فتح مكة
فتح مكة

أسامة قفيشة في الأربعاء ٠٢ - مايو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

فتح مكة

هذا الفتح هو في حد ذاته نصراً للنبي و لمن معه من الذين أخرجوا من ديارهم و بيوتهم بسبب ظلم و اعتداء و اضطهاد قريش الديني و إكراه الناس في تلك الحرية الذاتية , و تم منعهم من العودة مجدداً لمكة ,

فما الذي حدث و ما الذي تبدل حتى تتراجع قريش عن قرارها المتخذ و تسمح لهم بدخول مكة دون قتال ؟

من خلال التتبع لمجريات الأمور الواردة في نصوص القرآن الكريم نلاحظ بأن تلك العودة هي نتاجٌ سياسي تم التوافق عليه من خلال إبرام معاهدات و اتفاقات نظراً للظروف و الأحداث تنص على عدة بنود من أبرزها السماح للنبي و من معه دخول مكة و التعبد بها و حرية الحركة و الدعوة الدينية , فأبواب مكة كانت بالأمس مغلقةٌ في وجه النبي و في وجه اتبعه , فلا يستطيعون دخولها و اليوم تم فتح تلك الأبواب و تم السماح لهم بالدخول و رُفعت بذلك القيود و الملاحقة و هذا هو معنى الفتح لا أكثر ,

إن خضوع قريش لمتطلبات و مطالب النبي عليه السلام و لمن معه هو نصرٌ كبير و انجازٌ عظيمٌ بحد ذاته , فها هي أعتا قوة قبلية بين العرب تخضع أمام الحق و تذعن له ,

نحن لا نعلم ما كانت نوايا قريش عليه حينها و بماذا كانت تفكر و الراجح أنها كانت في حالة ضعف , و لا ندري تماماً ما هي أهدافها الخفية من وراء خضوعها لتلك الاتفاقات و المعاهدات , و لكن من الواضح بأنها كانت خبيثة , فسرعان ما حاولت التملص من تلك الاتفاقات و التنصل منها من خلال نقضها العهد و الميثاق المبرم بعدم الاعتداء , فاعتدت و طغت فكانت سورة التوبة موضحةً لما ترتب على هذا النقض و لتضع حداً لتلك التجاوزات و تبين للجميع تلك الخطوات المتبعة و المترتبة على ما حدث كردة فعل ,

هذا الكلام هو استنتاجٌ شخصيٌ لواقع الأحداث و تسلسلها فلنلقي نظرةً سريعة في مجرياتها :

قريش سيدة القبائل العربية و أشرسها كما كانت تملك نفوذاً اقتصادياً مادياً اكتسبته من خلال سيطرتها على البيت الحرام و على ما كان يدفعه و يقدمه الحجيج من تبرعاتٍ لآلهتهم المزعومة , حيث يسهم توافدهم لهذا المكان من إنعاش اقتصادهم و تنشيط تجارتهم .

كانت قريش عظيمة الدهاء حيث سمحت للقبائل بوضع مجسمات تلك الآلة في محيط البيت الحرام , فكل قبيلةٍ من القبائل تعبد إلهها المتواجد هناك و تحج إليه بعد أن ابتعدت القبائل عن ملة إبراهيم عليه السلام و ما تتضمنه تلك الشريعة من صلاةٍ و صومٍ و حج و زكاة فأصبحوا مشركين بتلك العبادات , أي أنهم كباقي المشركين يؤدون تلك العبادات و لكن على هواهم و ما يمليه عليهم شركهم , و المستفيد اقتصادياً و سياسياً و عسكرياً من كل هذا هي قريش طبعاً .

جاء النبي محمد عليه السلام في هذا المجتمع المشرك و بعثه الله ليعيد لهم دين الحق و يبين لهم شركهم و ضلالهم , و هذا ما لا يعجب قريشاً و يهدد مصالحها و يذهب هيمنتها و سطوتها و التي كانت تلك المصالح محتكرةٌ لدى صناديدها و أكابرها , فحاربته بكل الوسائل و الطرق .

فر النبي عليه السلام بدينه هو و من اتبعه من وجه هذا الاضطهاد ملتزماً بالسلم و الأمن و عدم القتال .

قريش شعرت بالخوف الذي يهددها مستقبلاً , فآثرت الهجوم على كل من يعصي كلمتها و شعرت بالضعف أمام سلمية الطرف الآخر و رفضه القتال ( النبي و من معه كانوا بضعفهم المادي أقوى من قوة قريش المادية ) , و استمرت قريش ببطشها و ظلمها و اعتدائها تلاحق هؤلاء المسلمين الذين لا حول لهم و لا قوة دون رادع أو مانع .

بدأ الرسول ببناء و إعداد جيشٍ يحمي به أتباعه و مجتمعه المدنيُّ الذي بناه لصد أي هجومٍ محتمل من قريش على المسلمين الآمنين في عقر دارهم  في المدينة .

و ما أن أصبح المسلمون يمتلكون قوة يعتمد عليها جاء لهم الإذن بالخروج لمقاتلة من يعمل على قتلهم و يستفرد بهم كلما سنحت له الفرصة بذلك و يتربص بالمسلمين الآمنين و يقتلهم .

ثم كان اللقاء القتالي الأول بين قريش و المسلمين , و هذا في حد ذاته ما انتظرته قريش طويلاً و تمنت حدوثه كي تقضي به على النبي عليه السلام و من معه و تضع حداً لهواجسها و خوفها من عدل هذا الدين  .

قريش و في ذلك اليوم قد تلقت صفعة قاسية لم تكن تتوقعها و لم تكن بالحسبان , فاهتزت بها صورتها بين القبائل , و مُست كرامتها و هيبتها و سرعان ما تغيرت و تبدلت المعادلة المعهودة بين القبائل فقد ظهرت قوةٌ جديدة قادرة على الوقوف في وجهها .

تلك المرحلة الجديدة كانت تستلزم بياناً جلياً و واضحاً تحدد فيه ملامح و شكل هذا التحول الجذري ( راجع مقال الإسلام يعلن الحرب في وجه الكفره ) فكانت الآيات من سورة الأنفال توضح ملامح تلك المرحلة الجديدة , و تطالب كافة القبائل بعدم العدوان و العدول عنه , فمن يعتدي منهم منذ هذه اللحظة فلا يلوم إلا نفسه و من كان قد اعتدى منهم سابقاً فاعتداءه كأن لم يكن و سيفتح مع الجميع صفحه جديدة أساسها العدل و الأمن الاجتماعي .

بعد هزيمة قريش المدوية و صعود قوة المسلمين بدأت القبائل تبحث عن مصالحها فقريش التي ترهبهم لم تعد كسابق عهدها , و بما أن النبي محمد عليه السلام قد ضمن للجميع حريته في العبادة و بأنه لا إكراه في الدين , و بأنه يضمن للجميع سلامتهم و أمنهم و حقوقهم فهذا كله كان له الأثر الكبير في تحول ولائهم و تشجيعهم على إبرام معاهدات مشتركه و مواثيق مع الدولة الإسلامية , و لم تكن عليهم أي شروط سوى التزامهم بعدم الاعتداء و الدخول في حالة السلم و الأمن الاجتماعي و وقف سفك دماء بعضهم البعض و وقف عمليات السلب التي كانوا يمارسونها و يتقاتلون بسببها .

دخلت تلك القبائل في دين الله أفواجا , أي بدأت في تسارعٍ للجوء و إبرام المواثيق و المبايعات مع الدولة الإسلامية , و بدأت قريش تشعر بالعزلة و تخسر حلفائها بشكلٍ كبير , و بدأت تضعف شيئاً فشيء .

تلك القبائل لم تكن تتوقع أن يستطيع النبي في يومٍ من الأيام دخول مكة و هذا بسبب الخوف و الرعب المتراكم الذي تولد و تأصل في نفسهم من كل شيء اسمه قريش ( بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ) 12 الفتح .

و تلك القبائل كانت ترتجف خوفاً من مواجهة قريش في يومٍ من الأيام , فكانت تتخلف عن القتال الدفاعي في مواجهة حلفاء قريش و ينأون بأنفسهم عن ذلك ( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) 16 الفتح .    

و سرعان ما تولد الضعف السياسي و العسكري عند القرشيين حين شعروا بخسارة حلفائهم في معاركهم مع النبي عليه السلام , و التي كان آخرها خسران أحد الحلفاء المهمين في بطن مكة فلم تستطع قريش من مساندتهم و دخول المعركة معهم , حيث انتصر المسلمون في تلك المعركة على حليفٍ مهمٍ لقريش تحت مرأى أعينهم و أسماعهم و بجوارهم و ظفر المسلمون عليهم , فلم تتسع دائرة تلك المعركة و لم تشارك قريش بها ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) 24 الفتح .

هذا المشهد أجبرهم بالخضوع لسياسة الأمر الواقع فأبرموا معاهداتهم و خضعوا لمواثيق الدولة الإسلامية كسائر القبائل و قد أفضى ذلك بدخول النبي و المسلمون لمكة آمنين دون قتال , على الرغم من المعارضة الكبيرة عند بعض صناديد قريش لما تم التوافق عليه بسبب تكبرهم و غرورهم و الحميّة التي في صدورهم , و لكن الله جل و علا قد سلم رسوله و المؤمنون حيث التزم الجميع بالهدوء بعد أن أنزل الله جل وعلا على أتباعه السكينة و الطمأنينة و ألزمهم التقوى و بذلك فتحت مكة لهم و دخلوا المسجد الحرام بعد طول غياب (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) 25-27 الفتح .

كما يبدو فإن تلك المعاهدات التي توافق عليها الطرفان كانت تنص على عدم بقاء النبي عليه السلام في مكة بل تقضي بعودته للمدينة , و تبقى قريش سيدة مكة و هي المسيطرة عليها و تدير شؤونها شرط التزامها بالأمن و السلام , و لا تعتدي على أحدٍ من المسلمين و تسمح لهم بالعودة لبيوتهم التي اخرجوا منها و من أداء مناسكهم دون أي اعتداء تحت بند حرية العبادة و حرية الدعوة لدينهم . 

اجمالي القراءات 4912