التواتر الشيطانى فى صلاة الجمعة فى لمحة تاريخية

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٢ - ديسمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

التواتر الشيطانى فى صلاة الجمعة فى لمحة تاريخية

مقدمة

يوم الجمعة أهم أيام الأسبوع عند العرب قبل نزول القرآن وبعد نزولة وبه ارتبطت صلاة الجمعة وعندما انفض بعض المؤمنين من حول الرسول وهو يخطب خطبة الجمعة ، نزل القرآن ليعاتبهم وليس ليشرع صلاة جديدة . ونبدأ بتتبع المكتوب فى الطبقات الكبرى لابن سعد عما كانوا يفعلونه فى صلاة الجمعة .

أولا : لمحات من الطبقات الكبرى لابن سعد

عن القدوم لصلاة الجمعة

يذكر ابن سعد أن " عسيب " مولى النبى محمد – أى خادمه – كان يقول : من كان منكم صحيحا يقدر على المشى إلى الجمعة فلا يدعها ، فإنها فريضة كفريضة الحج " ( ابن سعد 7 ، 42 ) ، وكان كبار الصحابة يحرصون على حضور صلاة الجمعة مبكرا وفى أخر جمعة شهدها الخليفة الأموى سليمان بن عبدالملك لبس ثيابا خضرا من حرير ونظر فى المرآة ، فقال : أنا والله الملك الشاب ، فخرج الى الصلاة ليصلى بالناس الجمعة ، فلم يرجع حتى أصابه المرض ومات (ابن سعد 5/247).

وقت صلاة الجمعة:

عبد الله السلمي صلى خلف النبي محمد الجمعة ، فكانت خطبة النبي وصلاة قبل نصف النهار وصلى خلف عمر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار وصلى خلف عثمان ، فكانت خطبته وصلاته قبل الزوال (ابن سعد 7/2/150) أى أن عثمان بن عفان – طبقا لهذه الرواية- بدأ بتأخير صلاة الجمعة ، وهو ما سار عليه أقاربه الأمويون فى دولتهم .

على اى حال فقد كان اهل الورع – او القرّاء فى مصطلح العصر الأول- يبكرون الى الصلاة الجمعة اذا طلعت الشمس (ابن سعد 5/135) وكان منهم ابن نوفل الهاشمى مغيره من قراء قريش.

هيئة صلاة الجمعة :

قيل عن الأخنف بن قيس زعيم بنى تميم انه كان يكره ان يتخطى رقاب الناس قبل خروج الامام يوم الجمعة (ابن سعد 7/67) ومعناه ان صفوف المصلين فى المسجد كانت تتكاثر فى وقت مبكر بحيث ان زعيم قبائل بني تميم لا يستطيع الوصول الى الصف الأول الذى يليق بمقامه الا اذا تخطى الصفوف ، وهو ما يكره ان يفعله.

والخليفة الورع عمرو بن عبد العزيز اشتهر باصطحاب عصا معه فى صلاة الجمعة ، حيث كان يخطب ويقوم الناس  "وكان اذا قعد للتشهد فى صلاة الجمعة وعرض تلك العصا على فخذه حتى يسلم" (ابن سعد 5/266) وكان اذا صلى الجمعة أمر بعض الحرس أن يقوموا على ابوب المسجد ، ولا يمر عليهم رجل قد صفف شعره الا جزوه له (ابن سعد 5/282) اى كان يعتبر تصفيف شهر الرجال مكروها.

 عن خطبة الجمعة :

1 ـ التزم عمار ابن ياسر بقراءة القرآن فى خطبة الجمعة ، قال ابن سعد أنه كان اذا خطب الجمعة قرأ سورة (ياسين) على المنبر . وقد كان عمار واليا على الكوفة فى خلافة عمر بن الخطاب (ابن سعد 3/1/182). ولأن الخطبة بمجرد قراءة لاحدى السور فقد كان وقت صلاة الجمعة قليلا ، وقد قال عمار بن ياسر "نهانا رسول الله ان نطيل الخطب فى الجمعة" (ابن سعد 6/149).

2 ـ وهناك رواية متكاملة عن عمر بن عبد العزيز فى خطبته للجمعة ، يقول ابن المهاجر : "رأيت عمر بن عبد العزيز يخطب يوم الجمعة خطبتين ويجلس ويسكت فيها ثلاثة ، يخطب الأولى جالسا وبيده عصا وقد عرضها على فخذيه ، يزعمون انها عصا رسول الله ، فإذا فرغ من خطبته الأولى وسكت سكتة قام فخطب الثانية، يتوكأ عليها .. فإذا دخل فى الصلاة وضعها الى جانبه " (ابن سعد 5/266) وواضح هنا التركيز على العصا ، ولكن نفهم انه كان يخطب خطبتين قبل الصلاة.

الانصات للخطيب

1 ـ ومن الواجب شرعا الانصات للخطبة طالما انها مجرد قراءة لأحدى سور القرآن . فالله تعالى يقول "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿٢٠٤﴾  الاعراف )، ولكن عندما تحولت الخطبة الى دعاية سياسية او منشور سياسي لخدمة الحاكم الأموي وغيره كان لابد من تشاغل بعض الناس عن سماع ما يكرهون ، وهكذا كانت همسات التبرم وعبارات الاحتجاج تنتشر. لذا روى ابن سعد ان عبد الرحمن بن ابي ليلى قال لبعضهم : اسكت فى الجمعة ،  يعني والامام يخطب (تاريخ ابن سعد 6/75) . وفيما بعد صنعوا حديثا يقول "اذا قلت لصاحبك والامام يخطب يوم الجمعة انصت فقد لغوت " وقالوا : " ومن لغا فلا جمعة له " يعني لابد من الانتباه والانصات للمنشور السياسي الذى يقوله خطيب الحكومة، والا فلا جمعة له . وهذا إلزام بالاستماع والانصات الى المنشور السياسى فيما يسمى بخطبة الجمعة .  

ثانيا : تمام السيطرة على صلاة الجمعة من العصر العباسى

1 ـ لم يقتصر هذا على الشأن السياسى فقط بل خضعت صلاة الجمعة لمزاج الخليفة وأهوائه حتى إرادة التلاعب والمجون. الخليفة المأمون العباسى المشهور بعقليته المتفتّحة وثقافته وزعمه أنه حليم أراد ان يتسلى بصديقه المؤرخ الواقدي ، وكان محمد بن سعد يعمل كاتبا للواقدى .. صمم المأمون على ان يؤم الواقدي الناس فى الجمعة وأن يخطب فيهم ، وصمم الواقدي على الرفض لأنه لا يحفظ سورة الجمعة ، وكان من العادة قراءتها فى الصلاة .. فحاولوا معه ان يحفظ سورة الجمعة فما استطاع حفظها (المنتظم 10/171).

2 ـ وفى العصر العباسي المتأخر اشتهر احمد بن محمد حفيد الخليفة العباسي المهتدي بالله بأنه خطيب فى أكبر جامع فى بغداد وهو جامع المنصور . وقد ظل يخطب فيه خطبة واحدة لا يغيرها من سنة 386 الى ان مات سنة 418 . الظريف انها خطبة واحدة لا تتغير ، ولكن كان الناس اذا سمعوها يضجون بالبكاء ويخشعون لصوته (المنتظم 15 /185).

3 ـ ولخضوعها للسياسة فقد صارت خطبة الجمعة وظيفة ، وصارت كتابة خطب الجمعة من أبواب الارتزاق، وبعضهم كان يكتب خطبة الجمعة لنفسه او لغيره ، ومنهم المسند الصايغ المقري (636- 725) وبعد الانتهاء من صلاة الجمعة كان بعضهم يستمر فى الصلاة الى ان يحل وقت العصر وكان منهم ابو بكر بن عباس (6 /269) الذى كان يصلي يوم الجمعة من حين يسلم الامام الى العصر وكان كذلك اربعين عاما.

4 ـ وفى العصر العباسى الثانى تحولت المساجد فى العراق الى مراكز ايدلوجية من السنة الى التشيع ، وكان لها دور فى الاقتتال الطائفى بينهما. وحاليا عادت المساجد الى نفس الدور ، بل أصبحت مراكز حربية ومستهدفة من الخصم ، يتم تفجيرها . أى ليس فقط تمجيد وتقديس السلطان فى خطبة الجمعة ، وليس فقط رواية أكاذيب ( أحاديث ) مفتراة تنشر الإفك على أنه إسلام تُضل الناس ، بل أيضا مشاركة قائدة ورائدة فى الاقتتال وسفك الدماء ، ينتج عنها تفجيرات يقع ضحايا أبرياء .

ثالثا : الاستخدام السياسى لصلاة الجمعة

    1  :  أصبحت وظيفة المسجد خدمة السلطان القائم ، فالوليد بن عبد الملك أسّس ( المسجد الأموى ) وعمرو بن العاص أسّس فى الفسطاط مسجده ، وحين دخلت مصر فى حكم بنى العباس اسسوا مدينة العسكر ومسجدها ، وحين تولى احمد بن طولون مصر وخطّط للإستقلال بها اسس مدينة القطائع ومسجدها ( مسجد أحمد بن طولون ) ، وأسس الفاطميون جامع الأزهر ثم جامع الحاكم وجامع راشدة ، والظاهر بيبرس الذى قام بتوطيد حكم المماليك أسس جامع ( الظاهر بيبرس ) وكان السلاطين والأمراء المماليك مغرمين بإنشاء المساجد والمؤسسات الدينية الصوفية لأغراض سياسية وغيرها ، وحتى عندما إنفرد ( محمد على ) بحكم مصر أسس جامع ( محمد على ).

2 ـ أهمية المسجد هنا بسبب صلاة الجمعة التى أصبحت خطبة الجمعة فيها مناسبة اسبوعية لتجديد الولاء للخليفة أو السلطان القائم. واصبح من المتواتر أن يقال عن الخليفة أو السلطان انه (خُطب له فى بلاد كذا وكذا ) أى خطبوا الجمعة له وبإسمه أى خضعوا له ودخلوا تحت حكمه . وأصبح من المعالم السياسية فى العصور الوسطى مدح وتبجيل خطبة الجمعة للسلطان القائم كنوع من البيعة الاسبوعية له. وهذا خبر طريف يرويه المقريزى فى ( الخطط ) أن ابن طولون أنشأ مسجده المشهور مع إنشائه عاصمته (القطائع ) بجوار الفسطاط والعسكر . وحدث فى خطبة الجمعة أن الخطيب أبا يعقوب البلخى دعا فى خطبته للخليفة العباسى المعتمد وابنه ونسى أن يدعو لابن طولون ، ونزل من على المنبر ، فأشار ابن طولون الى قائده نسيم أن يضرب الخطيب خمسمائة سوط ، ولكن تذكر الخطيب سهوه فعاد الى المنبر وقال ( الحمد لله وصلى الله على محمد : " ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما "، اللهم وأصلح الأمير أبا العباس أحمد بن طولون ..وزاد فى الشكر والدعاء له بقدر الخطبة ..فنظر ابن طولون الى نسيم وقال : اجهلها له دنانير ". وأصبح قطع الدعاء لحكم ما دليلا على الثورة عليه والتمرد على سلطته ، فطالما يبجلونه فى خطبة الجمعة فهم له خاضعون . وبتوالى القرون على هذا التقليد ساد فى العصر المملوكى التشاؤم من مجىء عيد الفطر أو عيد الأضحى يوم جمعة ، لأن هذا يعنى وجود خطبتين فى يوم واحد ، إحداهما فى صلاة العيد والأخرى فى صلاة الجمعة مما تكون نذير شؤم على السلطان تشير الى قرب عزله ومجىء سلطان آخر. لذا كان يحدث كثيرا عدم اعتراف فقهاء السلطان بهلال شوال أو هلال ذى الحجة لو أدى ذلك الى مجىء العيد فى يوم جمعة .

2 ـ وتألق الاستخدام السياسى لصلاة الجمعة فى العصر الفاطمى . ربما تختلف الدولة الفاطمية عن غيرها من الدول في ارتباط ضعفها وقوتها بالعقيدة الشيعية التي قامت على أساسها الدولة , فالعقيدة الشيعية الإسماعيلية تبتعد بالإمام أوالخليفة الفاطمي عن صفات البشر بقدر ما تقترب من صفات الإله. والخليفة الفاطمي يطالب رعاياه بأكثر مما يطالبهم به الحاكم العادي، فالمستبد العادي لا يطلب من رعاياه أكثر من السمع والطاعة أما الخليفة الفاطمي فيطالب مع الولاء أن يعتبره الناس إماما معصوما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وذلك مجرد مظهر من مظاهر الإمام الشيعي في العقيدة الإسماعيلية ومطلوب من الرعية أن تؤمن بهذا, ولتحقيق هذا الهدف كانت للدولة الفاطمية مؤسساتها العلنية في نشر الدعوة الشيعية كالأزهر وجهاز للدعاية الشيعية يقوم على رأسه (داعي الدعاة) يعاونه جيش من الدعاة العلنيين والسريين موزعين توزيعا دقيقا في داخل الدولة الفاطمية وخارجها وسبل الاتصال بينهم مستمرة ومستقرة . وقد تحدث (المقريزى) عن وظيفة (داعي الدعاة ) في الدولة الفاطمية في كتابه الخطط فذكر أسلوب الداعية في التأثير على الناس من خلال تدرج يصل بهم إلى اعتناق الدعوة وتأليه الخليفة الفاطمى . إلا إن الدولة الفاطمية حين ضعفت وانفض عنها الكثير من المصريين بسبب الكوارث الاقتصادية وضعف الخلفاء أمام الوزراء – لجأت الدولة إلى التلاعب بأهواء المصريين فجددت مقبرة السيدة نفيسة ، بل وأقامت ضريحا للإمام الشافعي وهو يخالفهم في المذهب والعقيدة – ولكن تقربا منهم للمصريين وهم محبون للشافعي متبعون لمذهبه،و قد سبق أنهم اشترطوا على جوهر الصقلي ضرورة احترامه للمذهب السني الشافعي . وقد وقع على عبء (الأفضل) ـ الوزير الفاطمي القوى المسيطر على الخلافة الفاطمية ـ مهمة بعث الحياة في الدولة الفاطمية الضعيفة أمام الخطر الصليبي القادم من الشرق مع خطر الأتراك السلاجقة السنيين المتحكمين فى الدولة العباسية ، وكان السلاجقة معروفين بتعصبهم للسنة وكراهيتهم للتشيع ، هذا مع اهتزاز ثقة المصريين في الخلافة الفاطمية بعد المجاعة أو الشدة العظمي التي واجهتها مصر في عهد المستنصر. كان الوزير الأفضل يواجه كل هذه التحديات فى الداخل و الخارج ، وبعضها عسكرى ، والآخر دعوي واقتصادى. وكان لا بد من حل ينقذ به الدولة والخلافة الفاطمية الآيلة للسقوط.وإثناء خروج الأفضل من الشام عثر على قبر منسوب للحسين في عسقلان تنتشر إشاعات تقول أن فيه رأس الحسين ، مع إنه لا علاقة مطلقا بين رأس الحسين وعسقلان ، ولكنها أوحت للوزير الفاطمى الأفضل بفكرة إقامة ضريح للحسين أو(رأس الحسين ) فى مصر تكون ( أفضل) فرصة لاستمالة المصريين. وإذا كان أبوه (بدر الجمالي) قد أقام مقبرة السيدة نفيسة فليكن الأفضل منشئ قبر الحسين في القاهرة .وهكذا عاد الأفضل من عسقلان تسبقه الدعاية الفاطمية بالعثور على رأس الحسين ، وتتواتر الدعاية بالكرامات التي أحاطت بالرأس ، ثم حولوا مشهد الحسين إلى نصب مقدس تنحر عليه الذبائح بمثل ما كان الجاهليون يفعلون ،  يقول المقريزي عن طقوسهم عنده ( فكان كل من يدخل الخدمة يقبل الأرض أمام القبر , وكانوا ينحرون في يوم عاشوراء عند القبر الإبل والبقر والغنم ويكثرون النوح والبكاء ويسبون من قتل الحسين , ولم يزالوا على ذلك حتى زالت دولتهم).  وزالت الدولة الفاطمية وبقي ضريح الحسين حتى اليوم دليلا على عمق التأثر بالبدع التي أدخلتها تلك الدولة في عقائد المصريين ، واستخدمت فيها المساجد الضرار ، وهى كثيرة ، ولكن أهمها االجامع الأزهر ومسجد الحسين، وهما معا محور الحياة الدينية للمصريين . فالجامع الأزهرهذا الجامع أول مسجد أسس بالقاهرة ، انشأه جوهر الصقلي خادم المعز لدين الله لما اختط القاهرة وشرع في بناء هذا الجامع في يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة 359 وكمل بناؤه لتسع خلون من شهر رمضان سنة 361 ،وأول جمعة جمعت فيه في شهر رمضان فى نفس العام . وعينت الدولة الفاطمية فيه 35 من الفقهاء وأجرت عليهم المرتبات وأوقفت عليهم الأوقاف . كل ذلك لنشر الدعوة الشيعية بين المصريين.

3 ـ وقضى صلاح الدين الأيوبى على الدولة الفاطمية ، وحاول ما أمكنه مطاردة الدين الشيعى ، وبنفس الطريقة ، فقطع الخطبة من الجامع الأزهر، وظل الأزهر معطلًا من إقامة الجمعة فيه مائة عام الى أن أعيدت الخطبة في أيام الملك الظاهربيبرس فى العصر المملوكى. وبديلا عن الأزهر جعل صلاح الدين الأيوبى من الخانكاه الصلاحية دار سعيد السعداء مركزا للدعوة السنية ، واستقدم لها صوفية وجعل لهم أوقافا ومرتبات عام 569 ، ورتب للصوفية في كلّ يوم طعامًا ولحمًا وخبزًا وبنى لهم حمّامًا بجوارهم فكانت أوّل خانكاه عُملت بديار مصر‏.‏وجعل لهم موكبا لاجتذاب المصريين ، يقول ابن على القصّار‏:‏ ( أنه أدرك الناس فييوم الجمعة يأتون من مصر إلى القاهرة ليشاهدوا صوفية خانقاه سعيد السعداء عندما يتوجهون منها إلى صلاة الجمعة بالجامع الحاكميّ ، كي تحصل لهم البركة والخير بمشاهدتهم ، وكان لهم في يوم الجمعة هيئة فاضلة ؛ وذلك أنه يخرج شيخ الخانقاه منها وبين يديه خدّام الربعة الشريفة ( المصاحف ) قد حملت على رأس أكبرهم ، والصوفية مُشاة بسكون وخفر( أى حياء ) ..ويستطرد فى شرح طقوسهم بما يدل على ترتيب سياسى دعائى لاحلال التصوف السّنى مكان الدعوة الشيعية فى مصر. ونجح هذا الترتيب ، خصوصا مع سيطرة التصوف على مصر وغيرها مع العصرين المملوكى والعثمانى..

  4 ـ ـ وورث المماليك عن الأيوبيين رعاية التصوف السّنى بديلا للتشيع بل ومطاردة التشيع أو مذهب الرافضة كما كان يقال ـ ولا يزال.  وأدخل دين التصوف شعائر جديدة ومصطلحات دينية جديدة وأسماء جديدة لبيوت العبادة مثل الخوانق والرباط والزاوية والضريح والتربة والمدرسة . وتكاثرت تلك المؤسسات منها ما يقيمه السلاطين والأمراء والعيان ، ومنها ماينشئه الصوفية أنفسهم وخصوصا القادمين منهم الى مصر ، واشتركت جميعها فى كونها دورا يقيم فيها الصوفية وطلاب العلم وتوقف عليها الأوقاف وتصرف على العاملين والمقيمين فيها المرتبات ، وينشغلون فيها ظاهريا بالصلاة والعبادة والدعاء للسلطان أو الأمير او غيره صاحب المؤسسة والذى ينفق عليها ويعطىهم المرتبات والجراية من خبز ولحم وكسوة .. وفى الحقيقة كانت تلك المؤسسات مساجد ضرار من نوعية فريدة ، لا يكتفى القائمون فيها بأكل السّحت من الظالمين الذين ينشئون تلك البيوت الدينية من المال الحرام بل اشتهر العاكفون فى تلك المؤسسات بادمان اللواط. والتفاصيل فى موسوعة التصوف المنشورة هنا . ولكن نكتفى بذكر مثلين ذكرهما المقريزى فى الخطط . الأول عن إقامة تلك المؤسسات بالظلم والمال الحرام ، والآخر عن الانحلال الخلقى فى تلك المؤسسات الدينية . يقول المقريزى عن مسجد  الذخيرة تحت قلعة الجبل بأوّل الرميلة تجاه شبابيك مدرسة السلطان حسن ، أنشأه ابن الصيرفى عام 516 ، يقول المقريزى (واستخدم فى إنشائه العسف والسخرة حتى أطلق الناس على هذا المسجد ( مسجد لا بالله ) لأنه كان يقبض الناس من الطريق ويعسفهم فيحلفونه ويقولون له لا باللِّه ، فيقيدهم ويستعملهم فيه بغير أجرة ، ولم يعمل فيه منذ أنشأه إلاّ صانع مكره أو فاعل مقيد وكُتبت عليه هذه الأبيات المشهورة‏:‏

بنى مسجدًاللّه من غيرِحلِهِ          وكانَ بحمدِ اللَّهِ غيرَموفقِ‏.‏

كَمُطعِمَةِ الأيتام مِن كدِّ فرجِها لكِ الويلُ لا تزني ولاتتصدّقي‏.‏ )

أما عن الانحلال الخلقى داخل هذه المؤسسات فنقرأ شهادة المقريزى فى الخطط عن صوفية عصره، وننقلها بالنّص والحرف مع الاعتذار للقارىء الكريم. يقول المقريزى  :( ذهب والله ما هنالك ، وصارت الصوفية‏ كما قال الشيخ فتح الدين محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري‏:‏

ماشروطُ الصوفي في عصرنا اليو مَ سوى ستة بغيرِ زيادَهْ‏.‏

وهي نيكُ العلوقُ والسُكرِ والسطلةِ والرقصِ والغنا والقيادهْ‏.‏

وإذا ما هذى وأبدى اتحادًا        وحلولًا من جهلِهِ أو إعادهْ‏.‏

وأتى المنكراتِ عقلًا وشرعًا فهو شيخُ الشيوخُ ذو السجَّادَهْ‏.‏

ثم تلاشى الآن حال الصوفية ومشايخها حتى صاروا من سقط المتاع لاينسبون إلىعلم ولا ديانة وإلى الله المشتكى‏.).

اجمالي القراءات 6207