فهمي لسورة التوبة ( الجزء الرابع )
فهمي لسورة التوبة ( الجزء الرابع )

أسامة قفيشة في الأربعاء ١٦ - مايو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

فهمي لسورة التوبة ( الجزء الرابع )

( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) 25 التوبة :

1 - يذكّر الله جل وعلا الطرف الثاني ( أتباع النبيّ القرشيون المتواجدون حالياً في مكة ) بما حدث في معركة حنين , و يشير لكثرة تعداد جيش المسلمين و الذي كان يضم في صفوفه قريش المشركة و الذي أطلقنا عليه بالطرف الأول بعد معاهداتها مع الدولة الإسلامية ( راجع مقال جيش الدولة الإسلامي ) .  

2 - نلاحظ بأن تلك الكثرة في الجيش كانت بسبب انضمام قريش لحلف الدولة الإسلامية حيث نصركم الله في مواقع كثيرة قبل ذلك و بدون تلك الكثرة العددية , و يشير عز و جل بأن تلك الكثرة لم تغني المؤمنين بشيء ( بالعامية فستق فاضي ) , بل على العكس أدت إلى ضعف العزيمة .

3 - الهروب الجماعي و الفرار كان هو المحصلة , فمشركو قريش قاموا بالهرب فهرب معهم معظم أتباع النبيّ القرشيون و هذا واضح كون الخطاب موجهٌ لهم ,

4 - نستخلص من هذا القول بأن قريش قبل اتفاقات دخول مكة و بعدها , كانت و لازالت تعتبر هي الأكثرية أي أنها كانت و لازالت هي القوة العظمى و لم تضعف عسكرياً , أي أن فتح مكة جاء بإرادتها المطلقة و ليس بفعل قوة المسلمين أو تغلب عددهم كما رسم في أذهاننا .     

( ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ) 26 التوبة :

1 - يبيّن لهؤلاء الأتباع بأنه و بعد فرارهم يوم حنين بأن الله جل وعلا قد أنزل سكينته على النبيّ و على من معه من المؤمنين الذين لم يهربوا و لم يتخلفوا , و بأنه جل وعلا قد أنزل جنوداً تساندهم و تحميهم من القتل ( يبدو بأن من بقي من المؤمنين هم قله قليلة جداً لا تؤهلهم للمواجهة و القتال ليتحقق بذلك عصمته عليه السلام من القتل حتى ينهي تبليغ الرسالة ) و تحدثت عن ذلك في مقال ( قريش و المشركون و النبيّ ) .  

2 - تلك الجنود التي أنزلها الله جل وعلا كانت مهمتها تعذيب الكافرين الذين جاؤوا لقتال النبيّ , و لم تتحدث الآية عن قتلهم بل اقتصر الأمر على العذاب , و لم تتحدث عن أي نصرٍ محرز في تلك المواجهة و علية فإن كتب التاريخ التي تتحدث عن إبادة ذلك الجيش الكافر و الغنائم الكبيرة و السبايا لا صحة لها بل هي محض كذبٍ و افتراء .

( ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) 27 التوبة :

بعد هذا التحذير و العتاب شديد اللهجة و الموجه لأتباع النبيّ من القرشيين , يبلغهم بأن باب التوبة مفتوحٌ لمن شاء منكم أن يتوب , و بأن الله جل وعلا غفورٌ رحيم .

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) 28 التوبة :

1 - الإعلان بشكل رسمي و واضح بسحب صلاحيات إدارة المسجد الحرام من يد قريش المشركة و نقلها ليد المؤمنين لإدارتها و السيطرة عليها . 

2 - نداءُ حشدٍ و أمرٍ و تلبية من المؤمنين و الاستعداد لما هو آت .

3 - الإعلان بأن المشركين نجس و عليه فلا يقربوا المسجد الحرام ( أي أنها عملية تطهيرٍ للمسجد الحرام من نجس المشركين ) أي أن المقصود هو تخليصه من سيطرة و إدارة قريش و رفع يدها عنه بالقوة بعد أن علمنا من هم أهل عمارته و إدارته و من لهم الأحقية في ذلك .

4 - تحدثنا سابقاً عن أهمية المسجد الحرام اقتصادياً بالنسبة لقريش و كيف كانت تستغل هذا الأمر و تحتكره ( و هو أمرٌ مرفوض ) لذا فمن المتوقع أن يتخوف الناس على مصالحهم التجارية في حال غياب قريش و تبدل الوضع القائم الذي اعتادوه , أو أن يؤثر ذلك سلباً على اقتصاد مكة بشكلٍ عام , لذا جاء قوله جل وعلا ( وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ) حتى يطمئنهم و يذكرهم بأن الفضل هو فضل الله جل وعلا و ليس فضل قريش .

5 - و في هذه الآية الكريمة نجد ملاحظة و معلومة جديدة لنا و هي ترتيب الأشهر العربية , فترتيبها المتداول هذه الأيام يخالف تلك التي كانت عليه سابقاً , و هذا مستنتج من قوله جل وعلا ( بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) أي بعد انتهاء هذا العام الذي هم فيه , حيث علمنا بأن المهلة الممنوحة هي أربعة أشهر تبدأ سريانها منذ إعلان هذا البيان ألا و هو ( موسم الحج ) شهر ذو الحجة ,

لذا أقول بأن بداية المهلة تبدأ من شهر ذو الحجة و تنتهي مع نهاية العام الذي هم فيه , أي أن شهر ذو الحجة هو الشهر التاسع في الترتيب , يليه محرم في الترتيب العاشر , ثم يليه صفر في الترتيب الحادي عشر , ثم يليه ربيع أول في الترتيب الثاني عشر و ينتهي العام و يبدأ عامٌ جديد .

( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) 29 التوبة :

1 - هنا يأتي الأمر بالقتال بعد انتهاء المهلة , و القتال موجه بشكلٍ خاص في وجه هؤلاء ( قادة الانقلاب و عناصره و مؤيدوه ) .

2 - و بما أن القتال قد شمل ( بعضاً من أهل الكتاب من اليهود و النصارى ) فهذا يعني ضرورة اشتراكهم في هذا المخطط سواء بالتخطيط أو التنفيذ .

3 - جاء وصف الجميع بأنهم لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يلتزمون بما أنزل الله جل وعلا , و السبب في ذلك كونهم جميعاُ مشتركون في منهاج الشرك الذي جمعهم و أبعدهم عن دين الحق , و قتال هؤلاء المشركين مرهونٌ بسلوكهم العملي .

4 - في قوله جل وعلا ( حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) فأقول :

هنا تم ربط هؤلاء جميعاً في دائرة واحده مشتركه كما قلنا , و قتالهم مرهونٌ بسلوكهم العملي , و نحن نعلم بأن القتال يتوقف حال خضوع المعتدي ملتزماً بمبدأ السلم و الأمن فقط , أي يجب إخضاعه لهذا المطلب بالقوة و تحدثنا سابقاً في مقال ( مقدمة لسورة التوبة ) بأن السلم و الأمن بين البشر في الحياة الدنيا هو أمرٌ ملزمٌ للجميع لا مكان لحرية الاختيار فيه ( كي يفوز البشر في الدنيا ) , و إسلامٌ و إيمانٌ به رباً و ما يترتب عليه من واجبات و هذا خاضعٌ لحرية الاختيار لا إكراه و لا إجبار فيه ( كي يفوز البشر في الآخرة ) ,

لذا فإن إجبارهم للخضوع بالقوة لحالة السلم و الأمن هو بحد ذاته إذلالٌ لهؤلاء المتكبرين المتغطرسين المجرمين , فإن خضعوا و التزموا سُمحَ لهم بدفع الجزية و الدخول للحرم من أجل الحج , لهذا فمفهوم ( الجزية ) بالنسبة لي : فأرى بأن الجزية ليست بالأمر الجديد على ذاك المجتمع , أي أنهم يعلمون جيداً مفهوم الجزية و كانوا يؤدونها , و هذا لعدم ذكر تفاصيلها و كيفيتها و هدفها أو الغاية منها , فأنا شخصياً أرى بأنها مبلغٌ من المال يدفعه هؤلاء المشركون ( من قبائل عربية و من يهود و نصارى ) مقابل دخولهم للحرم المكي الذي وضع للناس كافه لأداء موسم الحج , و الغاية من تلك الجزية هي في تغطية عمارة هذا الحرم من تكاليف الخدمات التي يتم توفيرها للحجيج لا أكثر .

قد يسأل سائل هنا و بناءاً على ما سببه له الوحي الموازي للقرآن الكريم و جعله يفهم بأن الجزية هي ما يدفعه أهل البلاد المفتوحة ( المحتلة ) للفاتح ( المحتل ) مقابل السماح لهم بالبقاء على دينهم , فيقول ما هو دليلك بأن الجزية هي ما يدفعه الحجيج ؟

أقول , علينا التركيز جيداً بما نتلوه من آيات و عدم تشتيت الذهن خارج فحواها أبداً , و لو أنا فعلنا هذا لوجدنا بأن الآيات السابقة تتحدث عن واقع معايش و هو سيطرة قريش على الحرم المكي و إدارته و قد تحدثت عن هذا , و بأن النبيّ و دولته الإسلامية لم تسيطر على مكة بل وقعت معاهدات و مواثيق مع قريش تخولها فقط بعودة المؤمنين المهجرين لبيوتهم و السماح لهم بحرية التعبد و الدعوة باستثناء النبيّ و تقضي بعودته للمدينة و هذا هو فتح مكة , هذا الواقع و بعد أن استشعرنا بأن هناك عملية انقلاب تعمل عليها قريش و تخطط لها للإطاحة بالنبيّ و القضاء على نهجه جاءت هذه السورة لتكشف ذلك بشكلٍ علني , فدعت إلى إلغاء تلك المعاهدات و المواثيق نظراً لعدم التزام الأطراف الأخرى ببنودها و على رأسهم قريش سيدة مكة ,

و لتعطي الجميع منهم مهلة أربعة أشهر و هي أشهر الحج و هي أيضاً الأشهر الحرم أي حتى نهاية العام , و بعدها يبدأ قتالهم إن لم يتوبوا و يتوقفوا عن ذلك , ليس هذا فحسب بل الأخطر منه هو سحب إدارة الحرم المكي من يد قريش و تجريدها منه و جعله تحت إشراف و إدارة الدولة الإسلامية , و بما أن إدارة المسجد الحرام ستتغير و يتغير معه الوضع القائم و المألوف فقد أجاز الله جل وعلا للإدارة الجديدة بأخذ الجزية , و هذا بحد ذاته رسالة تطمئن الجميع ( من مشركين و يهود و نصارى ) بأن توافدهم للحج لن يتأثر و لن يتغير عليه شيء , و لن يتم منع أحد من الحج لبيت الله الحرام . 

اجمالي القراءات 5075