نماذج من النشر فى جريدة ( الأحرار ) فى إصلاح العسكر المصرى الوهابى الحاكم

آحمد صبحي منصور في السبت ١٩ - أغسطس - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

نماذج من النشر فىجريدة ( الأحرار ) فى إصلاح العسكر المصرى الوهابى الحاكم    

كتاب : نشأة  وتطور أديان المسلمين الأرضية.  ج 2 الوهابية

الباب السادس : جهادنا ضد الوهابية 

الفصل التمهيدى: نماذج من النشر فىجريدة ( الأحرار ) فى إصلاح العسكر المصرى الوهابى الحاكم    

مقدمة :

1 ـ العسكر المملوكى ( الأجنبى ) الذى حكم مصر فيما بين 1250 : 1715 ، كان متفقا مع ثقافة العصور الوسطى فى الاستبداد والتعذيب والفساد ، ولكنه رفع شأن مصر عاليا ، أعطاها مكانتها ، ووصلت الدولة المملوكية الى حدود العراق وجنوب تركيا الآن شرقا والى برقة ليبيا غربا ، وكانت تمتلك الحجاز ، وجعلت القاهرة عاصمة الخلافة ( العباسية ) وكان الخليفة العباسى ضمن حاشية السلطان المملوكى .!.

2 ـ العسكر المملوكى إرتفع بمصر عاليا فى العصور الوسطى بينما هبط العسكر المصرى بمصر منذ 1952 الى الحضيض ، ليس فقط فى هزيمة 1967 ، وفقدان سيناء ولكن جعل مصر تابعة للسعودية ـ وهى دولة بدوية مؤقتة قامت ثلاث مرات وسقطت مرتين ، وفى إنتظار سقوطها الثالث .

3 ــ ثم هذا العسكر المصرى الفاشل يوجّه قواته المسلحة نحو الشعب المصرى الأعزل ، ينهزم فى أى معركة فى الخارج سياسية أو عسكرية ولكن يواصل إنتصاراته على شعبه الأعزل ، ثم هو يتفوق على العسكر المملوكى فى الفساد وفى التعذيب فى عصر حقوق الانسان والديمقراطية والشفافية .

4 ـ لم تقتصر مقالاتنا على النقد بل قدمت الكثير من الاصلاحات ، منها سلسلة مقالات عن تعمير الساحل الشمالى بعنوان ( دعوة الى الهجرة من الوادى الضيق ) ضاعت مع الأسف . وكان التطبيق بتحويل الساحل الشمالى الى منتجعات للمترفين . الدعوة الى الاصلاح شملت الاصلاحات السياسية والخارجية والاعلامية والتعليمية . ونعطى نماذج من المنشور فى جريدة الأحرار .

المقال الأول :

( قال الراوى: إسماعيل والسودان ) منشور فى  ( الأحرار بتاريخ    21 يونيو 1993 م )

( 1 ــ فى عصر الخديوى اسماعيل ــ المفترى عليه  ــ امتدت  الحدود المصرية جنوبا إلى بحيرة فيكتوريا وحدود الحبشة ، وضمت مصر إليها سواحل الصومال وموانيها الهامة مصوع وزيلع ، بالإضافة إلى ما يعرف الآن بالسودان ، وقد قام الخديوى إسماعيل بتوسيع حدوده الجنوبية فى الصومال وعند خط الأستواء بحجة محاربة تجارة الرقيق ، ولكن النظرة المتعمقة فى تاريخ ذلك الرجل واصلاحاته وأفكاره تؤكد أن هدفه الحقيقى كان تأمين الحياة المصرية بالسيطرة على منابع النيل ، لذلك كان أمين باشا المكتشف الأوربى من أعوان إسماعيل باشا وواليه على مديرية خط الأستواء ، وصار السودان كله من الممتلكات المصرية ، وقبل الثورة كان لقب الملك فاروق هو ملك مصر والسودان ، وكان التأمين الإستراتيجى لمصر يعتمد على تقوية نفوذها ووجودها فى منابع النيل ، لأن النيل هو الحياة لمصر وبدونه تتحول مصر إلى صحراء جرداء ويتناقص ملايينها الخمسون إلى بضعة ملايين .

2 ـ وجاء الخطر الصهيونى فالتفتت مصر من الجنوب إلى الشرق ، وأعماها الخطر الإسرائيلى عن مجالها الحيوى فى الجنوب ، وواكب ذلك قيام الثورة ـ  بزعامة شباب فى بداية  الثلاثينات من العمر ــ  شهدوا بأنفسهم هزيمة الجيش المصرى فى فلسطين ، وجاءوا منها بالرغبة فى تغيير نظام الحكم ، ولذلك كان أخطر إنجاز للثورة هو فصل السودان عن مصر وضياع العمق الإستراتيجى لمصر فى الجنوب ، وتهديد وجودها بترك منابع النيل فى يد غيرها ممن يكون بيده تدمير الحياة المصرية إذا شاء ..

3 ـ ثم تفاقم الخطر بإنشاء السد العالى ؛ بالأكتفاء ببنائه دون الاهتمام بعلاج آثاره الجانبية، مع ما يعنيه ذلك من احتمال  تدميره ،  وإذا حدث ذلك ـ لا قدر الله ـ فسيغرق العمران المصرى كله حتى الإسكندرية ، ومن الخطورة أن تكون الحياة المصرية رهينة بذلك السد العالى ، وأن يكون ذلك السد العالي  فى متناول أى قوة معادية فى السودان .

4 ـ ومن أسف أن مشاكل مصر مع الشرق والغرب والشمال جذبت سياستها بعيدا عن الجنوب مصدر الحياة ، ومع ذلك فإن أصابع اسرائيل لا تزال تحيك المؤامرات لمصر فى أثيوبيا وجنوب السودان حيث منابع النيل ، وحاليا فإن أصابع ايران ليست بعيدة عن تهديد مصر فى مقتل من خلال علاقتها بالنظام الحاكم فى السودان ، وايران بعد تقزيم العراق لا ترى لها منافسا على زعامة المسلمين إلا مصر ، ولذلك تسللت إلى السودان الذى تركته مصر يبتعد عنها وتركت ظهرها مكشوفا عاريا لكل من أراد الكيد لها ..

5 ـ إن بضعة قنابل سامة توضع فى النيل كفيلة بمحو الحياة المصرية ، أقول هذا والألم يخنقنى على مصر أقدم وأعظم وطن فى العالم .. ولكن لا بد من هذا القول كى ننتبه إلى خطورة الوضع فى الجنوب ، خصوصا وأن القرن الحادى والعشرين القادم سوف يشهد حروبا تقوم بسبب الماء ، وستكون نقطة الماء أغلى من نقطة الدم أو نقطة النفط ، وعليه فإن مسألة السودان ومنابع النيل ينبغى أن تقفز إلى أولويات الأستراتيجة المصرية منذ الآن ، وينبغى أن تقوم على أسس محددة خارجيا وداخليا ، بالعمل فى داخل مصر على حماية السد العالى وتطويره وإنشاء مجرى مائى آخر يخترق الصحراء الغربية موازيا لمجرى النيل وفى صورة متعرجة ليروى أكبر كمية من الأرض ويقيم حولها مجتمعات حضارية جديدة تسهم فى تعديل الخريطة السكانية وتعديل الظروف المناخية والبشرية فى الواحات ، وفى نفس الوقت تسحب الطمى المترسب خلف السد وتخفف من الضغط عليه ، وتنقل ذلك الطمى الغنى ليبعث الحياة فى تربة الصحراء . وربما لا تصل تكلفة ذلك المشروع الحيوى إلى ما دفعناه فى بناء مترو الأنفاق وشبكات الصرف الصحى والكبارى فى القاهرة ، مع أن العائد الأقتصادى والهدف الاستراتيجى من إنشاء مجرى آخر للنيل فى الصحراء الغربية أكبر من أن يقدر بمال ..

6 ـ هذا من ناحية الداخل.  أما من الخارج فلا بد من إقامة علاقة وثيقة بالسودان بأى طريق حتى يعود السودان كما كان جزءا من مصر وشقيقا لها بدون أى حساسيات أو فوارق ، فعناصر التكامل البشرى والأقتصادى والسياسى بين مصر والسودان لا تحتاج إلى عبارات إنشائية ، ولقد جربت مصر مشاريع الوحدة مع غير السودان فما ربحت إلا الفشل لأنها مشاريع ( وحدوية ) على أسس من القصائد الشعرية ، أما وحدة النيل فإن عمرها يمتد منذ عهد حتشبسوت التى وصلت إلى الصومال والسودان ، وأقامت أول وحدة على أساس النيل شريان الحياة المصرية ، كما أن السودان منذ استقلاله عن مصر لم يجن إلا الخراب والمجاعات مع أنه أغنى البلاد العربية فى موارده الطبيعية .

7 ــ لقد كان الخديوى إسماعيل سابقا لتفكير عصره فيما أقامه من قصور ومنشئآت ، وفيما أرسل من جيوش وحملات . وكشأن أى إنسان يسبق عصره فإنه يلفظه عصره. وحكام الثورة عاشوا فى القصور التى أنشأها إسماعيل ، وأفتخروا بمنشئآته ومنجزاته ، ومع ذلك اتهموه بالسرف والتبذير .مع أنه استدان القليل لتحديث مصر وتطويرها .. ولم يأخذ عمولة !! )

إنتهى المقال ، وتبقى ملاحظات :

1 ــ قام وفد من المنظمة المصرية لحقوق الانسان بمقابلة رسمية مع الدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس مبارك . كنت ضمن هذا الوفد ، وقابلت د اسامة الباز لأول مرة . فوجئت مع الوفد بأسلوبه البذىء فى الحديث ، وتم نشر هذا فى الصحف فى حينها ، وبعض أعضاء الوفد لا يزالون شهودا على هذا اللقاء . ولكن د أسامة الباز كان ودودا معى . سألنى عن سبب تركى الكتابة فى ( الأحرار ) فأجبت بكلمة واحدة ( مصطفى بكرى ) ضحك . وقال إنه كان يتابع ما أكتبه فى الأحرار ، وأنه لا يزال يتذكر مقال ( اسماعيل ..والسودان ) .

2 ــ تعامل مبارك مع دول أفريقيا بإحتقار ، وأهمل افريقيا فى سياسته . والنتيجة الآن أن السودان ينازع مصر فى أملاكها فى مثلث حلايب ـ وقد كتبنا مقالا عن هذا فى (الأحرار ) ــ ووصل الحال الآن الى قيام اثيوبيا ببناء سدّ على النيل يهدد مصر بالعطش ..والموت ..!!

المقال الثانى :

(  قال الراوي : الإرهابي التائب ) ( منشور فى جريدة الأحرار بتاريخ  16 /5/ 1994 )  

( 1 ـ   انشغلت مصر كلها بحديث عادل عبد الباقي الإرهابي التائب في التليفزيون وتكاثرت التعقيبات الصحفية حول ما أثاره من قضايا ، وأثرت الانتظار إلي أن ينتهي المولد لأقول كلمتي عسي أن تجد صدي لمن يهمه الأمر .

2 ـ  وفي البداية أقول بأسف شديد ما سمعته من حديث الإرهابي التائب لا يعد جديدا ، بل إن من    يتابع مقالاتي علي مدار السنوات الأخيرة لن يجد جديدا يندهش له مما قاله عادل عبد الباقي  .

3 ـ فكثيرا ما حذرت من خطورة الفكر الإرهابي ، ومكمن الخطورة فيه هو اعتماده علي أحاديث باطلة وفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان تبيح القتل وسلب الأموال ، وكثيرا ما نبهت إلي خطورة ما يسمي بالجناح المدني للإرهاب ، أولئك الذين يصدرون الفتاوى بالقتل والاستحلال ،  كما سبق أن ألححت علي دور التليفزيون في تلميع نجوم من الأشياخ لهم باع طويل في تأسيس الجناح المدني للتطرف والإرهاب  ، وأن مواجهة الإرهاب والقضاء يمكن أن تكون من خلال التليفزيون وتأثيره الهائل .

4 ــ ولكن الأمر الواضح أن القائمين علي الأمور في بلادنا ينتظرون دائما إلي الوقت الملائم ليكونوا خلف الرأي العام ، وأن ذلك هو الموقف الآمن بالنسبة لهم. أنهم لا يصنعون الأحداث ، ولكن تدفعهم الأحداث ،  بل تحملهم أمواج الأحداث فوقها ..وقد حملتهم أمواج  التطرف من قبل وحصرتهم في دور ردّ الفعل ، بينما احتفظ الإرهابيون لأنفسهم بدور المبادرة . حدث هذا في الشرطة إلي أن استعادت وعيها أخيرا ، ثم لحق التليفزيون أخيرا بمواكبة الأحداث ، وارتضي أن يسير مع الرأي العام ، بعد أن اشتدت ثورة الرأي العام  علي جرائم الإرهاب . وحين تشجع التليفزيون أخيرا وأرضي الرأي العام وأذاع اعتراف الإرهابي التائب أصاب التطرف بجناحيه المدني والمسلح في مقتل .

5 ــ  وأعتقد أن الإرهابي التائب قد حفيت أقدامه علي أبواب الإعلام والصحف ، وفي حديثه ما يشير إلي ذلك، وما يؤكد علي عزمه علي إعلان الحقائق ليستريح ضميره . وذلك يوضح إلي أي حد تثاقل الإعلام المصري عن أداء دوره المصيري في معركة تهدد أمن مصر وحاضرها ومستقبلها ووجودها ذاتها ، بعد سبعين قرنا من الزمان . وحتى حين بادر التليفزيون إلي عقد مناقشات فكرية بشأن ما أثاره الإرهابي التائب فان المتحدثين كانوا من نفس الفئة التي تلف وتدور ولا تصل إلي كبد الحقيقة. ربما لأن مدي معرفتهم يحتم عليهم ذلك، وربما لأن رقابة التليفزيون هي التي تفرض مسار الحوار.

6 ــ   إن أولئك المشايخ هم الذين يسارعون بمصادرة كتب الاستنارة إذا تعرضت لفكر التطرف ، وذلك  يبين إلي أي حد اخترق عملاء التطرف أجهزة الدولة ، وأن الأمر يحتاج إلي رجال يخافون الله تعالي في هذا البلد الذي يتحكم فيه من يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا. وإذا أردت الحصول علي نسخة من كتاب " حد الردة " لكاتب هذه السطور فستجد من أمرك عسرا، أما إذا أردت الحصول علي كتب الإرهاب التي تحدث عنها الإرهابي التائب فستجدها علي أبواب المساجد وفي معظم المكتبات .. وبعد ذلك يتحدثون عن مطاردة الإرهاب . )

إنتهى المقال المكتوب عام 1994 .  فمتى يبدأ إصلاح الاعلام ؟

المقال الثالث :
( قال الراوي :   ألقاب مملكة في غير موضعها ) منشور فى الأحرار بتاريخ 27 / 7 / 1992 ) .

( 1 ـ قامت الثورة فألغت الألقاب وتوسعت في التعليم وأسست نهضة تعليمية حقيقية انخرط فيها أبناء الريف والعمال ، وكان التعليم بالنسبة لهم يعني الخروج إلى مجال أفضل حيث الوظيفة المحترمة والمرتب الثابت والمستقبل المضمون.  لذا كان التنافس حقيقيا بين الطلاب ، وكان الاستذكار همّة الأغلبية من الطلاب ، خصوصا أبناء الفلاحين والعمال . وكان للنجاح فرحة حقيقية ، لأنه أتى بمجهود حقيقي ، ولأنه يفتح الأبواب أمام مستقبل مشرق،  لذا كانت للمدرس قيمته ، وكان للقب (الأستاذ ) مكانته ، وكان يقال للشخص  ــ الذي لا تعرفه أو الذي نريد تكريمه ــ كان يقال له : ( يا أستاذ ) .  تواري لقب البيه ولقب الباشا وحل محله لقب ( الأستاذ ) دليلا على نهضة تعليمية وفلسفة معيشية اجتماعية اقتصادية . والآن لا نقول لمن لا تعرفه أو لمن نريد تكريمه ( يا أستاذ  ) ، ولكن نستعمل ألقابا جديدة تعبر عن التطور الجديد الذي فرض نفسه على حياتنا ، والذي أسهم في نحت ألقاب جديدة تعبر عن تلك المرحلة فنقول : ( يا باشمهندس ) و ( يا باشا ) و ( يا حاج  ) ، وتلك الألقاب تعبر عن أهم الطبقات الجديدة التي أصبحت تتسيد عصرنا ، عصر الانفتاح الاشتراكي ، والرأسمالية الطفيلية ، وسيطرة الشرطة .!

2 ـ لقد فتح السادات أبواب مصر فجأة أمام الانفتاح ،  فكان شيئا غريبا أن تفتح الدولة أبوابها للرأسمالية المحلية والواردة وهي – أي الدولة – لا تزال تحتفظ بالقوانين الاشتراكية وفلسفة الاقتصاد الموجه والحكم الشمولي وتدخل الدولة بقراراتها في كل شيء . ومن الطبيعي أن يهرب من الساحة أكثرية المستثمرين ولا يبقى فيها إلا المغامرون ، وأصحاب الخبرة في التعامل مع الفساد وراغبي الثراء السريع . وبذلك نمت الطبقة الجديدة من الانفتاحيين تستثمر اللحظة وتقتنص الفرصة وتنتهز اللمحة ، وتعيش على التناقض بين قوانين الاشتراكية وقرارات الانفتاح ، ولكن في ظل البيروقراطية التي تجيد إصدار القرارات وتطويعها وتعرف سن القوانين واستثناءاتها . ومع تضخم الطبقة الانفتاحية أقيمت المشروعات – وهمية أو حقيقية – وارتفع سعر الأرض ، وارتفعت أجور العمال الحرفيين ، فأصبحوا طبقة أخرى تمثل قوة شرائية ، تفرض ذوقها المتدني على الفن والأدب ، ونمت قيم جديدة تدور حول " تفتيح المخ " ، " وخد الفلوس واجري " و( الهبر)  و( الأرانب ) ( والفيل والزلمكة والتمساحة ) ، وانقلبت الموازين ، وضاعت فلسفة التعليم التي أرستها الثورة ، وتوارى لقب ( الأستاذ ) خجلا ، وبرزت ألقاب جديدة يستطيع حاملها أن يشتري المئات من المدرسين . وأصبحنا نقول ألقابا جديدة تعبر عن الطبقات الجديدة ، نقول لصاحب الحرفة ( يا باشمهندس ) سواء كان سباكا أو سائقا أو أي شخص لا نعرفه ، حيث تميعت المسائل وتداخلت واختلط الحابل بالنابل . وأصبحنا نقول ( يا حاج  ) بعد أن برزت طبقة جديدة من التجار تُجيد التمسح بالدين ،  وتجيد أكثر من ذلك كيف تتلاعب بالسوق وتجمع الأموال في شركات حقيقية أو وهمية.  وأصبحنا نقول ( يا باشا ) لكل صاحب نفوذ يجيد الارتزاق بنفوذه في تلك الغابة . وبعد أن كان هناك مصطفى كامل باشا ومحمد فريد باشا وطلعت حرب باشا وسعد زغلول باشا ، وغيرهم من وهبوا حياتهم لمصر، أصبح لدينا صنف جديد من الباشاوات ، تتضاعف أعداهم بالظلم، وتتضاعف أرصدتهم في البنوك داخل مصر وخارجها ، كما يتضاعف أيضا رصيدهم في تخريب البلد وإذلال أهلها .!

3 ـ وهكذا أدى الانفتاح وسادته الجدد إلى امتهان الألقاب وقلب المفاهيم ، فأصبح المسجل خطر ــ عند الله سبحانه وتعالى ــ ( حاجّا  )عند الناس ، واضحى المفسد في ارض مصر ( باشا ) يقف على قدم المساواة مع عظماء التاريخ المصري الحديث، وصار الحرفي البسيط يصارع المتخرج في كلية الهندسة بالضبط ، مثلما أصبح ( شعبان عبد الرحيم ) ( الواد  خيشة ) مطربا ، تباع شرائط أغانيه جنبا إلى جنب مع شرائط أم كلثوم وعبد الوهاب . هى كما قال الشاعر :

ألقاب مملكة في غير موضعها          كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد

4 ــ وفي تلك الغابة ضاع التعليم ، وأصبح الطالب يسأل نفسه :  لماذا يذاكر وفي النهاية لن يجد وظيفة ؟ وإذا وجدها فإن مرتبها الحكومي لن يكفيه أسبوعا؟ .  وأصبح المدرس المطحون يسأل نفسه : لماذا يجهد نفسه في تعليم المئات الذين يتكدسون في حجرات الفصول التي أقيمت حديثا في حوش المدرسة ، وهو في نفس الوقت لا يجد الوقت ولا يجد المرتب الكافي ولا يجد التقدير الأدبي والمعنوي ؟  وأصبح ولي أمر التلميذ لا يهتم بالتحصيل الحقيقي للتلميذ ، وإنما يهتم أساسا بحصوله على الشهادة . وقد أصبح من السهل أن يحصل عل تلك الشهادة. والنجاح في إمتحان آخر العام مضمون عن طريق ( تفتيح المخ ) والغش وتزوير النتائج . والنتيجة التي نراها الآن واضحة هي ذلك الخريج الجامعي الذي لا يستطيع أن يكتب سطرا وأحدا بدون خطأ في الإملاء أو النحو ، ولا يستطيع أن يقرأ جملة واحدة باللغة الإنجليزية إلا ( بطلوع الروح ) .

5 ـ . لقد أحسنت الثورة بتأسيس النهضة التعليمية ، ولكنها أساءت حين جعلت لها هدفا واحدا ،هو التوظيف الحكومي . إن التعليم استثمار هائل في حد ذاته، يتحول به الإنسان من الجهل والتخلف إلى معايشة العصر الذي يتقدم للإمام في كل دقيقة بل كل ثانية . والدولة الحديثة ليس من شأنها أن تقوم بمهمة التاجر والصانع، ولكن من أهم وظائفها أن تحصل الضرائب من التاجر والصانع لكي تنفق على الخدمات مثل الأمن والدفاع والتعليم .

6 ـ إن إصلاح التعليم هو العلاج لما أفسده الانفتاح الاقتصادي بكل رموزه وألقابه  . )

إنتهى المقال .

وبعد هذا المقال بثمانى سنوات إشتعلت مصر غضبا بسبب مشروع ( إصلاح التعليم ) الذى كنتُ ضمن قادته ، وسنعرض لهذه الملحمة فى الفصل الثالث من هذا الباب .                  

اجمالي القراءات 5475