خرافة تلبس الجن للإنس
خرافة دخول الجان لجسم الإنسان

ياسين ديناربوس في الجمعة ٠٨ - ديسمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الإعتقاد بمسؤولية الأرواح الشريرة عن إصابة الإنسان بالأمراض ضارب في عمق التاريخ و ما قبل التاريخ.. فقد كان كهنة القبائل البدائية يمارسون طقوسا معينة و يقدمون القرابين بغية طرد هذه الأرواح الشريرة من أبدان البشر..
 
وتحدثنا كتب الحضارات الغابرة عند الفراعنة والهندوس والفرس والبابليون وغيرهم عن تحدي السحرة و العرافين للشياطين و أمرها بالخروج من أجسام المرضى عن طريق التعاويذ و البخور و الأدعية و الصلوات.. و قد انتشرت فكرة نقل الجن للطاعون بين الناس في العصور الوسطى.. في حين تبنت الكنيسة مهمة طرد الجن و الأرواح الشريرة من أجساد المرضي امتدادا لما يعتقد أن سيدنا عيسى عليه السلام كان يفعله..
 
أما في شبه جزيرة العرب فقد حمل الإعتقاد بتلبس الجن للإنس علي السلب والإيجاب.. و كان عرب الجاهلية يعتقدون أن الجن يسكن وادي ( عبقر ) و منه اشتقت كلمة عبقري لأنهم اعتقدوا أن عباقرة الشعراء مسكونون بالجن و أن هذا الأخير يلهمهم فيما يبدعون من الشعر..
 
و تستحضرني هنا كلمة [ جينيوس: genius ] الإنجليزية التي تعني عبقري...
 
و إذا كنا نقبل وجود خرافة تلبس الجن للإنس في ميثولوجيا الحضارات القديمة نظرا لمحدودية السقف المعرفي آنذاك و عجزه عن تفسير الأمراض بمنهجية علمية، فنحن لا نجد مبررا لإستمرار الإعتقاد بهذه الخرافة اليوم.. لا سيما أن الطب النفسي و العصبي المعاصر أصبح قادرا علي تشخيص و علاج معظم الأمراض التي فسرها الأقدمون علي أنها دخول جن لبدن إنس..
 
نحن كمسلمون نتفق بإجماع مطلق علي وجود الجن لكونهم ذكروا صراحة في القرآن الكريم، لكن الخلاف الحاصل يكمن في إمكانية تلبس الجن للإنس.. هذه الخرافة التي شاع الإعتقاد بها في العالم الإسلامي و التي تكاد تكون شبه معدومة في دول العالم الأول..
 
غير أن عددا من الفقهاء و العلماء المسلمين أنكروا إمكانية دخول الجن لجسم الإنسان و أكدوا استحالة التلبس المزعوم و لهم في ذلك مستندهم من القرآن والسنة.. نذكر منهم علي سبيل الذكر لا الحصر: 
 
الإمام الفخر الرازي، الإمام الشوكاني، الشيخ محمد عبده، القاضي عبد الجبار الهمداني، القاضي أبو يعلي الجبائي، جمال الدين الأفغاني، أبو حامد الغزالي، الشيخ بن عاشور، القفال و البيضاوي من الشافعية، الشيخ محمد شلتوت، الشيخ جاد الحق و الشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليهم جميعا...
 
كما أن طائفة من العلماء و المفكرين المعاصرين عبروا صراحة عن استحالة تلبس الجن للإنس غير عابئين بمن وصفهم بالزندقة و الكفر..
 
من وجهة نظر، قرآنية يستدل القائلون بجواز دخول الجن لبدن الإنس بقوله تعالى:
 
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون }َ [ 275: البقرة]
 
و لو تأملنا الآية الكريمة قليلاً لاتضح لنا فوراً أن استخدامها كدليل علي التلبس لا يعدو أن يكون تلاعبا بالألفاظ و لي لعنقها.. 
 
و بيان ذلك أن الآية تتحدث عن الذين يأكلون الربا بالتخصيص و لا أجد ما يبرر إطلاقها علي جميع الناس إلا إذا كان الجميع آكلوا ربا.. 
 
و من جهة أخرى فإن أغلب المفسرين اتفقوا على أن الآية تصف حالة المرابين عند بعثهم يوم القيامة، فهل يحق لنا إسقاط أحداث الآخرة علي الحياة الدنيا ؟
 
ناهيك عن أن إقرار تلبس الجن للإنس من خلال هذه الآية يعني أن كل من يأكل الربا يدخل فيه جن.. و هذا ما لا نجد له مصداقية في أرض الواقع !
 
و إني لأتسائل: كيف يستبيح بعضهم الترادف في القرآن الكريم ؟ بل إن شئنا الدقة: كيف يسمحون لأنفسهم ببساطة أن يعتبروا كلمة (مس) تعني ( تلبس ) ؟ 
 
دقة القرآن الكريم في استخدام المفردات لا تخفى على أي دارس لكتاب الله،.. و قد جاء استعمال كلمة ( مس ) في التنزيل الحكيم بمعنى حدوث أمر ضار أو نافع كما في قوله تعالى:
 
{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين َ} [ 140: آل عمران ]
 
و قوله عز و جل:
 
{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ٌ} [17: الأنبياء ] 
 
أو بمعنى الإتصال الجنسي مثل ما جاء في قوله تعالى:
 
{ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [47: آل عمران ]
 
أو بمعنى اللمس كما جاء في قوله عز وجل:
 
{ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُون }َ [ 79: الواقعة ]
 
لا توجد إطلاقا كلمة ( مس ) في أي موضع في كتاب الله بمعنى دخول جسم الممسوس..
 
في المقابل استخدم التنزيل الحكيم لفظا يدل على الإدخال أو الإيلاج في قوله تعالى: 
 
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [ 32: القصص ]
 
بمعني: أدخل يدك في جيبك.. و لم يقل ( مس يدك في جيبك )
 
وبالعودة إلي الآية 275 من سورة البقرة فإن التأويل الراجح في اعتقادي – كما هو رأي جمهور المفسرين – أن الآية الكريمة تصف الحالة النفسية لآكلي الربا ساعة يبعثون يوم القيامة و تجسد معاناتهم النفسية المريرة نتيجة جدلية الطاعة و المعصية المتمثلة في اعتقادهم أن الربا حرام و انصياعهم في نفس الوقت لجشعهم و أكل المال الربوي...
 
أما من يصر علي تفسير (يتخبطه الشيطان من المس) علي أنه تلبس الجن، فعليه أن يحل معضلة اعتقاده اضطرادا أن نبي الله أيوب عليه السلام كان يتلبسه الجن أيضًا و ذلك قياساً علي قوله تعلي:
 
{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَاب }ٍ [ 41: ص ]
 
فإذا بلغت المكابرة عند المروجين للخرافات حد القول بدخول جني في جسد نبي من المرسلين فنحن ننزه كل الأنبياء والرسل، لا بل و سائر البشر.. ننزههم عن أن تلحقهم هكذا إهانة.. ! تصديقا لقوله عز وجل:
 
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } [ 70: الإسراء ]
 
فكيف يكرم و يفضل الانسان والجن يتحكم فيه؟!…
 
ربما يحق لنا التساؤل – استنكاريا و ليس استفهاميا -: هل يتناسب وصف كيد الشيطان بالضعف كما في قوله عز من قائل: 
 
{ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [ 76: النساء ] 
 
مع ما يزعمه المعتقدون بالتلبس و بقدرة الجن علي السيطرة على جسم الإنسان و تحريكه و قوله ما يشاء علي لسانه.. !
 
و يجيبنا القرآن الكريم علي هذا التساؤل بتحديده لطبيعة العلاقة بين الشيطان و الإنسان و توضيخ كونها مجرد دعوة للكفر و المعاصي، لا تتجاوز في حقيقتها حد الوسوسة فقط !.. و ذلك مصداقا لقوله تعالى: 
 
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [ 48: الأنفال ]
 
{ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين َ} [ 39: الحجر ]
 
{ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس } ِ[ 5 ؛ 6: الناس]
 
{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [ 20: الأعراف ]
 
و الملاحظ أن الوصف القرآني لماهية العلاقة بين الشيطان و الإنسان لم يخرج إطلاقا عن كلمات من قبيل ( زين )، ( غوي )، ( وسوس )…
 
و لا نجد أبداً في هذا الوصف الذي نؤمن أنه تبيان لكل شيء – لا نجد فيه – كلمة ( تلبسه الشيطان ) أو ( دخل فيه الجن )…
 
حتي أن إبليس إبان أكبر مهمة شيطانية له ضد الإنسانية جمعاء – في إغوائه لآدم و زوجه لإخراجهما من الجنة – لم يتلبس آدم لإجباره علي فعل المعصية ؛ و المنطق السليم يقضي أن يكون لعنه الله قد استخدم أقوي أسلحته و أشدها فتكا في حادثة بهذا الحجم من الأهمية.. غير أنه و كما تؤكد آيات التنزيل الحكيم لم يتجاوز في عمله الوسوسة، و لم يتلبس آدم و لا زوجه !
 
عمدة الأدلة القرآنية التي تجتث خرافة تلبس الجن للإنس من جذورها هي قوله تعالى:
 
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [ 42: الحجر ]
 
و هذا ما يقره الملعون بتبرؤه من أتباعه يوم القيامة في قول الحق تعالى:
 
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ 22: إبراهيم ]
 
و هنا يتضح جليا أن الإعتقاد الخرافي بقدرة الجن علي التحكم في إرادة الإنسان و إجباره علي ترك الطاعات و فعل المعاصي إنما مصدره الجهل بالقرآن الكريم الذي بين حقيقة قدرة الشيطان و أكد بما لا يدع مجالاً للشك أن أقصي ما يمكنه فعله هو الوسوسة فقط و أنه ليس له سلطان على البشر !!!
 
و هذا عين المنطق و العدالة الإلهية في الحساب يوم القيامة..
 
ما سبق من الآيات القرآنية يكفي لنسف وهم التلبس عند أي مؤمن بالقرآن الكريم ! 
 
حتي علي مستوي السنة النبوية الشريفة لا يوجد أي دليل صريح علي إمكانية دخول الجني جسم الإنسان، اللهم بعض التأويلات لبعض الأحاديث التي تقبل العديد من المعاني أو بعض الأحاديث الضعيفة التي لا تصح عند أهل الأثر و الحديث..
 
ومن الاحاديث الصحيحة التي يستدلون بها حديث ورد في صحيح البخاري و هو كما يلي:
 
■ عن صفية بنت يحيى رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً فحدّثته، ثم قمتُ فانقلبت، فقام معي ليقلبني -وكان مسكنها في دار اسامة ابن زيد رضي الله عنهما-، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي -صلى الله عليه وسلم- أسرعا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( على رسلكما، إنها صفية بنت حيي )، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، فقال: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذف في قلوبكما سوءا -أو قال شيئا– )
 
هذا أبرز حديث يستغله المروجون للخرافات من أجل إقناع العامة من الناس أن التلبس حقيقة، إذ يتم اقتطاع الحديث من سياقه و تحميله ما ليس فيه و منه.. و الواقع أن هذا الحديث ليس فيه أي دليل على دخول الشيطان لجسم الإنسان.. و أي ملم باللغة العربية يفطن بسهولة إلي أنه حديث يفهم بلازم المعنى ؛ و فحواه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد تحذير الأنصاريين من إغراض الشيطان و وسوسته التي قد تسري في الإنسان مجري الدم في العروق – و هو تشبيه علي المجاز – حتي لا يذهب الظن الشيطاني بهما إلي الإعتقاد أن معه امرأة أخري غير صفية بنت حيي – حاشاه من الزلل -…
 
إن الإعتقاد بقدرة الجن علي التحكم في أجسام الناس و السيطرة على حركاتهم و أقوالهم يشكل خللاً كبيرا في منظومة العقيدة الإسلامية ؛ فلو صح أن الجن يقهر الإنسان علي فعل المعصية أو يثبطه على الطاعة لكان مشاركا لله في القدرة علي الهيمنة و قهر العباد و جبرهم علي ما يشاء و هذا عين شرك الربوبية...
 
و لو كان الجن يمتلك فعلا هذه السلطة لبطل التكليف الذي يقتضي حرية الإختيار و لقبلنا أن يدعي السارق أن الشيطان حمله علي السرقة أو أن تقول الحامل من سفاح: زني بي الشيطان... !
 
و جدير بالذكر في هذه المسألة – حتي يطمئن قلب هواة الفتاوي و من لا يتحركون قيد أنملة دون أقوال الشيوخ – أن غالبية علماء المسلمين يتفقون علي أن القائل بجواز المس والقائل بعدم جوازه لا يكفر ولا يفسق لأنه ليس من المعلوم من الدين بالضرورة فهو شىء غير محسوس لعوام الناس ولا يوجد عليه دليل قطعي الدلالة..
 
تعتبر الأدلة الظاهرة و المادية التي يستشهد بها الناس علي تلبس الجن أكثر البراهين صلابة في تأييد وهم دخول العفاريت لأبدان البشر..
 
فالعقل في نهاية المطاف مجبول علي تصديق ما تراه العين و ما تسمعه الأذن...
 
الأعراض التي نشاهدها عند من يوصف بتلبس الجن أعراض مرضية لا يمكن المرور عليها مرور الكرام..فالمتلبس – المزعوم – غالبا يكون شخصا غريب الأطوار و الهيئة، تنتابه نوبات من الغضب الهستيري فيثور و يؤدي كل من حوله، و قد تعتريه تشنجات عضلية مفاجئة تتسبب غالبا في التوائات جسدية، يصاحب ذلك تلفظه بكلمات بذيئة و نابية و ربما تكلم لغة أجنبية أو غير مفهومة، بل أبعد من ذلك قد يتحول صوته من صوت رجل إلي صوت امرأة أو العكس..
 
و معلوم عن من يدعي التلبس أنه يتأثر عموماً بشكل واضح عند سماع القرآن الكريم و تخيفه الرموز الدينية..
 
و السؤال الذي يطرح نفسه بخط عريض: ما هو تفسير هذه الظواهر الغريبة ؟؟؟!!
 
في مجتمعات الجهل و الانحطاط المعرفي الجواب السهل و الجاهز هو: تلبس الجن للإنسان !
 
و هذا ليس غريباً و لا جديداً إذا علمنا أن الإنسان القديم كان يعتقد أن أمراضا عضوية مثل البرص و الجذام سببها غضب الآلهة أو الأرواح الشريرة.. و ما الإعتقاد بالتلبس إلا صورة معاصرة لهذا الوهم الأسطوري..
 
أما عند الراسخين في العلم، فالجواب هو: 
 
كل هذه الظواهر الغريبة ما هي إلا أعراض لأمراض عقلية و عصبية و نفسية تمكن الطب و العلم الحديث من تشخصيها و تصنيفها و ابتكار أساليب لعلاج معظمها...
 
لنكن متفقين أن حركة وتفكير كل البشر محكومان تماماً عن طريق جهازهم العصبي، و عندما يحصل خلل في الجهاز العصبي بينتج عنه خلل عقلي واضطرابات نفسية..
 
و لا بأس بذكر بغض الأمراض و أعراضها النفسية والعصبية أو العقلية التي يتم تفسيرها في مجتمعنا علي أنها تلبس جن:
 
 مرض الصرع [ Epilepsy ]:
 
يتحول شكل الأشياء وطعمها ورائحتها وملمسها في نظر المريض، كما يحس بالوخز، والدوخة، و يتخيل رؤية أضواء لامعة. 
 
و تنتابه نوبات من الصرع يحدث خلالها تشنج في العضلات يؤثر على عضلات الظهر والأذرع والرجل و يفقد التحكم في العضلات و يسقط على الأرض.. و قد يكرر حركة معينة بشكل إيقاعي، غالباً في عضلات الأيدي والأرجل والوجه..
 
 متلازمة توريت [ Tourette syndrome ]:
 
يستخدم المريض الصوت بنبرات مختلفة و يصدر أصواتا لا إرادية (غالباً ألفاظ بذيئة أو صراخ) و يرافق ذلك حركات عصبية لا ارادية في العين، واليدين، وعدم القدرة على الحديث بشكل متصل..
 
و يتسم بقلة انتباه، وضعف التركيز و نوبات من الغضب المفاجئ.. و يميل إلي تكرير كلامه، أو الكلام الموجه له، أو حركات الناس من حوله..
 
 مرض الفصام [ Schizophrenie ]:
 
المريض يفتقد إلى البصيرة والاتصال بالواقع وتتكون لديه معتقدان خاطئة أو توهمات قد يكون منها انه نبي مرسل لهداية البشرية أو ملك أو أن جنياً يسيطر على جسده ويتحكم في حركاته وتصرفاته.
 
وقد تنتابه هلاوس سمعية أو بصرية يدرك معها أشياء لا وجود لها. 
 
بعض المرضى يظهرون أجسادهم في أوضاع غريبة وشاذة لفترات طويلة.. و قد يدخل المريض في حالة غيبة لا يتحرك أثناءها ولا يستجيب لأي مؤثر خارجي، أي حالة سكون بدني كامل.. أو حالة إثارة هوجاء قد يدمر خلالها المريض أو يؤذي من حوله.
 
 اضطراب الوسواس القهري [ obsessive compulsive Disorder ]:
 
يعاني المريض من وسواس علي شكل أفكار أو صور ذهنية أو نزعات مكررة ومستمرة يعيشها من آن لآخر و تفرض نفسها على المخ المصاب الذي يحاول تجاهلها أو كبتها أو تحييدها بأفكار أخرى أو أفعال بدون جدوى وهو يدري أنها من نتاج ذهنه مما يسبب حالة قلق وكرب شديد
 
 الهستيريا [Hysteria]:
 
 يتميز المريض بردود الفعل المبالغ فيها اتجاه المؤثرات المختلفة و فقدان حواس الرؤية والشم والشعور عن طريق الجلد و تتغير هذه الأعراض بالإيحاء..
 
الهوس و الذهان الإكتئابي [ Depressive Psychosis ]:
 
هو اضطراب انفعالي حاد يتسم المريض به بسوداوية المزاج، ويرى حياته سلسلة متواصلة من الفشل ويشعر باليأس. يعتزل الناس ويظن أنهم يتآمرون عليه ليقتلوه، ويكتسي وجهه بقناع جامد من الحزن محملقاً في اللاشيء لساعات ولا يحادث أحداً، وقد يحدث العكس فيصرخ ويهيج. وتنقطع شهيته للطعام ويعزف عنه تماماً ويتناقص وزنه سريعاً. وربما يهمل نفسه ومظهره فلا يهتم بنظافته وتسريح شعره وحلاقة ذقنه،ينام اول الليل ثم يصحو مؤرقاً يفكر في الانتحار وقد يحاوله فعلاً فعل ذلك..
 
قائمة الأمراض النفسية والعصبية أطول من أن تعد أو تحصي و تختلف أسبابها بين بيولوجية و سيكولوجية و بيئية ؛ فقد يكون المرض النفسي نتيجة إستعمال الكحول و العقاقير المهلوسة أو بسبب اعتداء جنسي أو بدني قاس في مرحلة الطفولة أو بتأثير الفقر و الحرمان و السكن غير اللائق.. إلي غيرها من مسببات الأمراض النفسية و التي يتم تفسير معظمها – للأسف – في دول العالم الثالث علي أنها تلبس جن أو تأثير للأرواح الشريرة...
 
يؤكد العالم الأمريكي جورج ملر [ George Armitage Miller ] و هو أحد مؤسسي علم النفس المعرفي، أن العقل اللاواعي بإمكانه استيعاب ما يزيد عن 2 بليون معلومة في الثانية !
 
و إذا علمنا أن العقل الباطن يقوم بتخزين كل ما يمر علي الإنسان في حياته من أحداث و أصوات و صور ذهنية في العقل اللاواعي، نفهم عندها كيف أن بعض حالات الإضطراب النفسي الشديد قد يتكلم خلالها المرضى لغة أجنبية غريبة، و في ظل سابق معرفة من المحيطين بالمريض بعدم إجادته لهذه اللغة الأجنبية لا يجدون مفرا من الإعتقاد بأن جنيا يتكلم بلسان الممسوس.. بينما حقيقة الأمر أن العقل اللاواعي لهذا الأخير هو من يتحدث باستخدام لغة تم تسجيلها لا شعوريا في الماضي..
 
و ما يؤكد هذا التحليل هو أننا لو حاولنا إجراء حوار مع المريض بهذه اللغة الأجنبية سيتضح لنا أنه لن يتمكن من تبادل الحديث بشكل منطقي و سيكتفي بترديد ما تم حفظه سابقاً في العقل اللاواعي بشكل اعتباطي..
 
في نفس السياق و في إطار الإضطراب النفسي و العصبي الشديد، فإن الأطباء و المختصين في هذا المجال لا يتعجبون عند سماع رجل يتحدث بصوت امرأة أو العكس..
 
و علي عكس العوام من الناس فهم لا يسارعون بإلقاء التهمة علي الجن!
 
و ذلك لأنهم يأخذون بعين الإعتبار أن الإنسان يملك 300 ألف نغمة في صوته؛ أي أن إمكانية إخراج أصوات غير مسموعة من قبل واردة جداً عند المرضى النفسيين في ظل تواجد هذا الكم الهائل من النغمات الصوتية..
 
و خير مثال على امكانية تغيير الصوت هم الممثلون الذين يقلدون بإتقان أصواتا مختلفة نتيجة التدريب و الممارسة..
 
و قد يستوقفني سائل يستفهم: 
 
إذا كان الأمر لا يعدو أن يكون مرضا نفسياً أو عصبيا، كيف نفسر شفاء المتلبسين بالقرآن الكريم أو ما يكلق عليه “الرقية الشرعية” ؟!
 
و الجواب ببساطة يكمن في أن أي مرض نفسي تلعب فيه المعتقدات الفردية دورا كبيرا في التأثير علي كيمياء المخ الخاصة بالمريض و علي طريقة تواصل خلاياه العصبية مع بعضها.. و عليه، فإن البوذي و الهندوسي و المسلم و المسيحي و اليهودي.. كل من هؤلاء سيتحسن عن طريق الفكر و المعتقد الذي يؤمن أنه سيشفيه.. و في معظم الحالات يفشل العلاج أو يكون الشفاء مؤقت فقط..
 
و بالحديث عن الرقية و الرقاة لا يفوتني أن أشير إلى ذلك التناقض الصارخ بين تشنج المرضى عند سماع القرآن الكريم و بين قول رب العالمين:
 
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ 28: الرعد ]
 
و هذا إن دل علي شيء إنما يدل علي أن هؤلاء المرضى ربطوا في عقلهم اللاواعي بين سماع القرآن و بين ما يتعرضون له من ضرب و رفس و كي و تعذيب جسدي من طرف المعالجين الشعبيين و الشيوخ الذين يعتبرون سدنة خرافة تلبس الجن للإنس و الذين اتخذوا من هذه المهنة و سيلة للكسب الوفير و السريع...
 
كم سلبوا من الأموال... !
 
كم عنفوا من الأجساد... !
 
و كم استباحوا و هتكوا من الأعراض... !!!
 
إن أصبت فبتوفيق من الله و فضله، و إن أخطأت فمن نفسي.
 
هذه وجهة نظري وليس ملزوم بها كل من قرأ مقالي.
 
#مقالات_ياسين_ديناربوس
 
 

طط

اجمالي القراءات 32210