الخيبة والخسران بين الدنيا والآخرة

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١١ - أبريل - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

الخيبة والخسران بين الدنيا والآخرة

1 ـ هذه رسالة من إنسان محترم يعيش فى مجتمع غير محترم . رأيت أن أعرضها وأن أعلق عليها لأنها أثارت مواجع كامنة فيما مضى من حياتى .

2 ـ يقول صاحب الرسالة : ( أبى يعيرنى بأنى خائب أنا من وجهة نظره خائب لأنى لا أجارى الناس فى عملهم أنا لا أجامل ولا انافق وأتعامل دوغرى مع الناس وأقول للمخطىء أنت مخطىء فى عينه ومباشرة ،  ولهذا  فسخت خطوبتى لأنى تكلمت جد مع خطيبتى فاصبحت فى نظر خطيبتى السابقة مقفول واعيش فى العصر الحجرى .  ترقيتى توقفت وعملوا لى كم مؤامرة للفصل من العمل وربنا نجانى منها ويكرهنى الذين أواجههم بما يفعلون من ظلم ، وأبى وهو شيخ أزهرى يقول عنى انى خائب لأنى لا أرقص للقرد فى دولته كما يقول . وأخيرا عطلت الجامعة رسالتى للماجيستير اكثر من عام بسبب وهمى السبب الحقيقى أنى لم أسكت على الفساد فى الجامعة . وتكلمت أمام العميد فابتسم ابتسامة صفراء وسكت . ولكن أنا الآن مهدد بالفصل من عملى كمدرس مساعد ، وبهذا تتحقق تهمة ابى لى بأنى خايب . هل أنا فعلا خائب ؟ هل انا خطأ أم المجتمع هو الخطأ ؟ بعض أصحابى يتندرون علىّ بأننى أريد أن اصلح الكون . مع اننى أصبحت منبوذ وحيد فى ركن لا يهتم بى أحد . لكن كلام والدى يؤلمنى . هل أنا فعلا خايب ؟ كلام والدى يتردد فى اذنى ويسبب لى كوابيس . وأنا أتعجب . رأيت صورة له وهو فى الشباب ، يشبهنى تماما وهو فى نفس سنّى ، لكن عقليتنا مختلفة . المفروض أنه يكون الناصح لى فهو شيخ من شيوخ الأزهر ، وأحيانا يعطى دروس يوم الجمعة فى الجامع . وكنت أحضرها ولم يكن يعجبنى كلامه لأنه ملىء بالخرافات ، ومرة قال أحاديث عبيطة وناقشته فيها من خلال تخصصى فى البيولوجيا فشتمنى . ومن بعدها لم أعد اصلى معه . وهذه ليست مشكلة ، المشكلة فى انه يعتبرنى خايب وفاشل مع انى كنت متفوق . انا استريحت لما قرأت لك ، لكن موضوعاتك صعبة وبعيدة عن مجال تخصصى ، لكن الذى يعجبنى فعلا سيرة حياتك وصبرك وشجاعتك فى مواجهة الازهر ومشايخ الأزهر من نوعية أبى المحترم . لهذا أرجوك أن تكتب لى تريحنى وتشجعنى . أنا عارف ان أنا صح بس عايز تأكيد منك وشكرا وآسف للازعاج  )

3 ـ واقول له :

أولا :

1 ـ  إطمئن .. فانت على الطريق الصحيح ، ومجتمعك هو الفاسد . لو كنت فى مجتمع نظيف كنت ستأخذ حقك ومكانتك .

2 ـ الثقافات الدنيوية تختلف . فى المجتمع الديمقراطى الحُرّ تنتعش المواهب وتلقى التشجيع ، والانسان الصادق الأمين يحظى بالاحترام وينجح فى حياته . ومن يفشل مرة يقف الى جانبه المجتمع ويعطيه فرصة أخرى كى ينجح . والانسان المصاب بعاهة تتفتح له الأبواب للتوظيف بما يناسب إمكاناته .

3 ـ فى المجتمعات الاستبدادية يسود الفساد مع الاستبداد ، ويقوم الناس بالتكدير على بعضهم بعضا ، كل من له جزء من السلطة يتسلط بها على من هم أقل منه ، وفى نفس الوقت يتلقى الظلم ممن هو أعلى منه ، ويتزلف للأعلى منه بينما يتجبر على الأقل منه .

4 ـ فى هذا المجتمع الفاسد يفلح المنافقون والفاسدون والمهرجون والطبالون وأنصاف البشر وأشباه الرجال ، تراهم ( الأسياد ) أو ( الملأ ) المتحكم فى الحكومة وفى العسكر وفى الأمن وفى القضاء وفى التعليم وفى الأعلام وفى المجال الدينى . ولأنهم لا حظ لهم فى العلم ولا حظ لهم فى القيم العليا فهم خبراء فى النفاق والتطبيل للحاكم ، ويتنافسون فيما بينهم تزلفا للمستبد ، ويتّحدون فى نفس الوقت إذا ظهر إنسان طاهر مستقيم عالم مجتهد . وجوده يكون خطرا عليهم ، لذا يحاولون سحقه ودفنه حيا لو إستطاعوا ، ولا يستريجون حتى يصمت أو يهاجر أو يموت . لا بد أن يختفى هو لكى يستمروا فى فسادهم .

5 ــ فى هذا المجتمع المريض الموبوء تنقلب الأوضاع ، فاللص الحرامى الذى يأكل أموال الناس بالباطل يصبح هو الفائز ، وهو الذى يحترمه الناس ، لأن الاعتبار هو للمال دون السؤال عن مصدره . الغنى وصاحب النفوذ هو الشريف مهما كان خسيسا حقيرا . أما الانسان الشريف الذى يأكل لقمته بالحلال فلا بد أن يكون فقيرا ، ولهذا فهو  عندهم فاشل ، وهو فعلا يفشل فى السير على طريق الفساد ، وحتى لو أراد أن يفسد بعد مسيرة من الصلاح والضمير فلا يمكن أن يأمنوا له . وبمقدار ملفات الفساد والسرقات والجرائم لدى أحدهم يتم تصعيده ، لأن رأس النظام الفاسد يراه تحت السيطرة ، وفى أى وقت يمكن تهديده بملفات فساده وجرائمه . الانسان الشريف لا توجد له ملفات فساد ، ولهذا فهم ليسوا بحاجة له وهم أساسا لا يثقون فيه ، فلا بد من حصره فى دائرة لا يترقى ولا يصعد ، أى لا بد أن يكون خائبا فى ثقافة هذا المجتمع الفاسد .

6 ـ هذا فى الدنيا ، فى المجتمعات الديمقراطية صاحبة الشفافية ، وفى المجتمعات الفاسدة التى يحكمها المستبد والملأ .

ثانيا :

1 ـ يختلف الوضع فى الآخرة .

2 ـ الفائز هو من يتزحزح عن النار ويدخل الجنة ، قال جل وعلا : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) آل عمران ) فأصحاب الجنة هم الفائزون ، قال جل وعلا :: ( لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) الحشر ) ، والمتقون هم أصحاب الجنة الفائزون ، قال جل وعلا :: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (52) النور )

2 ـ الفائزون المفلحون ليسوا بمجرد الايمان ، إذ ليس كل المؤمنين سيدخلون الجنة . لن يدخلها من المؤمنين إلا المفلحون الموصوفون فى قوله جل وعلا : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) المؤمنون ) هؤلاء هم الذين يرثون الفردوس ، قال جل وعلا بعدها : ( أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) المؤمنون  )

3 ـ ومن أوصاف المفلحين أن ميزان أعمالهم الصالحة يثبت فلاحهم ، قال جل وعلا : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)  الاعراف )، وقال جل وعلا : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) المؤمنون )

4 ـ أما الخاسرون فى الآخرة فهم الخالدون فى النار الذين خسروا فيها أنفسهم وأهاليهم ، قال جل وعلا : ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) الزمر ) ، (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)الشورى ).

5 ـ  الأشد خسارة أو ( الأخسرون ) هم دعاة الأديان الأرضية وأئمة الكهنوت الذين يكذبون على الله جل وعلا ويصدون عن سبيله ، قال جل وعلا : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22) هود )

ثالثا :

1 ـ كما يتهمونك بالخيبة والخسران فإن الملأ الكافر إتهم المؤمنين بالخسران ، وهكذا قال الملأ من قوم شعيب للمؤمنين : ( وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ )الاعراف 90 ) ، وأهلكهم الله جل وعلا ووصفهم الخسران ، قال جل وعلا : ( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۚ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ) الاعراف 92 )

2 ـ والخيبة من مرادفات الخسران . والله جل وعلا وصف الكافرين بالخيبة ، قالها جل وعلا عن كل الكفار فى الأمم السابقة : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) ابراهيم 15 ) ، وقالها موسى عليه السلام لمن إفترى على الله جل وعلا كذبا : ( قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ ) طه 61 ) ، وقالها جل وعلا عن كفار العرب فى عهد خاتم النبيين عليهم جميعا السلام:( لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ ) آل عمران 127 )، وقالها جل وعلا عن عموم البشر الضالين الذين لا يفلحون فى تزكية أنفسهم بالتقوى:(وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا )الشمس 10 ) . ويوم القيامة سيكون خائبا من حمل ظلما ، ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) طه 111 ).

أخيرا

يابنى العزيز :

1 ـ لا تحزن ولا تبتئس بما يقولون وبما يفعلون . هناك مثلك كثيرون يتمسكون بالفضائل ومن اجلها يلاقون المتاعب . وكل متاعب الدنيا وعذاباتها وقتية وزائلة ، ودائما بعد العُسر يُسر . مهما كانت الخسارة فى الدنيا فهى وقتية ويعقبها تعويض ، والناس تتقلب بين صحة ومرض وغنى وفقر و محنة ومنحة وعزة وشقاء . والله جل وعلا قال : (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) (140) آل عمران ).

2 ـ كل أنواع الخسارات فى الدنيا مقدور عليها . خسارة الآخرة بالخلود فى النار هى الأفظع ، ومعناها أن تخسر نفسك ، وليس مجرد مالك أو صحتك . أن تخسر نفسك بعذاب خالد لا تموت فيه ولا تحيا . هذا هو الذى يجب أن نتمسك بالتقوى حتى ننجو منه .  قال جل وعلا : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) الزمر). لا تغضب منهم ، بل إحزن عليهم ، لو ماتوا بما هم عليه فالخلود فى النار ينتظرهم . 

3 ـ أولئك الذين يتندرون عليك يعلمون فى قرارة أنفسهم أنك على الحق ، وفى قرارة أنفسهم يحترمونك ، ولكن دفاعا عن أنفسهم يهاجمونك جحدا للحق وليؤكدا لأنفسهم بالباطل أنهم على صواب .

4 ـ عليك أن تستعين على كل شىء بالصبر والصلاة ، إذا فعلت كان الله جل وعلا معك ، قال جل وعلا :  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) البقرة ) .

5 ـ لو إعتزلك البشر جميعا ولو أصبحت منبوذا منهم جميعا فصبرت وإستعنت بالصلاة وأخلصت قلبك لله فستكون فى ( معيّة ) الله جل وعلا لأنه جل وعلا ( مع الصابرين ) . وليس هناك أعظم ولا أرفع من أن تكون فى ( معية ) الرحمن جل وعلا ، وهو القائل : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) النحل ) .

6 ـ ودائما : صدق الله العظيم .!!

اجمالي القراءات 5756