه ويقنع نفسه بما هو عليه كان يقول لأبي بكر الهذلي: " عجبتُ ممّن يمكنه أن يزداد علماً فيختار أن يزداد جهلاً "، فقال له الهذلي: " ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين " ؟ قال: " بأن يترك مجالسة مثلك وأمثال أصحابك ويدخل إلى امرأة أو جارية فلا يزال يسمع سخفاً ويرى نقصاً " ، فقال: له الهذلي ـ ينافقه ـ " لذلك فضـَّلكم الله على العالمين وجعل منكم خاتم المرسلين ". والذي لم يعرفه الخليفة السفاح أن الجواري كن متعة الخلفاء العباسيين بعده ، كن متعة الثقافة والشعر والأدب والغناء .. وأشياء أخرى.. لم يجربها (السفاح )..الذى كان قطة أليفة بين يدى زوجته العجوز..  

 

( حواء بين سطور التاريخ )

( العادة أن حركة التاريخ تسير على قدمين، إحداهما للرجل والأخرى للمرأة ، ولكن كتابة التاريخ عمل أنفرد به الرجل لذلك جعل المرأة تتوارى بين سطور التاريخ .. وهذه محاولة للكشف عن " حواء بين سطور التاريخ " .).

قصة العباسة أخت الرشيد

( هل كانت العباسة اخت الرشيد سبب نكبة البرامكة ؟ ) بتاريخ 28/5/1994م

 العباسة أخت الرشيد هي السبب الحقيقي في نكبة البرامكة..! أو كانت هي مع بعض الأسباب السابقة الفصل الأخير في تاريخ تلك الأسرة التي حكمت الخلافة العباسية ردحاً من الزمن في خلافة الرشيد. الجدير بالذكر أن الطبري المؤرخ المشهور هو الذي ذكر قصة العباسة وعلاقتها بجعفر البرمكي على أساس أنها السبب في نكبة البرامكة.. والطبري هو أقدم المصادر التاريخية وأوثقها وأكثرها احتراماً. وجاءت روايات أخرى تؤكد الموضوع وتزيده تفصيلاً .. ومن مجملها تتعرف على القصة من بدايتها إلى نهايتها.

 جعفر البرمكي:

1 ـ كان جعفر بن يحيي خالد البرمكي هو الوزير المشار إليه في خلافة الرشيد ، وكان معه في المسئولية أخوه الفضل ، وكان أبوهما يحيي بن خالد بمثابة الوالد للرشيد ، وهو الذي وقف مع الخيزران ـ أم الرشيد ـ حتى صارت الخلافة للرشيد .. وأنقذ الرشيد من عسف أخيه الخليفة الهادي. وبتولي الخلافة كان يحيي بن خالد قد أدركته الشيخوخة فترك نفوذه في الدولة لولديه "جعفر و" الفضل" ، وكان جعفر صاحب النفوذ الأكبر بسبب طلاقة وجهه وسماحة أخلاقه وفصاحته ووسامته ، فأحبه الرشيد ونادمه وكان يشرب الخمر معه وترك له الأمر والنهي في الدولة.. وبلغ من حب الرشيد له أنه كان لا يطيق الابتعاد عنه ، وأنه اتخذ ثوباً كان يجلس فيه للمنادمة مع جعفر هو نفسه الثوب الذي يرتديه جعفر ، وكان الرشيد يحتفظ بنفس الحب والإعتزاز لأخته العباسة. وكان أيضا لا يطيق الابتعاد عنها . وكانت العباسة بارعة الجمال فائقة الحسن فصيحة شاعرة أي تشبه جعفراً في صفاته ، ورسوم الخلافة وطقوسها تمنع أن يرى الوزير الأميرة الجميلة أخت الرشيد ، ووجد الرشيد الحل في أن يعقد قران أخته سراً على الوزير جعفر ، بشرط أن يكتفي جعفر منا بالنظر إليها فقط. قال الرشيد لجعفر "يا جعفر إنه لا يتم لي سرور إلا بك وبالعباسة ، وانى سأزوجك منها ليحل لكل منكما أن تجتمعا ، ولكن إياكما أن تجتمعا وأنا دونكما.". فتزوجها جعفر على هذا الشرط ، وما كان يقدر على مخالفة سيده الخليفة..

2 ـ ولكن من عادة الريح أن تأتي بما لا تشتهي السفن. كان جعفر يحاذر أن يسترق النظر إلى العباسة خوفاً من الرشيد ، وهو أعلم بمدى تقلب الرشيد واندفاعه وتطرفه في الحب وفي الانتقام . وهو يعلم أن الرشيد وإن أحل له مجرد النظر إلى العباسة فهو يريده نظرة احترام وإجلال للأميرة ، وليس نظرة رجل إلى امرأة يحبها ويريدها..أمّا العباسة فكانت في موقف مختلف ، فكانت تسترق النظر إلى جعفر وتنظر إليه بعين الزوجة المحرومة العاشقة لزوجها ، وترى في شرط أخيها تعسفاً في استعمال السلطة السياسية لا ينبغي أن يجترئ على تحريم ما أحل الله من المعاشرة بين الزوجين.. 

3 ـ أرادت العباسة أن تمارس حقها الشرعي مع زوجها ، ولكن المشكلة أن زوجها لا يجرؤ على مجرد التفكير في ذلك خوفاً من بطش سيده الرشيد . ثم إن جعفر ليس مضطراً لهذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر ، إذ  كان لديه عشرات الجواري ، وكانت أمه تعد له جارية بكراً ليدخل بها كل ليلة جمعة، وكانت العباسة تعرف ذلك أيضاً وتضيفه إلى حساب الصعوبات التي تمنع الوصال مع الحبيب البعيد القريب ، ولكنها بحنكة حواء وجدت لها مخرجاً بعد أن أعيتها الحيل في لفت نظر جعفر إليها..

4 ـ ذهبت العباسة إلى "عتابة" أم جعفر وفاوضتها في أن تحتال من أجلها وترسلها ـ أي العباسة ـ  إلى جعفر ليلة الجمعة المعتادة على أنها إحدى الجواري ، ورفضت أم جعفر وصممت لأنها تعلم خطورة الموضوع على ابنها وأسرتها بأكملها ، وحين يئست العباسة من إقناعها والتوسل إليها لجأت معها للتهديد .. والعادة أن أصحاب السلطان والقوة يفوزون دائماً في المفاوضات .. وغلبت العباسة .

5 ـ وطبقاً للخطة المرسومة بينهما ظلت أم جعفر منذ يوم السبت تعد ابنها بالجارية الموعودة التي ستقدمها له ليلة الجمعة القادمة ، وتسرف في وصف جمالها وحسنها وظرفها إلى أن جعلت ابنها يتشوق للقائها ، ولا ريب أن العباسة في مجلسها معه ومع أخيها الرشيد كانت ترى تغييراً في جعفر وتأثراً بالمفاجأة الجديدة التي تعدها له أمه ليلة الجمعة.

6 ـ وفي الليلة الموعودة كانت العباسة في مخدع جعفر تنتظره وقد أعدت نفسها كأي عروس انتظرت عريسها على أحر من الجمر. ودخل عليها جعفر فظنها الجارية الموعودة ولم يدر بخلده إطلاقاً أنها الأميرة التي كان يسهر معها ومع أخيها منذ ساعة . لأنه ما كان يجرؤ على استراق النظر إليها في مجلس الرشيد أو في بيته. وبعد اللقاء السعيد قالت له العباسة : "كيف رأيت خديعة بنات الملوك "؟ فقال لها ساخراً : "وأي بنت ملك أنت ؟ " قالت : "أنا سيدتك العباسة "!.. وعندها طارت ذكريات اللذة وهب جعفر واقفاً وهرع إلى أمه صارخاً يقول : يا أماه بعتني رخيصاً.. وكانت العباسة تتوقع رد الفعل .. فما زالت به هي وأم جعفر حتى رضي بالأمر الواقع.  واعتاد أن ينال من زوجته العباسة كلما لاحت له الفرصة في قصر الرشيد .. واستراح إلى لذة المخاطرة وسرقة المتعة..

7 ـ وسرقهما الوقت إلى أن اكتشفت العباسة أنها حامل ، وكانت المعضلة الكبرى ، وكان الحل المؤقت أن تعتزل العباسة إلى أن تضع مولودها ، ـ ثم أرسلت المولود وكان ذكراً ـ إلى مكة ووكلت به غلاماً اسمه "رياش" وحاضنة يقال لها "بـُرَّة" وظن العشيقان الزوجان أن المشكلة قد حلت ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ..

8 ـ كان يحيي البرمكي ـ والد جعفر هو المسئول عن قصر الحريم الخاص بالرشيد ، وهو الذي يغلق أبوابه ويحتفظ بالمفاتيح ، وكانت تلك مهمته بعد أن ترك السياسة والنفوذ لولديه جعفر والفضل . واشتد يحيي البرمكي في التضييق على حريم الرشيد من الحرائر والجواري ، فاكتسب منهن أعداء ، ولم يكن يعلم بما حدث بين جعفر والعباسة ، كما لم يكن يعلم أن الجواري والحرائر في قصر الحريم يعلمن بالموضوع ، ولذلك اشتكت زبيدة زوج الرشيد وابنة عمه من تشدد يحيي البرمكي فقال له الرشيد: " يا أبت ما لزبيدة تشكوك ؟"  وكان يخاطبه دائما بقوله : يا أبت .. فقال : يا أمير المؤمنين : هل أنا متهم في حرمك ؟ فقال :لا قال : إذن لا تقبل قولها فيَّ..وزاد يحيي في غلظته على زبيدة وتشدده عليها ، فكلمت زوجها الرشيد مرة أخرى تشكو منه ، فقال لها الرشيد : " يحيي البرمكي عندي غير متهم في حرمي".! . فقالت له : " فلم لا يحفظ ابنه مما ارتكبه؟" . قال: " وما هو ؟"  فأخبرتها بموضوع العباسة .. فقال : " وهل لذلك دليل ؟". قالت : " وهل بعد مولودها دليل؟ " وأخبرته بموضوع الولد بمكة فقال : " وهل علم بذلك أحد سواك؟ " قالت : " لم يبق بالقصر جارية إلا وعرفت به ".. سكت الرشيد ، وتظاهر بالخروج إلى الحج فخرج ومعه جعفر ، وارتابت العباسة فأرسلت إلى الخادم والمرضعة بالرحيل عن مكة إلى اليمن . وفي مكة علم الرشيد بصحة الموضوع إذ حقق بنفسه ، وأرسل فاعتقل الحاضنة والخادم ورأى الحلي مع المولود من الحلي الذي تتزين به العباسة . وأراد الرشيد قتل الصبي الصغير ، ثم استفظع ذلك.وقتل جعفر وحبس أباه يحيي وأخاه الفضل وسائر البرامكة واستصفى أموالهم وصادرها سنة 187هــ. وماتت العباسة في نفس العام على ما يقال..

 

( حواء بين سطور التاريخ )

( العادة أن حركة التاريخ تسير على قدمين، إحداهما للرجل والأخرى للمرأة ، ولكن كتابة التاريخ عمل أنفرد به الرجل لذلك جعل المرأة تتوارى بين سطور التاريخ .. وهذه محاولة للكشف عن " حواء بين سطور التاريخ " .).

قصة قطر الندى : أشهر عروس مصرية  بتاريخ 12/5/1994م

 

 1 ـ فتحت بغداد عينيها سنة 282هـ على أنباء زفاف يمامة جميلة هى الأميرة المصرية الفاتنة "قطر الندى" إلى صقر عجوز هو الخليفة المعتضد بالله العباسي . كان مقرراً أن تتزوج الأميرة الجميلة الصغيرة من الأمير علي المكتفي ابن الخليفة المعتضد وهو ولي العهد ، ولكن الخليفة العجوز الداهية أراد أن يفسد خطة خصمه العنيد "خمارويه" حاكم مصر والد "قطر الندى" ، فطلب أن يتزوج هو نفسه الأميرة الصغيرة حتى لا يكون لخمارويه تأثير على مستقبل الخلافة العباسية من خلال صلته بولي العهد المكتفي بن المعتضد وأبنائه من الأميرة المصرية. زواج سياسي بكل ما تحويه دهاليز السياسة من مكر وخداع ، وكانت الضحية هي الأميرة الفاتنة الجميلة التي ضحى بها أبوها "خمارويه" على مذبح أطماعه وشهواته، وكان الثمن الذي أرضى به ابنته الساذجة هو جهاز فخم اسطورى دخل موسوعة التاريخ القياسية .. إذ لم يسمع به أحد من قبل . ومن الطريف أن الأميرة المسكينة برزت بين سطور التاريخ أثناء رحلتها من القطائع والفسطاط المصرية إلى أن وصلت إلى بغداد ومعها جهازها الأسطوري ، وبعدها دخلت في أطوار النسيان في قصور الخلافة العباسية فلم يسمع عنها أحد .. إلى أن ماتت مقهورة في عمر العصافير .

2 ـ ولذلك قصة تاريخية تقول سطورها : كان أحمد بن طولون قد استقل بمصر استقلالاً ذاتياً على حساب الخليفة العباسي ، ودارت حروب طويلة بينه وبين العباسيين ، ومات والصراع على أشده في الشام بين مصر والخليفة العباسي. وتولى "خمارويه" الذي يهوى الترف والمجون والتمتع بالثروة الهائلة التي تركها له أبوه أحمد بن طولون ، ولكن التمتع بتلك الثروة يستلزم وقتاً من السلم وراحة البال وذلك ما لا يمكن توفيره بسبب الصراع العسكري مع الخلافة العباسية ، لذلك أراد خمارويه شراء السلام مع الخليفة العباسي المعتضد بالله المشهور بدهائه وقسوته وأحقاده ، فأرسل له خمارويه التحف والهدايا وسأله أن يزوج ابنته قطر الندى من المكتفي ولي عهد الخليفة في إطار معاهدة للسلام ، ورفض الخليفة أن يتزوج ابنه من قطر الندى وقال : إنما أراد أن يتشرف بنا وأنا أزيد في تشريفه وأتزوجها ، وبذلك حرم خمارويه من آماله في التحكم في ولي العهد وفي بناء نفوذه المستقبلي في الدولة العباسية..

3 ـ ولأنه زواج سياسي أو صفقة سياسية فقد دارت مفاوضات شاقة بشأنها تولى إدارتها بين الطرفين ابن الجصاص الجوهري.وفي سنة 280هـ جاء ابن الجصاص الجوهري بالهدايا للخليفة المعتضد ، وعاد إلى خمارويه بقرار من الخليفة بأن تكون ولاية مصر في خمارويه وولده لمدة ثلاثين سنة ، وجعل له في مصر كل السلطات مقابل أن يؤدي جزية للخليفة مائتي ألف دينار سنوياً عما مضى من سنوات الانفصال والثورة على الخلافة ، ثم يؤدي ثلاثمائة ألف دينار عن كل سنة في المستقبل. واستمرت مفاوضات ابن الجصاص ، وسارت في اتجاه جديد هو عقد المصاهرة وتزويج قطر الندى من الخليفة العباسي. وحزنت الأميرة الصغيرة حين عرفت أن الخليفة العجوز رفض تزويجها من ابنه الشاب وأراد تزويجها لنفسه ، وأراد خمارويه أن يسترضي ابنته ، فعزم على أن يكون زفافها وجهازها من أساطير التاريخ.. والخليفة العباسي من ناحيته كان يلح على أن يكون جهاز العروس الصغيرة بالغ الثراء والترف .. مع أن الخليفة لم يدفع صداقاً إلا مبلغاً نقدياً قدره ألف ألف درهم.

جهاز قطر الندى

1 ـ يقول المسعودي فى العراق إن ابن الجصاص حمل مع جهاز قطر الندى إلى العراق جواهر لم يجتمع مثلها عند خليفة قط ..

2 ـ ومن مصر يقول المقريزي إن خمارويه أخذ في تجهيز ابنته، فجهزها جهازاً ضاهى به نعم الخلافة ، فلم يبق طرفة من كل لون وجنس إلا حمله معها ، فكان من جملة الجهاز دكة تتكون من أربع قطع من الذهب عليها قبة من ذهب مشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا يعرف له قيمة ،ومن جملة الجهاز مائة هون من الذهب ، وألف تكة ثمنها عشرة آلاف دينار و"التكة بنطلون حريمي داخلي" . والمقريزي يقول إن ابن الجصاص بعد أن فرغ من إكمال الجهاز ذهب إلى خمارويه يقدم الكسر الذي بقي معه وهو أربعمائة ألف دينار.. فأعطاها له خمارويه ..

3 ـ ويقول ابن الجوزي ـ في العراق ـ أن خمارويه أعطى ابن الجصاص مائة ألف دينار أخرى بعد أن اشترى ذلك الجهاز الخرافي من مصر ، وقال له : لعل بالعراق ما نحتاج إليه ولا يكون موجوداً معك بالجهاز .. فلم يجد ابن الجصاص شيئاً يشتريه ،فأخذ لنفسه الأموال ..

أما ابن كثير فيذكر في تاريخه أن خمارويه أعطى ألف ألف دينار لابن الجصاص ليشتري من تحف العراق ما ليس موجوداً في الجهاز .. واحتفظ ابن الجصاص بالمال لنفسه.

الرحـــــــــلة :

1 ـ وكانت رحلة قطر الندى إلى زوجها أطول رحلة زفاف ، ولا نعني مجرد طول المسافة ، ولكن نقصد أن أباها خمارويه قد جعل تلك المسافة بين مصر وبغداد طريقاً مجهزاً للزفاف ، وذلك ما لم يحدث من قبل ولا من بعد ، حتى اليوم.

2 ـ لقد أمر خمارويه ببناء قصر في كل محطة تنزل فيها العروس ، وذلك على طول الطريق بين الفسطاط فى مصر وبغداد بالعراق .. وخرج معها عمها شيبان بن أحمد بن طولون وجماعة من الأعيان بالإضافة إلى ابن الجصاص الجوهري.

3 ـ ويقول المؤرخون أنهم كانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد ، فإذا وصلت إلى المحطة نزلت فوجدت قصراً فاخراً مجهزاً بكل أنواع المفروشات والستائر وبكل أنواع التسهيلات والمؤن للإقامة والراحة ، وبعد الاستجمام يواصلون السير إلى محطة أخرى حيث يستقبلهم قصر أخر.. ويقول المقريزي "فكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد كأنها في قصر أبيها تتنقل من مجل إلى مجلس حتى قدمت بغداد في أول المحرم282هـ ، وكان عقد الزواج في رمضان سنة 281هـ ..

4 ـ وحين بدأت رحلة العروس إلى العراق كان العريس العتيد يحارب حمدان الثائر في قلعة ماردين ، وبعد أن انتصر عليه ونهب القلعة وهدمها عرف أن العروس الصغيرة  قد دخلت العراق ، ومع أنه فرغ من قلعة ماردين إلا أنه واصل تحركاته نحو الموصل في نفس الوقت التي دخلت فيه قطر الندى بغداد ، وكان أعوان الخليفة في انتظارها،بينما ظل هو غائباً في الموصل كأنما يريد إظهار عدم اهتمامه بها..ثم أنزلوها في " قصر صاعد" وظلت فيه إلى أن تم زفافها إلى المعتضد في الرابع من شهر ربيع الأول .. وكان يوم أحد.

في البلاط العباسي

1 ـ وفي يوم الزفاف نودى في بغداد بألا يعبر أحد نهر دجلة وأن تغلق أبواب الدروب والطرقات التي تفتح على شاطيء دجلة ، ومنعوا الناس من سكان الشاطئ من الظهور . فلما آن وقت العشاء جاءت سفينة من دار المعتضد فيها الخدم ومعهم الشموع ورست السفينة مقابل "دار صاعد" حيث تقيم قطر الندى ، وكانوا قد أعدوا أربع سفن صغيرة تحمل النفط لتضىء الشموع ، وقد شدوها بحبال إلى دار صاعد التي تقع على دجلة . وانتقلت قطر الندى من دار صاعد إلى السفينة ، ثم منها إلى دار المعتضد ، فأقامت فيه يوم الإثنين في جناح خاص بها ، ثم دخل بها يوم الثلاثاء الخامس من ربيع الأول سنة 282هـ.وانتهت قصة زفاف اليمامة البريئة إلى الصقر العجوز الشرس.

2 ـ وأبطال هذه القصة ثلاثة من محترفي السياسة :

2 / 1 : أولهم الخليفة المعتضد الذي اشتهر بسفك الدماء والإقدام على قتل أقرب الناس إليه بسبب ودون سبب ، حتى أنه كان إذا غضب على قائد من قواده أمر بدفنه حياً . ويحكى المسعودي أنه لما مات شكـُّوا في موته وخافوا أن يدخلوا عليه فاقترب منه الطبيب وجس نبضه ففتح المعتضد عينيه ورفس الطبيب برجله فتدحرج الطبيب ومات من الرعب والهلع ومات بعده المعتضد  بعدة دقائق .. وكان ذلك يوم الإثنين 22 ربيع الآخر سنة هــ289. وذلك يعطينا فكرة عن ذلك الصقر الذي تزوجته اليمامة الوديعة قطر الندى. ولا شك أن العروس الصغيرة قد عانت الكثير من ذلك الزواج غير المناسب وسط ألاعيب ومؤامرات سيدات القصر وأخطرهن "شغب" أم الخليفة المقتدر ابن الخليفة المعتضد .ولم تحتمل اليمامة الصغيرة هذه الحياة فماتت في عمر الزهور في 7 رجب سنة 287هـ ، ومات الخليفة بعدها بعامين. وبقي لها في سطور التاريخ صفحات تقال فيها : " أنها من شهيرات النساء عقلاً وجمالاً وأدباً" .

2 / 2 : ولكن تلك الصفحات ما أغنت عنها شيئاً حين أقدم أبوها على التفريط فيها ليسترضي الخليفة الشرس وهو يعلم حقيقته ، وذلك حتى يتفرغ أبوها للمجون . وقد مات أبوها بسبب مجونه. ووصل الخبر إلى قطر الندى في شهر ذي الحجة في نفس العام الذي تزوجت فيه.. فهل كان ذلك انتقاماً من السماء.؟

2 / 3 : ـ ولحق الانتقام بالرجل الثالث سمسار الزواج السياسي الحسين بن عبد الله المشهور بابن الجصاص الجوهري ، وكان قد سرق الكثير من أموال الجهاز نقداً وعيناً ، وحين دخل بمجموعات الجواهر إلى بغداد أقنع الأميرة الصغيرة بأن يحتفظ لديه ببعض الجواهر للزمن .. إلى أن تحتاج إليه ، ووافقت .. وماتت سريعاً واحتفظ ابن الجصاص بالسابق واللاحق من الجواهر والأموال.. وصار أثرى أثرياء عصره إلى أن أمرت السيدة "شغب" أم المقتدر بمصادرة أمواله في خلافة ابنها سنة 302هـ ، ويذكر المسعودي أنهم صادروا له أموالاً نقدية وعينية تبلغ خمس آلاف ألف وخمسمائة ألف دينار .. بينما يذكر ابن الجوزي أن المبلغ المـُصادر يبلغ ستة عشر مليوناً من الدنانير ..

3 ـ وتبقى من سيرة قطر الندى الموال الشعبي المصرى الذي يقول :

الحنة .. الحنة .. يا قطر الندى     يا شباك حبيبي يا عيني جلاب الهوى..  

 

( حواء بين سطور التاريخ )

( العادة أن حركة التاريخ تسير على قدمين، إحداهما للرجل والأخرى للمرأة ، ولكن كتابة التاريخ عمل أنفرد به الرجل لذلك جعل المرأة تتوارى بين سطور التاريخ .. وهذه محاولة للكشف عن " حواء بين سطور التاريخ " .).

قصة الخلفة العباسى ..القاهر المقهور

أولا :

1 ـ من غرائب تاريخنا العربى  أنه ما من حاكم تلقب بالقاهر إلا وكان مقهورا ، فصاحب حمص الأيوبي  وأسمه محمد بن شيركوه تلقب بالملك القاهر فأصابه المرض ومات مسموما يوم وقفة عرفات سنة 581 هجرية . أما أسوأ الحكام  حظا وعقلا ممن حمل هذا اللقب فكان الخليفة العباسي الشاب محمد بن المعتضد ، الذي تولى الخلافة بعد أخيه المقتدر ،وحمل لقب القاهر ، وكانت له قصة عجيبة لو صاغها أديب فى رواية لاتهموه بالمبالغة فى الخيال ، ولكن حقائق التاريخ تكون أحيانا أغرب من الخيال .

2 ـ ومع أنه كان خليفة عباسيا تولى الخلافة سنة 320 هجرية وعمره حوالي 23 عاما وعزلوه عنها بعد أقلّ من عامين ـ إلا إن الغموض  يسود حياته قبل الخلافة وبعدها . ونحن مضطرون إلى تلمس حياته عن طريق المناخ العام الذي عاشه قبل  أن يتولى الخلافة وبعد عزله عنها ، بالإضافة إلى بعض الإشارات الضئيلة التى أشارت إليه فى تلك الفترات ، مع التأكيد على أن نشأته الأولى كانت السبب المباشر فى طريقة حكمه وعزله ومحنته ، وكانت المؤثر العام فى خلافته القصيرة .

3 ـ والمتمعن فى سيرة "القاهر" يؤكد أنه تأثر بأبيه الخليفة المعتضد وأخيه الخليفة المقتدر ، ولكن أكبر تأثير فى حياته جاء من أم المقتدر السيدة التى حكمت الخلافة العباسية حوالي ربع قرن من الزمان طيلة تولى أبنها المقتدر الخلافة ..

لقد كان المعتضد سفاكا للدماء جريئا مقداما حازما شديد الهيبة ، وورث منه القاهر هذه الصفات ، إلا أنه لم يرث عن أبيه عقله وسياسته ودهاءه ، ولذلك تحول إلى مجرد طاغية يسفك الدماء حبا فى الانتقام ورغبة فى التسلية مما عجل بنهايته فى الحكم ، ولولا نوازع الانتقام التى عاشها فى أيامه قبل تولى الخلافة لكان له شأن .

4 ـ والحديث عن نوازع الانتقام لدى الخليفة القاهر العباسى يجرنا إلى نشأته الأولى بين أبيه ( المعتضد ) الذى أسرف على نفسه فى تجديد ملك بنى العباس كما أسرف عليها فى حياته الجنسية ، حتى قالو أن سبب موته يرجع "لإفراطه  فى الجماع ". وهذه النوعية من الآباء لا تجد وقتا لرعاية الأولاد خصوصا إذا كانوا كثيرين ، فقد أنجب المعتضد أربعة من الأولاد  الذكور ، وتولى ثلاثة منهم الخلافة وهم المكتفى والمقتدر والقاهر ، بالإضافة إلى أحد عشرة أنثى . وقد يقال إن القاهر فى طفولته قد وجد فى حنان الأم ما يعوضه عن قلة اهتمام الأب المشغول عنه بمئات الجواري الحسان وشئون الرعية والسياسة ، لكن هذا يصدق على المقتدر الذي عاش فى أحضان أمه ( شغب ) ورعايتها ، ولكنه لا ينطبق على القاهر الذي فقد أمه وعاش محروما  من حنانها ،بل تحت كنف ضرتها عدوتها ( شغب ) أم المقتدر.

ثانيا : المعتضد وشغب وولادة الخليفة القاهر

1 ـ كان المعتضد ذواقة للنساء وكان يتوق إلى التجديد ، وقد رأى جارية (صفراوية ) أو ذهبية اللون نحيفة القد ضئيلة الجسم ، فأحس بأنها مختلفة عن أطنان اللحم الأبيض فى مئات الجواري اللائي يحتفظ بهن فى قصره . وسأل عنها فقيل له أن أسمها "ناعم " وأنها جارية تملكها أم القاسم بنت محمد بن عبد الله بن طاهر ، فاشتراها منها المعتضد وقضى معها ليلة فحملت وولدت له المقتدر. وانشغل عنها المعتضد بباقي الحسناوات ، ولكنها لم تنشغل عنه ، فلم تطق "ناعم " أن يهجرها سيدها ويهملها إلى هذا الحد ، فافتعلت المشاكل وأقامت القصر وأقعدته فى " شغب" مستمر ، فأهانها الخليفة وضربها وأطلق عليها اللقب الذي حملته إلى النهاية وهو لقب "شغب" ، والزمها بان تعكف على ابنها الرضيع ، وخصص لهما بيتا أصبح بالنسبة لها سجنا إجباريا ..

2ـ  وعاشت "شغب" فى ذلك السجن ليالي سوداء تجتر الحقد والغيظ ، والأخبار تأتى إليها بأن المعتضد انشغل بغرام فاتنة جديدة كان اسمها "قبول " فأطلق عليها لقب " فتنة " وأصبح الخليفة لا يفارق " فتنة " وازداد بها التصاقا بعد أن حملت منه . وكانت الجارية " ثمل " هى الساعد الأيمن لأم المقتدر ( شغب ) تمدها بالأخبار وتتحاكيان وتتشاكيان ، وأخبرت " ثمل " صديقتها " شغب" بأن الحسناء " فتنة " قد ولدت غلاما جميلا للمعتضد سماه محمدا وكان ذلك سنة 287 هـ ( وهو الذى أصبح الخليفة القاهر فيما بعد )، وأن أباه المعتضد قد ازداد بهذا الغلام حبا لمعشوقته " فتنة " ، وأصبح واضحا أن " فتنة " سيكون لها بهذا الغلام التحكم والأمر والنهى فى القصر مما سيؤثر على فرص الطفل الصغير الذي ولدته شغب ولم يحظ باهتمام أبيه . وأصاب شغب فى مقتل ذلك الخبر الذي شاع فى القصر بأن الخليفة المعتضد همّ بأن يقتل ابنها المقتدر الصبي لأنه تنصت عليه فى بيته فوجد الصبي الصغير يطعم أترابه من أطفال الخدم من نفس الطعام الذي يأكله وبالتساوي، فخاف أن يكون ذلك نذير سوء ينبئ عن سلوك قادم لذلك الصبي حين يتولى الخلافة فتضيع حرمة الخلافة ووقارها الذي اجتهد المعتضد فى تأسيسه من جديد .

ذلك هو الجو العام الذي أسفر عنه مقتل الفاتنة " فتنة " ورحلت إلى العالم الآخر إثر مكيدة غامضة ، وتركت ابنها الرضيع ( محمد ) الذي تلقب فيما بعد باسم القاهر، فعهد به أبوه إلى " شغب " التى ازدادت حقدا على الخليفة وهى تراه لا يعتبرها إلا مجرد بقرة حلوب لإرضاع أولاده ورعايتهم فقط .  ومن الطبيعي أن يدفع الطفل الرضيع فاتورة الانتقام ، فأم المقتدر لا ترى فيه إلا ملامح أمه الفاتنة وجفاء أبيه وحقدها على المعتضد وفتنة معا ..

3 ـ وزاد من حقد " شغب " على المعتضد انه أنشغل بحب جديد ومحظية أخرى هى " دريرة " ، واستمرت شغب فى الكيد لدريرة ومعها صديقتها ثمل فكانت النهاية مقتل دريرة فى نفس الظروف الغامضة ، ولكن كانت هناك دلائل تشير إلى تورط شغب فى هذه الجريمة فعاقبها المعتضد  وكان على وشك أن يقطع أنفها ويشوه وجهها ، ولكنه رجع عن ذلك ربما لأن الأدلة لم تكن حاسمة ، وربما حرصا على مشاعر أبنه المقتدر ، وربما لأنها ترعى ولدين له وهما المقتدر والقاهر .

4 ـ ومات المعتضد بعد مقتل حبيبته "دريرة "ببضعة أشهر ، أى سنة 289 هـ ، وحين مات كان أكبر أولاده  ( المكتفى ) قد بلغ الخامسة والعشرين من العمر فتولى الخلافة ، وكان (المقتدر ) فى السادسة من عمره ، وكان عمر القاهر عامين فقط ..أى كان هناك أمل لدى شغب فى أن يتولى ابنها (المقتدر ) الخلافة بشرط أن يموت الخليفة (المكتفى ) فى نفس التوقيت الذي يبلغ فيه إبنها (المقتدر) الحلم ، والغريب أن ذلك ما حدث ..إذ أن الخليفة الشاب ( المكتفى بالله ) مات شابا سنة 295 هـ ، بعد أن حكم أقل من ست سنوات ، وحين توفى كان (المقتدر ) قد أحتلم وأصبح صالحا لتولى الخلافة ، وفعلا تولاها فى الثالثة عشرة من عمره .

والواضح أن أصابع شغب خلف  ذلك التدبير المحكم الذي أسفر عن تولية أبنها الخلافة طفلا مراهقا ..

5 ـ ولم يكن لمثل هذا التدبير أن يمر دون احتجاج ، وقد تمثل الاحتجاج فى ثورة صاحبتها حملة دعائية ضد "شغب " وتاريخها القديم فى التآمر و "الشغب" وأفلحت الثورة فى عزل " المقتدر "وبويع مكانه " ابن المعتز"،ولكن فشلت الثورة سريعا، ولقي المتآمرون جزاءهم ، وعاد "المقتدر" للخلافة، وحدثت تلك الوقائع بعد استخلاف (المقتدر)بأربعة أشهر ..

ثالثا : الانتقام يبدأ بالمراقبة!

1 ـ كان القاهر فى ذلك الوقت قد بلغ الثامنة من عمره ، ومن الطبيعي أن طفلا فى مثل سنه كان يستطيع إدراك ما يجرى حوله خصوصا وهو يعيش فى مناخ مفعم بالمؤامرات والدسائس والإشاعات والهمسات ، وإن كانت تلك الثورة على أخيه المقتدر قد فشلت سياسيا وعسكريا فإنها قد نجحت فى أن تكشف للطفل ( القاهر ) عن أشياء كثيرة ضمن الحملة الدعائية التى قدمت صحيفة الحالة الجنائية لأم المقتدر  ومن بينها  اتهامها بمقتل أمه " فتنة ". ونتوقع من طفل قليل الحيلة مثل القاهر وقتها أن يطوى جوانحه على حقد عظيم وينتظر الفرصة للانتقام ، مع حرصه فى نفس الوقت على  تملق أخيه ( الخليفة المقتدر ) وأم أخيه ( شغب ) ، وذلك بالطبع ما حدث ، إذ أكتفي القاهر بمراقبة ما يجرى خلال خلافة أخيه المقتدر ، حيث أمسكت أم المقتدر بمقاليد الأمور وجعلت صديقتها وشريكتها فى التآمر " ثمل " تشارك فى الحكم إلى درجة أنها جعلتها قاضيا للقضاة سنة 206 .ويقول ابن الجوزى فى تاريخ (المنتظم )" قعدت ثمل القهرمانة من أيام المقتدر للمظالم وحضر مجلسها القضاة والفقهاء .."

ومن الطبيعي أن يتأكد القاهر من صحة الاتهامات التى قيلت عن اشتراك شغب وثمل فى مقتل أمه ، ومن الطبيعي أيضا أن ينتظر فرصة الانتقام من أخيه المقتدر وأمه شغب وكل من يمت لهم بأدنى صلة .

2 ـ وجاءته الفرصة حين حدث نزاع بين الخليفة المقتدر ومؤنس الخادم أقوى شخصية عسكرية فى الدولة العباسية ، واشترك القاهر فى تلك المؤامرة التى حدثت بعد أحدى وعشرين سنة من خلافة المقتدر أى سنة 317 هـ ، ونجحت الثورة فى عزل المقتدر وإجباره على كتابة وثيقة بالتنازل عن العرش لأخيه القاهر، وذلك يوم السبت منتصف شهر محرم ، وظل القاهر خليفة حتى اليوم التالي الأحد ثم عزلوه عن الخلافة ، إذ أن الجنود قد غيروا رأيهم وطالبوا بعودة المقتدر فأعيد وجددوا البيعة للمقتدر ، وكان من المنتظر أن يُعاقب القاهر بالقتل حسب العرف السائد فى الدولة ، إلا أن القاهر دخل على أخيه (غير الشقيق ) المقتدر وهو يبكى ويرتجف قائلا " الله الله فى نفسي " وكان قبلها قد جرى يبكى إلى أم المقتدر ، فتوسطت له عند أبنها الخليفة ، فعفا عنه وأحتضنه وقال له " يا أخى  أنت والله لا ذنب لك ، والله لا يجرى عليك منى سوء أبدا فطب نفسا ".

3 ـ وتسلمت أم المقتدر القاهر سليما معافى ، وكانت التقاليد تقضى بحبس القاهر، فأقام القاهر سجينا عند أم المقتدر ترعاه كما كان فى طفولته ، وكانت تجلب له أحسن الطعام وأجمل الجواري .. ولم يعش القاهر طويلا فى هذا السجن اللذيذ  ،إذ أن الصلح بين المقتدر ومؤنس الخادم كان مجرد هدنة مؤقتة يستعد فيها كل طرف لموقعة فاصلة ، وحدثت تلك الموقعة فى شوال 320 هـ وأسفرت عن مقتل المقتدر ، وتولى القاهر الخلافة فى اليوم التالي 28 شوال  لتبدأ المرحلة التالية من حياته ..وأصبح خليفة يحمل لقب " القاهر بالله المنتقم من أعداء الله لدين الله " ! ونقش هذا اللقب على العملة المالية التى أصدرها وكأنه يلخص سياسته فى الانتقام ممن أساء إليه .

رابعا : القاهر فى خلافته

1 ـ والغريب أن القاهر هو الوحيد بين أبناء المعتضد الذي ورث جرأة أبيه فى سفك الدماء ، إذ أننا لا نرى هذا العنف فى الخليفتين المكتفى والمقتدر ابني المعتضد . إلا أن عنف المعتضد كان فى تأكيد سيطرته السياسية أما ابنه القاهر فقد كان يسفك الدماء تنفيسا عن أمراضه النفسية ..  

 2 ـ وكانت أولى ضحاياه من أبناء أخيه المقتدر ونسائه ، ثم ـ ( شغب ) أم المقتدر التى قامت على حضانته صغيرا ، وأنقذته من القتل كبيرا. ولقد أحس أولاد ونساء الخليفة المقتول ( المقتدر ) بنية الغدر من الخليفة الجديد القاهر ، فتمكن بعضهم من الهرب إلا أن القاهر ما لبث أن أوقع بهم وسجنهم وصادر أموالهم وعذبهم عذابا شديدا .

3 ـ ثم كانت نهاية شغب أم المقتدر على يديه . وقد كانت أم المقتدر ضعيفة فى الأيام الأخيرة فى خلافة ابنها ، ثم زاد عليها الضعف والمرض حين علمت بمقتل أبنها وإلقاء جثته ، فاشتد به الحزن والمرض حتى امتنعت عن الطعام والشراب ، وما زالوا بها حتى أكلت كسرة بملح. ولم يشفع مرضها ولم تشفع فجيعتها بابنها لدى القاهر ، بل كان انتقامه منها فظيعا.

لقد اعتقلها القاهر وحقق معها بنفسه بالرفق والتهديد حتى تعترف له بما  عندها من أموال ، فحلفت له أنه لم يعد لديها أموال بعدما صودر منها ، عندئذ أفرغ فيها القاهر شحنة الحقد القديم فضربها بيده وعلقها فى السقف برجل واحدة وأشرف على تعذيبها بنفسه حتى تعترف بما خبأته من أموال ..وظل يراقبها وهى معلقة فى السقف ، وتتبول على نفسها فيغطى بولها وجهها ، وهو يتلذذ بما يرى .!!وبعد العذاب الشديد والبحث والفحص والتدقيق لم يجد عندها الخليفة من المال إلا ما اعترفت به من قبل ، ولكن نفسه لم تسمح بإعفائها من العذاب إلا بعد أن أجبرها على أن تتنازل له عن أملاكها ..

4 ـ وبعد أن شفى القاهر نفسه وانتقم من شغب وأحفادها استدار إلى الذين عاونوه على الوصول للسلطة يريد أن يتخلص منهم ليخلو له الجو ، وحدث الصراع التقليدي على النفوذ ، وبدأ بتجمهر الجند وطلب الأموال وأنتهي  باتفاق مؤنس الخادم وابن مقلة الوزير على خلع القاهر وتولية ابنه المكتـفى مكانه ، ولكن أحتال القاهر إلى أن أعتقلهم وذبحهم ودفن ابن المكتفى حيا .. ولكن هرب من هذه المذبحة الوزير ابن مقلة واختفى ، وأمر القاهر الجند بنهب دور المهزومين وأعطاهم الأرزاق فاستقام له الأمر ، ثم أصدر أوامره بتحريم القيان والخمر واعتقال المغنيين وكسرت ألآت اللهو وبيع الجواري المغنيات على أنهن جوار لا يعرفن الغناء ، وهو مع ذلك لا يفيق من الخمر ولا يكف عن سماع المغاني ، ولكنه كان يطارد أشباح الماضي حين كانت مجالس اللهو والغناء تتردد فى قصر أبيه المعتضد بينما كان هو يبكى وحيد  أمه التى لم يرها ولم يستمتع بدفء أحضانها .

5 ـ ومارس القاهر ساديته ووحشيته كما يحلو له ، فقال الصولى : "أنه كان يخرج  ومعه حربة محماة فلا يرجع بها حتى يقتل بها رجلا " ، ويقول عنه المسعودي : " اتخذ حربة عظيمة يحملها فى يده إذا سعى فى داره ويطرحها بين يديه فى حال جلوسه ويباشر الضرب بتلك الحربة لمن يريد ضربه .." .

6 ـ وجاءت نهايته بتدبير الوزير المختفي ابن مقلة ، إذ أقنع الجنود بأن الخليفة قد أعد لهم مغارات تحت الأرض ليدفنهم ، واستعان ابن مقلة بعملاء له داخل قصر الخلافة يكرهون الخليفة الجديد ويرتعبون من حربته وقسوته . أولئك العملاء أكّدوا للجنود بأن الخليفة يعد العدة للقضاء عليهم ، وأنه أقام لهم تحت الأرض مقابر بأسماء قادتهم ، فعزموا على أن يبدءوا به قبل أن يبدأ بهم ، فهجموا على القصر واعتقلوه وطلبوا منه التنازل عن الخلافة لابن أخيه الراضي ابن المقتدر ، فرفض ، فما كان منهم إلا أن سملوا عينيه بمسمار محمى ، فسالت عيناه على خده ، وعزلوه ، وتولى مكانه الراضي ابن المقتدر.

خامسا : القاهر بعد أن أصبح مقهورا : القاهر بعد عزله :

1 ـ وتبدأ بذلك المرحلة الأخيرة من حياة القاهر ، والتى تبدأ بعزله يوم السبت الثالث من جمادى الأولى سنة 322 هـ بعد خلافة قصيرة استمرت ثمانية عشر شهرا وسبعة أيام . استمرت حياته بعدها تحمل سطورا أخرى من المآسي . فقد ظل القاهر محبوسا مكفوف البصر حتى سنة 333 هـ  ثم أخرجوه إلى دار ابن طاهر ، ثم كانوا تارة يحبسونه وتارة يفرجون عنه ، ومع تلك المحن إلا أنه لم يكف عن محاولة الانتقام من الخليفة الجديد ابن أخيه المقتدر ومن جاء بعده ..

2 ـ ويذكر المسعودي أن الخليفة الراضي استدعى عمّه القاهر بعد عزله ، وحقق معه فى الأموال التى صادرها من القواد العباسيين مؤنس الخادم وغيره ، فأنكر معرفته بتلك الأموال ، فعذبه الراضي بأنواع من العذاب فلم يقر بشيء  ، فغيّر الراضي الطريقة معه ، فقربه وأدناه واستماله وداهنه وشكا إليه حاجته للمال حتى يعطيه للجند لتسكن ثورتهم و أن المال المدفون لن يستطيع القاهر الانتفاع به ، فأظهر القاهر الاقتناع بما سمع وقال للراضي " إن المال مدفون فى البستان الجديد الذي أقمته فى خلافتي " ، وكان القاهر قد انفق الكثير فى إنشاء ذلك البستان وتزيينه واستجلب له الغريب من الأشجار ، وكان الراضي بعد توليه الخلافة مغرما بذلك البستان والقصر الذي يتبعه ، فقال الراضي للقاهر : " فأين دفنت المال فى ذلك البستان ؟ " فقال له : " أنا مكفوف لا أهتدي إلى مكان فاحفر أنت بالبستان تجده" ، فحفر الراضي كل شبر من البستان وأساسات القصر حتى خرب المكان فلم يجد شيئا ، فاستدعى القاهر وسأله فقال : "وهل عندي مال ؟ إنما كانت حسرتى فى جلوسك فى البستان وتنعمك به فأردت أن أفجعك فيه .."!.  فندم الراضي وحبسه ، ثم أطلقوه سنة 333هـ فوقف فى جامع المنصور يتسول من الناس ويقول لهم : " تصدقوا على فأنا من قد عرفتم .!".. وكان ذلك فى خلافة المستكفى حتى يشنع عليهم ، فمنعوه من الخروج إلى أن مات سنة 339 هـ عن ثلاث وخمسين سنة ..!!

أخيرا

1 ـ لقد كانت حياة القاهر العباسي حافلة بالمواجع و الغرائب ، حتى أن السلطان بيبرس حين تولى السلطة بعد اغتيال قطز فكر فى أن يتلقب بالسلطان القاهر فلما عرف بقصة حياة القاهر العباسي رفض هذا القلب واختار لقب آخر وهو الظاهر بيبرس .

2 ـ هل سيستعيد الاخوان السلفيون فى عصرنا ملامح الخلافة العباسية ، ويجددون مسيرةالقاهر والراضى و المقتدر وابن مقلة وشغب وفتنة و مؤنس الخادم ؟!!

ملاحظة :

فى مشروع (تحويل التراث الى دراما ) تم تجميع كل المعلومات عن الخليفة القاهر وعصره وظروف الخلافة العباسية وقتها و تمت كتابة سيناريو درامى عليها ، ومشروع (تحويل التراث الى دراما ) يحوى عشرات الأعمال بنفس الطريقة. وسبق نشر عشرات القصص على موقعنا ، وهى كلها من قصص هذا المشروع . نقول هذا حفظا لحقنا .

 

( حواء بين سطور التاريخ )

( العادة أن حركة التاريخ تسير على قدمين، إحداهما للرجل والأخرى للمرأة ، ولكن كتابة التاريخ عمل أنفرد به الرجل لذلك جعل المرأة تتوارى بين سطور التاريخ .. وهذه محاولة للكشف عن " حواء بين سطور التاريخ " .).

( وضاع شادى ) بتاريخ السبت 9/4/1994م

أولا :

1 ـ منذ الفتنة الكبرى وقتل عثمان وقد عرف المسلمون الحروب الأهلية والاقتتال  تحت دعاوى مختلفة، وكان أخرها ما حدث في لبنان وعبرت عنه أغنية "شــادي" التي شدت بها فيروز والتي تصور أثر الحروب الأهلية في قتل البراءة واغتيال الطفولة والمعاني الجميلة ، ثم تبعها حروب العراق التى تكرر ما حدث فى خلافة على بن أبى طالب والأمويين.

2 ـ والحقيقة أن أفظع ضحايا الحروب الأهلية هم أولئك الشباب الذين تخدعهم الشعارات فيتحولون من أمل للمستقبل إلى قنابل تنفجر في وجه الحاضر والمستقبل معا.

3 ـ ولعلنا نشهد بعض نماذج لهذا الشباب ونحاول بالهدى القرآنى أن تنجلى هذه المحنة وأن يعود الشباب المخدوع إلى صوابه ويعلم أن الإسلام دين السلام وأن الإيمان قرين الأمن ، وأن أفظع الجرائم بعد الكفر هو استحلال دم الأبرياء إفتراء على الله جل وعلا ورسوله الكريم.

4 ـ والعادة أن المؤرخين لا يهتمون إلا بتسجيل تاريخ الأبطال والقادة في السلم والحرب، وقلما يهتم مؤرخ بحكاية شاب أو امرأة من غمار الناس خصوصا في أوقات المحن والحروب الأهلية.

5ـ والطبري هو أكثر المؤرخين اهتماما بالأحداث العامة ، ولذلك يندر أن نجد فيه ذكراً للأشخاص العاديين ، ولذلك فإن من الأهمية أن نتوقف مع ما ذكرة الطبري عن قصة تلك المرأة أثناء روايته لمأساة حرب القرامطة.

6ـ وقد بدأت حرب القرامطة سنة 286هـ وقت أن كان الطبري حياً يسجل أحداثها من واقع المشاهدة والمعاصرة، وظل الطبري يتابعها بالتسجيل والتأريخ إلى أن سجل مقتل قائدها أبي سعيد الجنابي في البحرين سنة 301هـ وأنهى الطبري تاريخه سنة 302هـ ثم توفى الطبري سنة 310هـ ، بينما استمرت الحرب الأهلية التي أشعلها القرامطة في الجزيرة العربية والشام والعراق حتى سنة 378هـ ، وبعدها تحول القرامطة إلى مجرد سطور دامية في تاريخنا تدعون لأن نعتبر.. إذا كان هناك من يعتبر..

7  ـ ويذكر الطبري في أحداث سنة 290هـ أن قائد القرامطة الحسين بن زكرويه أباد سكان مدن بأكملها في الشام مثل معرة النعمان وبعلبك وسلمية ، وكان يقتل عامة اهلها حتى من الأطفال والنساء والشيوخ و ( صبيان الكتاتيب ) بل والكلاب والحيوانات .

إلا أن ضحاياه لم يكونوا فقط من أبناء تلك المدن ، وإنما كانوا أيضا من الشباب الذين انخدعوا به وبدعوته فاعتقدوا أنها الاسلام فتحولوا على يديه إلى قتله وسفاكي دماء يقتلون أهلهم بزعم أنهم كفار خارجون عن الملة.!!

8ـ وقد ذكر النويري في كتابه "نهاية الأرب"أن زعيم القرامطة أبا سعيد الجنابي كان يجمع الصبيان في معاهد يقيمون فيها ويحفر على وجوههم وشماً ويعلمهم الأساتذة فيها فنون القتال والطاعة المطلقة للدعوة القرمطية، ويتخرج الصبيان في تلك المعاهد وقد تحولوا إلى قتله وسفاكين لا يعرفون الرحمة...

9ـ والطبري روى تلك القصة الواقعية من خلال معايشته للقرامطة عن امرأة دخلت معسكرهم تبحث عن ابنها الذي أغوته الدعاية القرمطية فانضم إليها وترك أمه وأخوته البنات..

10ـ ولعلها القصة الواقعية الوحيدة التي ذكرها الطبري نقلا عن الشارع ،وكانت البطولة فيها لإحدى النسوة من عوام الناس ، ولذلك فإن تلك القصة التاريخية بكل ما فيها من نبض الواقع تجعل القارئ يحس انها تحدث الآن..

ثانيا

1 ـ   يحكي الطبري أن امرأة جاءت إلى طبيب تعالج جرحا في كتفها ، ورآها الطبيب باكية مكروبة فسألها عن حالها ، فحكت له عن حكايتها ، قالت: ( كان لي ابن غاب عني ، وطالت غيبته وتركني مع أخوات له دون رعاية، فضاق بي الحال واحتجت إلى التسول من الناس ، واشتقت لرؤياه ، فخرجت إلى الموصل والرقة أبحث عنه ، فرأيت عسكر القرامطة فأخذت أطوف به، فينما أنا أسير إذ رأيت ابني ، فتعلقت به وعرفني ، وسألني عن أخوته، فشكوت له ما نالنا بعده من الفقر ، فأخذني إلى منزله وأخذ يستخبرني عن أحوالنا ، ثم قال لي : " دعيني من هذا وأخبريني ما دينك؟ " فقلت : " ولماذا تسألني عن ديني وأنت تعرفني وتعرف ديني؟ "  فقال : " كل ما كنا فيه باطل والدين هو ما نحن فيه الآن ". ففزعت من قوله ، فلما رآني كذلك خرج وتركني ، ثم أرسل لي بخبز ولحم وقال : " اطبخيه "، فتركته ولم ألمسه ، ثم عاد فطبخه ، وإذا بطارق يدق الباب فخرج إليه ، ودخل رجل من القرامطة يسأل ابني إذا كنتُ استطيع مساعدة امرأة في الولادة ، فأخذني الرجل معه إلى دار، فرأيت امرأة تعاني طلق الولادة ، فقعدت بين يديها وأخذت أكلمها وأواسيها ، فلا تكلمني على ما فيها من شدة الألم والتعب ، فقال لي الرجل: " ما عليك من كلامها ، أصلحي أمرها ولا تكلميها"  .فأقمت معها حتى ولدت غلاماً ، وأخذت أتلطف  بها ، وقلت لها : " يا هذه لا تحتشمي مني فقد وجب حقك علىّ ، اخبريني بقصتك ومن والد هذا الغلام." فقالت : " أتريدين معرفة أبيه حتى يعطيك هدية ؟"  قلت: " كلا ، ولكن أحب أن اعلم خبرك " ، فقالت: " إني امرأة هاشمية " . ورفعت رأسها فرأيت أحسن الناس وجهاً ، وقالت : " إن هؤلاء القوم أتونا فذبحوا أبي وأمي وأخوتي وأهلي جميعاً ، ثم أخذني رئيسهم فأقمت عنده خمسة أيام ، ثم أخرجني فدفعني إلى أصحابه فقال : طهروها ، فأرادوا قتلي فبكيت ، وكان بين يديه رجل من قواده فقال : هبها لي ، فقال : خذها ، فأخذني ، وكان بحضرته ثلاثة أنفس من أصحابه فقاموا وسلّوا سيوفهم وقالوا : لا نسلمها إليك ، إما أن تدفعها إلينا وإلا قتلناها ، وأرادوا قتلي وتشاجروا ، فدعاهم رئيسهم القرمطي فقال: تكون لكم أربعتكم ، فأخذوني فأقمت معهم أربعتهم ، والله ما أدري ممن هو هذا الولد منهم..!!"

2 ـ وتستمر المرأة في قصتها للطبيب ، فتحكي أنها هنأت كل رجل من الأربعة جاء يسأل عن المولود على أنه هو والد الطفل المولود، وأعطاها كل رجل سبيكة فضة هدية ، ثم اشتكت المرأة إلى تلك المرأة النفساء لتبحث لها عن طريقة تخرج بها من المعسكر وتعود إلى قريتها وبناتها ، فنصحتها أن تطلب معونة القائد فذهبت إليه، وقبّلت يده ورجله واستسمحته في أن يأذن لها بالعودة من حيث أتت لتحضر بناتها . وحيث كانوا يريدون المزيد من النساء لاشباع شهواتهم فقد أذن لها القائد بالعودة ، وأرسل معها جماعة من جنوده ليمضوا بها إلى موضع محدد ، فساروا بها ، وبينما هم يسيرون إذ أدركهم ابن المرأة وقد رفع سيفه وقال لأمه : " يا فاعلة  زعمت أنك تذهبين وتأتين ببناتك ؟!" وحاول أن يضرب أمه بالسيف فدفعه الجند عنها ، ولكن لحق طرف السيف كتف أمه فجرحها ، وعاد الجنود بابن الأم وتركوها .وتحاملت الأم على نفسها إلى أن وصلت المدينة ، وجاءت لذلك الطبيب وحكت له قصتها..

3 ـ وذلك الطبيب بعد أن روى قصتها قال للطبري : " وما أراها تبرأ من الجرح وقد ذهبت ولم تعد ".. أي أنها ماتت من أثر الجرح.. ولكن ظلت تعيش بمأساتها داخل سطور تاريخ الطبري

  4 ـ  وكم من ملايين الأبرياء تسيل دماؤهم ظلما وعدونا تطبيقا لتشريعات الديانات الأرضية للمسلمين و المسيحيين واليهود..

اجمالي القراءات 7605