نظرات في تاريخ وفلسفة الوحدة

سامح عسكر في السبت ٢٢ - ديسمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

كان المسلمون قبل انهيار خلافة تركيا لا يفرقون بين الأمة الإسلامية ودولتهم المحلية، فالدولة جزء من الأمة، أما مفهوم السلطة العليا فهو مرتبط بالأمة لا بالدولة التي تمثل مجرد ولاية، ومن هذا الشعور رضي المسلمون جميعهم بسلطة آل عثمان طوال 500 عام..ونظروا لأي محاولة خروج عن هذه السلطة على أنها (كفر وخروج عن الملة) فالخارج على السلطان يخرج عن الأمة وتسقط عنه صفة الإسلام آليا.

بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وتفكك مستعمراتها لصالح بريطانيا وفرنسا ظهر مصطلح ما يسمى (بالدولة القومية) كبديل للخلافة، رفع أولا بمطالب عربية للاستقلال ثم مطالب كردية، ولأن مفهوم الدولة القومية كان وريثا لمفهوم الخلافة الإسلامية لم يفارقه وظن المسلمون أن الاتحاد العربي هو المقابل للخلافة الساقطة، وفي مصر بدأت هذه التغيرات بنداءات تعيين الملك فؤاد خليفة بوصفه كبيرا للعرب، وخرج بعض شيوخ الأزهر بفتاوى تبيح له الخلافة المحصورة في النسل الهاشمي القرشي.

وبرغم أن الملك فؤاد ألبانيا لكن لم أستوعب كيف أقدم بعض الفقهاء على تزوير نسب الملك ليكون عربيا هاشميا..!!

مات الملك فؤاد وورثه الملك فاروق دون تغير في سياساته الوحدوية بقصد الاستيلاء على الميراث التركي في الأمة، ولكن جاءت الحرب العالمية الثانية لتضعف قوى الاستعمار ليضعف معها آليا قوى الملك الجديد الحالم، ثم اشتعلت الثورات والمعارضات لتتوج أخيرا على شكل (ربيع جمهوري) لم يقف عند حدود مصر، بل امتد لأغلب الدول العربية لتدخل عصر جديد أنهى تماما فكرة الخلافة أو الاتحاد على أساس ديني.

لكن ظلت فكرة الاتحاد القومي نشطة، وبرغم أن جذورها عند الملك فؤاد لكن الرئيس عبدالناصر تبناها وحصرها لنفسه عن طريق جهاز صحفي وإعلامي قوي، وبقوة نجح في تكوين أول نواه لها في "الجمهورية العربية المتحدة" لكن فشلها السريع ضرب الشعار الوحدوي بخنجر مسموم، وكأن انهيار هذه النواه كان إيذانا بانهيار الجمهوريات الثورية وبدء تفككها عمليا لتصبح دول ممالك عسكرية..كما حدث في العراق بعد مقتل عبدالكريم قاسم.

لوحظ في هذه الفترة ضعف واختفاء الدور التركي تماما، ولولا أن الثائرين على الخلافة من العسكر التركي كان ثائرا على مفهوم الأمة الإسلامية الملازم للخلافة لظلت تركيا تناضل وتزحف من أجل استعادة مجدها القديم، لكن شاء القدر أن تتخلص تركيا من ميراثها الإسلامي وتبدأ خطوات جادة لعلمنة الدولة ونقلها للحضارة الغربية بتشريعات وقوانين أهمها استبدال الحرف العربي لكتابة اللغة التركية بالحرف اللاتيني، الذي ضرب الثقافة العربية داخل تركيا في مقتل وساد شعور ورثته الأجيال بانتماء الأتراك لأوروبا ترجمه الأحفاد بعد ذلك بانضمامهم لحلف الناتو ثم مطالبهم بالانضمام للاتحاد الأوروبي.

أما الأقليات فتمت معاملتها بنفس منزلتها القديمة في العهد العثماني، وبرغم تحديث أغلب الدول العربية شكليا لكنها لم تنجح في التخلص من نظرتها الدونية للأقليات، فجرى اضطهاد المسيحيين في مصر على كل المستويات الشعبية والسياسية خصوصا في عصر الرئيس السادات، كما جرى اضطهاد الشيعة في العراق والبحرين والسعودية والنظر إليهم كرافضة كفار وعملاء للاستعمار الغربي، ونزعت أغلب حقوقهم السياسية والاجتماعية، وهي نفس النظرة السائدة في العصر العثماني باعتبارهم عملاء للصفويين.

أدى هذا التناقض والتخبط لضعف الدول العربية، وظهرت مساحة كبيرة لابتزازهم من القوى العظمى، فعقدت الصفقات الخفية بالتغاضي عن هذا السقوط الإنساني والسياسي نظير ولائهم التام والأعمى للقوى الدولية والمتحكمة في قرارات العالم داخل مجلس الأمن، وتم تهديدهم عبر محورين، الأول: تضخيم الوجود الإيراني ليرقى إلى وصفه (بالخطر الفارسي والشيعي) وصار مادة خصبة لمثقفي وأروقة العرب طيلة عقود منذ الحرب الصدامية على إيران في الثمانينات.

المحور الثاني: التقليل من خطر الوجود الإسرائيلي الذي قام على أنقاض شعب وأملاك دولة قديمة في فلسطين، ورفع شعارات صهيونية معادية لكافة القوميات والأديان في الشرق الأوسط، ثم اعتمد هذا المحور على الترويج لعلمانية إسرائيل وعدالتها في الداخل لمحو عنها الصفة الصهيونية العنصرية، لكن وبصعود اليمين القومي أكثر من مرة للحكم يثبت أن علمانية إسرائيل خدعة في الحقيقة تهدف لإصهار القوميات الأخرى داخل الصهيونية، مثلما تقدم نتنياهو بمشروع الدولة اليهودية من قبل وتغريداته المتوالية على تويتر بحق الإسرائيليين الديني في أورشليم بوصفها أرض الميعاد..

أشير إلى قضية أخرى لم ينتبه إليها العرب في دعوتهم للوحدة، وهي سقوط الإتحاد السوفيتي، فبعضهم انتبه إليها ولكن لم يناقش تبعاتها الثقافية على العالم، بيد أنهم ركزوا أكثر على تحليل المشهد سياسيا ، أما العامل الثقافي الأهم تغاضوا عنه لحملة بين ثناياه أهم خطر يتهددهم جميعا، وهو أن الوحدة على أساس قومي أو ثوري مستحيلة في هذا الزمان، واهتم البعض بالتنظير لجانب واحد هو استقلال الدول المسلمة بالترويج لمظلوميتها من الشيوعية، ووضعوا استقلال هذه الدول المسلمة ليخدم هدفهم الرئيسي بالوحدة الإسلامية الأعم والتي تعتبر المحطة التالية للاتحاد العربي المنشود منذ عصر الملك فؤاد.

لم يهتموا أيضا للصراع المذهبي المسيحي في القرن الوسطى، وجردوه تماما عن الحالة الإسلامية، باعتبار أن الوحدة العربية هي للسنة والشيعة معا، ولم يضعوا احتمالا بقوة أحدهم وإرادته لفرض نفوذه على الآخر بنفس دوافع وشعارات الحروب المذهبية المسيحية، والنتيجة فقدانهم للحس السياسي مع صعود الثورة الإيرانية التي جرت بمعزل عن العرب ، لكن بردود أفعالهم السلبية تجاهها صنعوا نفوذا لإيران بينهم لعوامل أهمها بقاء الحالة العثمانية في اضطهاد الأقلية الشيعية، فلجأوا لنفس الأسلوب العثماني في وصف مطالب الشيعة وحقوقهم بأنها مؤامرة صفوية تستوجب التدخل فاستفحلت المشكلة أكثر وأدت لحرب مذهبية طالت عدة دول منها اليمن والعراق وسوريا، وتوسعت آثارها بتفجيرات ضد مساجد الشيعة في باكستان وأفغانستان والكويت والسعودية.

أدى هذا الصراع المذهبي والقومي لصعود تيار علماني وليبرالي قوي مدعوم بنشاط النخبة ودعم السياسيين لاحتواء الموقف، وذلك باعتبار أن الليبرالية حل لهذا الصراع على أسس القانون ومبادئ الدولة المدنية في الحق والمساواه، لكن لبث الصعود العلماني قليل بفضل صعود الإسلاميين في المقابل، فالحروب كما أنها تغذي الأفكار المضادة هي أيضا تغذي الأفكار المؤيدة، بل تجعلها أكثر توحشا بسبب التراكم واستذكار الجرائم مع كل محاولة تقريب وتفاهم بين الشعوب..

واعتمد الإسلاميون في تشويه العلمانية على تاريخ الاستعمار وصورته القبيحة في الداخل، وهو استدعاء قومي يرتبط بشعور قومي كان أساسا في التحرر من الاحتلال الأجنبي، بيد أن الإسلاميين أنفسهم كانوا حلفاء وقتها للاحتلال بوصفهم (حكام متغلبين) كما نص الفقه الإسلامي، ولم يكن فقه الخروج على الحاكم قد نشأ بعد، أي أنهم استعملوا نفس أدوات خصومهم في الماضي متجاهلين تاريخهم في رفضها، والمُدرك لهذه الجزئية يفطن أن رفض الإسلاميين للعلمانية ليس من منطلق ديني بل من منطلق سياسي يضعفهم اجتماعيا وينزع من بين أيديهم سلطات وأحلام بالمُلك منذ الطفولة.

لم يهنأ الإسلاميون كثيرا بهذا التفوق، فقد حدثت فاجعة 11 سبتمبر مما حوّل أنظار العالم للإسلام كدين والمسلمين كمجتمعات مريضة وخطيرة، فأدى هذا التحول لضربة فكرية تمثلت في شيطنة المسلمين ودينهم شعبيا،وهذا لو حُكيَ في الماضي لتعجب الناس، فالصراع بين الشيوعية والليبرالية سياسي واقتصادي وعسكري، ما ذنب الأديان؟..هذه أول مرة في التاريخ الحديث تجري شيطنة دين واعتباره خطرا على الكوكب بشبه إجماع بشري تقريبا.

شجّع هذا التحول العالمي تيار (نقد التراث الإسلامي) الخامل في المجتمع حينها، وشرع في استدعاء أقوال وأفكار رموزه في الماضي، ولأول مرة تمتزج حالة النقد الديني مع التكنولوجيا لتفرز وعيا جديدا ما زال يتشكل وينتشر إلى هذه اللحظة، قوامه هو الخديعة التي شعر بها المسلمون والعرب طيلة قرون، وأن لهذا التراث الذي أنتج كل هذه الجرائم أن ينتهي، أو يعاد النظر في بعض أجزاءه على الأقل، فمن كان يصدق أن فقهاءً سيُفتون بحُرمة ختان الإناث بهذه السرعة، أو أن الخلافة تجربة حكم وليست فرضا للعين، وأن العلمانية ليست خصما للإسلام بل تتفاعل معه لتحقيق العدالة السياسية والمجتمعية.

وطالما ضُرِبَ مفهوم الخلافة ستُضرَب معه كل دعوات الوحدة على أساس ديني وقومي، وهذا تأثير ليبرالي توافق لأول مرة مع رغبات الشعوب، مما يثبت نظرية من يدعي أن إمكانية التنوير مرهونة بمجتمع واعي يفهمه، لا أن يُفرَض عليه من الخارج أو من السلطة العلوية، وتبخس في المقابل حق من نادوا بالمستبد المستنير الذي يعد في أسوء ظروفه حلا عاجلا لهذا الوضع المذري، مع يقيني أن التنوير يلزمه الاثنين معا، أي مجتمع وسلطة، لكن السلطة أهم بوصفها القائم والمرشد لهذا العمل الجليل، ولو لم تكن سلطة مستنيرة ستخطئ وتعود قفزات إلى الوراء ، أو تستبد بالحكم تحت ستار التنوير مما يشوه قضايا التنوير نفسها.

ليس المطلوب هنا الإجابة عن أفضل حل للوحدة بين العرب أو بين غيرهم، فالاتحاد إذا لم يقوم على المصالح (المادية) المشتركة سيختل ويصبح حالة تنافس ثم صراع يتفكك معه الحلفاء، ومثلما اتحدوا على العروبة مثلا سيتحاربوا عليها، ومثلما اتحدوا على الخلافة واحتكار الحق الإسلامي سيتحاربوا أيضا على ذات الحق، والتاريخ يشهد أن ما من تحالف نجح على أساس ديني أو لغوي، في المقابل عندما تجتمع المصالح يسود الاطمئنان لشعور الجميع بالرضا نتيجة لإيمان الآخر بوجودهم وحقهم في الحياه كحد أدنى من شروط الوحدة..

اجمالي القراءات 3320