إبتداع وظيفة القصص فى المسجد بعد الصلاة

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠٧ - ديسمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

  إبتداع وظيفة القصص فى المسجد بعد الصلاة

مقدمة

بإستغلال المسجد والصلاة فيه سياسيا تأسست وظيفة (القصص ) فى الدعاية للسلطان القائم ، أو ضده ، نوعا من الحرب الفكرية ، بالاضافة الى تحول المسجد أحيانا الى مركز للقتال أو التخطيط للقتال . وهذا تواتر جديد شيطانى حافظ عليه الأمويون ثم العباسيون . وانتهى فى العصر المملوكى وحلّ محلّه (ميعاد البخارى ) . وظيفة القصص كانت تعدل فى أهميتها وظيفة القضاء ، اى وظيفة دينية ولكن تتبع المسجد . ونعطى تفصيلا :

أولا : قبل العصر الأموى

1 ـ بدأت فى عصر عمر بن الخطاب ، فيقال أن أبا عاصم ( عبدالله بن عمير ) كان أول قاص فى عصر عمر بن الخطاب . " ( ابن سعد 5، 341: 342)  .

2 ـ والسمة الرئيسة التى تجمع كل القصاص هو صناعتهم للأحاديث ، ومثلا يقال عن سلمان بن الأغر ( مولى جهينة ) كان قاصا ، وروى عن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة ( ابن سعد 5/ 210) ويقال عن بى الأحوص (كان يحدث فى المسجد ، وكان ثقة وله أحاديث) (ابن سعد 6/126).

3 ـ وهناك خلاف فى بداية القصص . قال المؤرخ القضاعي‏ أنه  لم يقص في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ، وإنما كان القصص في زمن معاوية ‏. وذكر بعضهم أن القصص جاء  في خلافة عثمان بن عفان‏. وهناك خلاف فى أول من قام بالقصص ، قيل هو ‏ تميم الداري‏. وقيل إن عليًا رضي الله عنه قنت فى صلاته فدعا على قوم من أهل حربه فبلغ ذلك معاوية فأمر رجلًا يقص بعد الصبح وبعد المغرب يدعو له ولأهل الشام ، وكان ذلك أول القصص‏. ‏  

ثانيا : فى العصر الأموى

1 ــ جعل الليث بن سعد نوعين من القصص ‏:‏  قصص العامة وقصص الخاصة ، " فأما قصص العامة فهو الذي يجتمع إليه النفر من الناس يعظهم ويذكرهم .. وأما قصص الخاصة فهو الذي جعله معاوية ولى رجلًا على القصص ، فإذا سلم من صلاة الصبح جلس وذكر الله عز وجل وحمده ومجده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا للخليفة ولأهل ولايته ولحشمه وجنوده ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة‏. ". والمستفاد من هذا أن معاوية هو الذى جعل القصص وظيفة رسمية .

2 ـ إستغل الأمويون خطبة الجمعة فى الدعاية لهم ، ولم يكتفوا بذلك بل أنشأوا إلى جانب وظيفة الوالى والقاضى وصاحب الخراج وقائد العسكر وظيفة أخرى فى كل الولايات هى القصص. وكان أحيانا يتولى القصص والقضاء شخص واحد مما يدل على أهمية وظيفة القصص فى ذلك الوقت . وكان القاصّ يجلس فى المسجد بعد الصلاة يقصّ على الناس أخبار السابقين ويعظهم ويخلط كلامه بأحاديث مخترعة وروايات مختلفة ومن خلال السيطرة على السامعين يدعو للسلطة الأموية ، ولا ينسى أن يختم حديثه بلعن أبى تراب ( على بن أبى طالب ) . وكانت الروايات فى معظمها يخترعها الراوى نفسه . ولكى يجذب القاص  إهتمام العامة كان يكثر من الخرافات وينسب قصصه للنبى محمد عليه السلام والأنبياء السابقين.  ولأن العصر الأموى هو عصر الروايات الشفهية فقد تم تداول هذ القصص عبر الأجيال ونما وتكاثر إلى أن أتيح له التدوين فى العصر العباسى على أنه أحاديث نبوية أو قصص الأنبياء وعليه قام ما يسمى علوم الحديث والتفسير . ودعاة تنقية التراث فى عصرنا يطلقون على بعض هذه القصص إسم إسرائيليات نظرا لأنهم اكتشفوا أخيرا تشابها بين تلك الروايات وما جاء فى المصادر التراثية السابقة لأهل الكتاب .  

 3 ـ ومن مشاهير القصاصين فى العصر الأموى أبوهريرة وهو أيضا أشهر من إخترع الأحاديث ، وقد إنضم الى الأمويين وكان واليا لهم على المدينة . ومن تلامذته عبد الرحمن ابن حجيزة (ت 83) وقد اجتمعت له فى مصر فى الدولة الأموية ثلاث وظائف هى القضاء و القصص و بيت المال ، وكان يأخذ رزقه من القضاء  مائتي دينار ، وعطاؤه مائتا دينار ، وجائزته مائتا دينار .. الخ ( تاريخ المنتظم لابن الجوزي 6/253 : 254) .

4 ـ وقد قابل المعارضون للدولة الأموية قصصها الرسمي بقصص أخر ، وبذلك تحول القصص الى حرب فكرية اسلحتها الروايات و الحكايات والأحاديث. وأشهر معارضى الدولة الأموية سعيد بن جبير ـ والذى قتله الحجاج سنة 94 ــ كان من أشهر القصاص وأشهر الفقهاء أيضا . كان يقصّ كل يوم لأصحابه فى المسجد مرتين. بعد صلاة الفجر ، وبعد صلاة العصر (ابن سعد 6/ 180) ورفيقه ابراهيم التيمي كان أيضا من ضحايا الحجاج ، وكان من القصاص أيضا. قيل فيه :" إنى أحسبه يطلب بقصصه وجه الله" ، وحين بدأ ابراهيم التيمي بالقصص أخرجه ابوه من المنزل خوفا من الحجاج (ابن سعد 6/200).

واشتهر المرجئة كطائفة سياسية وفكرية فى العصر الأموي ، توسطوا بين الشيعة والأمويين  ، وكان منهم من احترف القصص ، مثل ذر بن عبد الله ، قيل عنه "من أبلغ الناس فى القصص ، وكان مرجئا ، وخرج مع القراء ( الفقهاء) مع ابن الأشعث فى الثورة على الحجاج . وشارك فى هذه الثورة سعيد بن جبير ، وهناك ايضا عمرو بن ذر وكان قاصا مرجئا أيضا ( ابن سعد 6/205 ، 252).

5 ـ وبسبب الاختلافات المذهبية والسياسية فقد تنوعت المواقف من القصص و القصاص . فيقال فى مدح صالح المرى أنه (كان اذا قص فى المسجد ازدحم الناس للصلاة والجلوس اليه)( ابن سعد 7/2/39). بينما كان سالم مولى عمر بن الخطاب (لايشهد قاصّ جماعة ولا غيره ..) ( ابن سعد 5/148) هذا فى الوقت الذى استمع فيه عبد الله بن عمر الى أحد القصاص وهو عبيد بن عمير فدمعت عيناه ( ابن سعد 4/119، 124). وبعضهم كان ينصح بمجالسة القصاص غير ابي الأحوص ، ولا تجلسوا شقيقا ، وليس بأبي وائل ولا سعد بن عبيدة) وقد مات السلمى فى خلافة عبد الملك بن مروان (ابن سعد 6/120).

ثالثا: قصاصون عاشوا العصرين الأموى والعباسى

1 ـ وبعض القصاصين أدرك الدولتين الأموية و العباسية مثل الجعفى الذى كان امام مسجد جعفى مدة ستين عاما . واحترف القصص فيه ، ومات فى خلافة ابي جعفر المنصور ( ابن سعد 6/254). على أن اشهرهم الأوزاعى والأعمش .

2 ـ الأوزاعى ( 88 : 157 ) كان مقربا من الأمويين ونجح بدهائه فى أن يحظى فى عهد العباسيين حين إخترع لهم حديث الردة ليبرر قتلهم الأمويين ، والتفاصيل فى كتابنا عن ( حد الردة ).

2 / 1 : إشتهر الأوزاعى فقيها وقصّاصا بسبب جرأته الفائقة فى الكذب ، والعوام تصغى الى زخرف القول أو المزخرف بالمبالغات ( ألأنعام ـ 113 )،

2 / 2 وإشتهر من قصص الأوزاعى ما رواه ابن الجوزى فى المنتظم عن قول الأوزاعى

2 / 2 / 1 :(  رأيت رب العزة في المنام فقال لي‏:‏ يا عبد الرحمن أنت الذي تأمر بالمعروف تنهى عن المنكر ؟ قلت‏:‏ بفضلك يا رب. فقلت‏:‏ يا رب أمتني على الإسلام فقال‏:‏ وعلى السنة ‏.‏)

2 / 2 / 2 :( .. الأوزاعي قال‏:‏ أردت بيت المقدس فرافقت يهوديًا فلما صرنا إلى طبرية نزل فاستخرج ضفدعًا فشد في عنقه خيطًا فصار خنزيرًا فقال‏:‏ حتى أذهب فأبيعه من هؤلاء النصارى فذهب فباعه وجاء بطعام ثم ركبنا فما سرنا غير بعيد حتى جاء القوم في الطلب فقال لي‏:‏ أحسبه صار في أيديهم ضفدعًا ‏.‏قال‏:‏ فحانت مني التفاتة فإذا بدنه بناحية ورأسه بناحية فوقفت وجاء القوم فلما نظروا إليه فزعوا ورجعوا عنه ‏.‏قال‏:‏ فقال لي الرأس‏:‏ رجعوا ؟ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فالتأم الرأس إلى البدن وركب وركبنا فقلت‏:‏ لا أرافقك أبدًا ..)

3 ـ الأعمش ( سليمان بن مهران : 61 : 148 ) كان أخطر الدعاة للعباسيين يؤلف لهم الأحاديث وينشرها فى مجالس قصصه ضمن خرافات شيّقة عن السابقين ، صارت أساسا فى كتب الحديث والتفسير والتاريخ للأنبياء والسيرة ، وهى أحاديث كاذبة تنسب علم الغيب للنبى محمد عليه السلام بالتناقض مع القرآن الكريم . ونعطى نماذج منها نقلا عن تاريخ المنتظم لابن الجوزى :

3 / 1 : فى الدعاية للعباسيين :

3 / 1 / 1 : ( ...عنالأعمشعن عطية عنابي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏يخرج منا رجل انقطاع من الزمن وظهور من الفتن يسمى السفاح يكونعطاؤه للمال حثيًا‏.‏) هذا عن السفاح اول الخلفاء العباسيين .

3 / 1 / 2 : ( .. عنالأعمشعن الضحاك بنمزاحم عن عبدالله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال‏:‏‏"‏منا السفاحوالمنصور والمهدي‏"‏‏.‏)

3 / 2 : خرافات الأعمش عن خلق الشمس والقمر والنجوم : (حدثناالأعمش.. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لماابرم اللّه عز وجل خلقه فلم يبق غيرادم خلق شمسين من نور عرشه فاما ما كان في سابقعلمه ان يطمسها ويحولها قمرًا فانه خلقها دون الشمس في الضوء ولوتركها شمسين لميعرف الليل من النهار ولكان الصائم لا يدري الى متى يصوم فارسل جبريل فامر جناحهعلى وجه القمر ثلاث مرات فمحا عنه الضوء وبقي فيه النور وخلق للشمس عجلة لهاثلثمائة وستون عروة ووكل بها ثلاثمائة وستين ملكًا قد يعلق كل ملك بعروة واذا ارادان يري العباد اية خرت الشمس عن عجلتها فوقعت في بحر وتسجد الشمس تحت العرش بمقدارالليل ثم تؤمر بالطلوع فاذا ما دنت القيامة جعلت الشمس ثم يتبعها القمر ثم يطلعانمن المغرب ثم يعود الى ما خلق اللّه ‏"‏‏.‏)

4 : خرافات الأعمش عن قصص السابقين :

4 / 1 : عن إبنى آدم ( حدثناالأعمش.. ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لاتقتل نفس ظلمًا الا كان على ابن ادم الأول كفل من دمها ‏"‏ لانه كان اول من سنالقتل‏.‏) قال ابن الجوزى عن هذا الحديث الكاذب : (اخرجاه في الصحيحين‏.‏) فماذا عن قاعدة ( ألّا تزر وازرة وزر أخرى ) ؟!

4 / 2 : عن يونس والحوت : (   .. حدثناالأعمش.. لما التقم الحوت يونس نبذة الى قرار الأرضين فسمع تسبيحالحصى في الحماة فذلك الذي نابه‏.‏)

4 / 3 : عن قارون وكنوزه : (   وروىالأعمش.. قال‏:‏ كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود كل مفتاح مثل الإصبع كل مفتاح على خزانة علىحدة فاذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلًا‏.‏)

4 / 4 : عن الكفل : ( اخبرناالأعمش... قال‏:‏ لقد سمعت عن رسول الله صلى اللهعلية وسلم ..‏ كان الكفل من بني اسرائيل لا يتورع من ذنب فاتته امراة فاعطاها ستيندينارا على ان يطاها فلما قعد منها مقعد الرجل من امراته ارعدت وبكت فمال‏:‏ مايبكيك اكرهتك‏.‏ قالت‏:‏ لا ولكن هذا عمل لم اعمله قط وانما حملني على ذلك الحاجةقال‏:‏ فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ثم نزل فقال‏:‏ اذهبي والدنانير لك ثم قال‏:‏واللة لا يعصي اللة الكفل ابدًا فمات من ليلته فاصبح مكتوبًا على بابه قد غفر اللّهللكفل ‏"‏)

5 :  حظيت خرافات الأعمش بالتقدير والتقديس ، وملأ الطبرى بها مقدمة تاريخه ، وكذلك فعل ابن الجوزى ، وتأسست بها أساطير الدين السُّنّى . يروى ابن الجوزى فى تاريخ  المنتظم 8 /عام 170 أن الخليفة الرشيد ( وكان الرشيد معظمًا للسنة شديد النفور من البدع ‏.‏) ويؤكد هذا بقصة أن أحدهم كان يقرأ حديث الأعمش فى مجلس للرشيد : ( ..‏ قال محمدبن حازم‏:‏ كنت اقرا حديثالأعمش..  على امير المؤمنين هارون فكلما قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ صلىالله على سيدي ومولاي، حتى ذكرت التقاء ادم وموسى ، فقال عمه‏:‏ يا محمد اين التقيا؟  فغضب هارون الرشيد وقال‏:‏ من طرح اليك هذا ، وأمر به فحبس ، ) أى لأنه تساءل : أين التقى موسى بآدم حبسه الرشيد .  هذا لأن القصص كان وظيفة دينية مرتبطة بالصلاة وبالمسجد . 

اجمالي القراءات 4335