أين ذهبت روح المصرييـــــن؟
الــــبــــحــــث عــــن مــــصــــر!

محمد عبد المجيد في الجمعة ٢٢ - ديسمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

 

لماذا اختفت في مصر المشاعر الوطنية الجياشة والتي ظهرت خلال 18 يوما في ثورة يناير ثم نامت مرة أخرىَ؟

لو أنني نشرت كليب غنائي أو قصيدة ثورية وطنية كانت تحرك الملايين فلن تحرك الآن شعرة من موضعها؟

هل ثورة شبابنا أخذت معها روح المصريين و .. رحلت؟

 

لماذا لم يعد المصري قادرًا على شحن قلبه وعقله وصدره ونفسه بعواصف الغضب ضد الظلم والقهر والوجع والألم والفقر والذُل والمهانة والقمع والكبــت؟

كيف سُرقت الحياة من شعبنا وتُركت الأجساد تتحرك وتأكل وتشرب وتُضرَب وتُعذَب وتُسرَق وتُنهَب، ثم تصمت وتخرس وتخيّط شفتيها، وتسدّ أذنيها وتُغمض عينيها؟

 

ماذا حدث في النفس المصرية خلال سنواتٍ سبع كان يمكن أن ترفعنا لسماوات سبع فخسفت بنا للأرض السابعة؟

 

فلنكن صرحاء!

لماذا لجأنا إلى البلادة والتناحة والبرود والجمود وقد كنا على مشارف صناعة الأرض الجديدة، وانطلقت مصر بالثورة والغناء والموسيقى والتنوير والتسامح القبطي/الإسلامي والإرادة ونضجَ شبابُها ثلاثين عاما في عدة أيام، وأدهشنا الدنيا، وخرج فلذات أكبادنا إلى الشوارع ينظفونها، وإلى الفنون يمنحونها ثراءً لم تعرف مثله من قبل؟

 

لماذا قام شباب مصر بتسليمها إلى اللصوص والنهّابين والمجرمين والحشاشين والوصوليين والغشاشين والكذابين والكوهينيين والطائفيين والمزايدين في الدين والوطنية؟

لماذا وافق كل رؤساء مصر بعد الثورة الينايرية المباركة على مدّ الروح في إعلام صرصاري، متخلف، أحمق، غوغائي، جاهل، متطرف تبدو القردة أمامه كأنها قمة التطور والتحضر والتمدن؟

 

لماذا تحولت مواقع التواصل الاجتماعي القادرة على القيام بثورة مرة في كل يوم إلى حالة جُبن وخوف ورعشة وتردد وتراجع فلم تعد مجتمعة قادرة على تخويف فأر ميّت أو أرنب مريض أو .. ضفدع يحتضر؟

ماذا حدث في النفس المصرية فخلط فيها الدين والسياسة والطائفية والعسكرية والمباركية والطنطاوية والمرسية والسيساوية فتكون من هذا الخليط موكب يخاف من ظله، ويخشى هراوة رجل أمن نائم أو متلصص أعمىَ؟

 

كل دول الجوار قادرة على أن تلتهم جزءًا من أرض الكنانة وستجد مئة تبرير وأعذار كأننا وضعنا كل طاقاتنا وإيماننا ووطننا وتاريخنا وتراثنا وحضارتنا بين يدين تصفّقان للحاكم قبل النوم و.. بعد الاستيقاظ!

الحاكم لا يحتاج للعصا ليهش بها علينا، فكل واحد منا يمسك عصاه ويهوي بها فوق ظهر ابن بلده لأنه يختلف معه فكريا ودينيا ومذهبيا وأيديولوجيا وطبقيا.

 

نحن نحتاح لملايين من علماء النفس لتشريح الشخصية المصرية ما بعد يناير، وتصفية الشوائب منها، وتطهير النفوس التي تعجّ بكراهية الآخر والصديق والجار والقريب والبعيد والمغترب والمهاجر.

فقدنا الصبر على المتابعة والقراءة والتحليل والتصويب والمعلوماتية وحمل سلاح المعرفة في هموم وقضايا الوطن.

فقدنا الثقة في الجبة والقفطان واليونيفورم والزببية واللحية والنقاب والنسر والصقر والنجمة، ما عدا النجمة السداسية فهي على الأبواب.

 

فقدنا الثقة في التفويض والوعود والبيانات والبرلمان والرئاسة والوزراء والمحافظين.

فقدنا الثقة في التخطيط الجيد والإداري وفي نقطة ضوء في نهاية نفق التعليم والعلاج والدواء والأسعار والعدالة والثقافة.

فقدنا القدرة على الأحكام الصائبة ويمكن لأي حمار أن يُقدّم مشروعا أو يشرح فكرة أو يمسك بالميكروفون أو يخترع علاجا لفيروس فتهلل له الدولة وينسحب المتخصصون والعلماء والمكتشفون والمخترعون.

 

فقدنا القدرة على جعل الدين من أجل الدنيا فرحبنا به للآخرة فقط، ولا مانع من جعل أجهل الدعاة بديلا للمعامل ومعاهد البحث العلمي واكتشافات الفضاء، فالدرويش قبل الأكاديمي، والعطار فوق الصيدلاني، والعُشْْبي يتفوّق على الطبيب.

فقدنا القدرة على التعايش اليساري في أحضان اليميني، والمسلم في الكنيسة والقبطي في المسجد والمواطن بغير خانة الديانة.

فقدنا القدرة على إقناع الذي فوضنا أن يفرج عن أبنائنا وأشقائنا وآبائنا وزملائنا المحرومين من حق الحياة ومن العدالة، فألقي بهم في أقبية السجون، وصاحبُ الأمر الأول والأخير يؤمن ويعتقد ويظن أننا جميعا ولاد كلب، يسجن من يشاء، ويعذب من يشاء، ويفرج عمن يريد.

 

فقدنا القدرة على النباح الإنساني كالكلاب النبيلة، والصراخ، والزعيق، واللطم، والبكاء فلو زفرنا لطار القصر، ولو شهقنا لابتلعنا الفاسدين كلهم.

فقدنا القدرة على استنساخ زعامة وقيادة ورئاسة من خلال انتخابات نزيهة وغير معروفة نتائجها مسبقا، فحدث العكس وتم تعييننا في مهمة خدم وعبيد ترشح المرشح قبل أن يفكر بنفسه في تجديد ولاية رفضها عندما كان داخل الملابس العسكرية، فلما تدفأت مؤخرته بكرسي العرش طالبناه، قبل أن يطلب، بفترة ثانية وثالثة وعاشرة حتى يكبر أحفاد الينايريين.

 

فقدنا القدرة على مقياس الوطنية، وكل من يرفع سبّابته ووسطاه ويهلل بتحيا مصر يصبح في جانب الرئاسة حتى لو كان قوادًا أو حشاشا أو لصا أو مهربا.

فقدنا القدرة على الشجاعة الأدبية والأخلاقية والإنسانية والوطنية التي تجعل المواطن يضع أصابعه في عين الحاكم إذا كذب أو فشل أو تحايل أو أساء اختيار المسؤولين.

فقدنا القدرة على الإيمان بالقلم وما يسطرون، والكلمة وما يكتبون، وصبر أيوبنا يغشى عليه في السطر الثالث فنحن في دولة ترفع الجاهل والفاشل والفاسد والمدّاح والأفـّاق والأفـّاك حتى لو أراد أن يصبح إعلاميا أو مربيا أو محافظا أو برلمانيا أو مستشارًا.

 

فقدنا القدرة على تحمل محاسبة مواطن لرئيسه، فالسُخرة ليست فقط في بناء الأهرامات أو شق النيل، لكنها ركوع النفس الضعيفة وسجودها الضمني للكبار مقابل العيش في سلام خادع.

لأكثر من أربعين عامـًـا وأنا أقنع جهازي العصبي بالخمود والجمود طمعا في الخلود، فإذا به ينفجر ليؤكد للضمير أنني مازلت حيــًــا.

 

يقولون لي: لماذا تكتب وأنت تعلم أن قارئيك يتراجعون عددا واهتماما ومتابعة؟ وأرد بأنني أكتب لآخر شخص يقرأ لي حتى يموت أحدنا.

ليست مهمتي إيقاظ الملايين؛ إنما إقناع واحد فقط أن مصر بخير، وأنه، أي هذا الواحد، بداية نبتة يتيمة حتى لو ذهبت الرياح بكل نباتات الأرض.

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

أوسلو في 22 ديسمبر 2017

اجمالي القراءات 9044