لماذ يُعادى نظام السيسى المجتمع المدنى؟

سعد الدين ابراهيم في السبت ١٧ - يونيو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

فى يوم ٢٩ نوفمبر ٢٠١٦، أقر برلمان د. على عبدالعال مسودة قانون جديد، غريب ومعيب، للجمعيات فى مصر. وكان مشروع ذلك القانون قد ظل أكثر من ستة شهور، بلا توقيع نهائى من رئيس الجمهورية. وقد اعتقدنا، نحن نُشطاء المجتمع المدنى، أن الوزيرة المُختصة فى هذا الشأن، د. غادة والى، التى فوجئت مثلنا جميعاً، بمشروع القانون، قد نجحت فى إقناع الرئيس السيسى فى التأنى، حتى يتم تعديل ذلك القانون المعيب. ولكنا فوجئنا بإقرار رئيس الجمهورية نفس المسودة، فأصبحت بذلك هى القانون الذى يُنظم شؤون المجتمع المدنى المصرى. وهذه طامّة كُبرى على العمل الأهلى، وعلى نظام الرئيس السيسى نفسه.

لماذا هو طامّة كُبرى؟

أولاً، لمن لا يعلم من القُرّاء، يعنى مُصطلح المجتمع المدنى، فى الأدبيات الإنسانية والعلوم الاجتماعية، تلك المُبادرات التى يقوم بها أفراد وجماعات من المواطنين بإرادتهم الحُرة، لإشباع إحدى حوائجهم، أو حوائج آخرين من أبناء مجتمعهم من المُحتاجين وأبناء السبيل. أى أن تكوينات ومنظمات المجتمع المدنى، مثل جماعات البِر والتقوى، أو الأندية الثقافية والرياضية، أو التعاونيات والنقابات، هى كلها مُبادرات تطوّعية، غير إجبارية، وغير حكومية. وقد عرفت مجتمعاتنا العربية ـ الإسلامية مثل هذه التنظيمات والتكوينات منذ عشرة قرون أو يزيد ـ من ذلك ما كان يُطلق عليه الخانات، مثل خان المُسافرين، لمن يُداهمهم الليل بعيداً عن منازلهم وعن قُراهم أو مُدنهم. وكان هناك خان المارستان للمرضى من الفُقراء، والكيت خانة، لمن يبغون مزيداً من العلم والمعرفة. بل كانت هناك وكالة للكبار من ثقيلى الوزن، الذين لا يقوون على العمل أو كسب قوت يومهم. وكان يُطلق عليهم فى الفلكلور الشعبى مصطلح تنابلة السُلطان، وحيث كان يتم تقديم العون المادى والمأكل والمشرب لهم من فاعلى الخير، أو من الحاكم (السُلطان). وكانت وزارة الأوقاف هى مصدر تمويل ورعاية كثير من هذه الأنشطة. ثم أخذت تلك النزعة إلى عمل الخير أشكالاً حديثة، منذ منتصف القرن التاسع عشر، مع عودة المبعوثين الذين كان قد أرسلهم محمد على، إلى أوروبا فى عشرينيات وثلاثينيات نفس القرن. وهناك تعلّم طُلاب نجباء مثل رفاعة رافع الطهطاوى، وعلى مُبارك دور المُبادرات الأهلية فى الارتقاء بمستوى المجتمع.

المهم لموضوعنا هو أن النزعة الإنسانية أو الوطنية لعمل الخير أو النفع العام، هى نزعة أصيلة عند كثير من البشر، ومنهم المصريون. وهنا ربما كان جديراً بالتنويه أن أول صرح عِلمى جامعى فى مصر الحديثة، وهو الجامعة المصرية، كان على يد عدد من هؤلاء فى العقد الأول من القرن العشرين، وهى الجامعة المصرية، والتى سُميت فى عشرينيات القرن الماضى بجامعة فؤاد الأول، وبعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، بجامعة القاهرة.

كذلك كان أول الصروح الطبية الحديثة فى مصر، هو مستشفى المواساة بالإسكندرية، هى مُبادرة أهلية، وقد تجاوز عُمرها الآن مائة عام، ومازالت عنواناً وفخراً للعمل الأهلى السكندرى. وبمُناسبة الحديث عن مستشفى المواساة، يجدر التنويه أن الإسكندرية، عموماً، كانت هى الأسبق فى مضمار العمل التطوعى.

وربما كان ذلك بحُكم أنها كميناء على البحر الأبيض المتوسط، فهى الأكثر تفاعلاً مع العوالم الخارجية. كما أنها كانت ومازالت أكثر جذباً للعناصر الأجنبية الوافدة إلى أرض الكنانة.

ثانياً، على الأرجح، بل ربما من المؤكد أن الذين صاغوا مشروع قانون الجمعيات، سواء كان رئيس البرلمان، أو الأعضاء الذين وافقوا، أو ربما بصموا على مشروع القانون لا يعرفون شيئاً لا عن تاريخ العمل الأهلى، والذى أشرنا إلى إحدى لمحاته فى أولاً، أعلاه. كذلك من المُرجّح أن أياً منهم لم يُمارس عملاً تطوعياً فى حياته. ولذلك كان سهلاً نسبياً على أجهزة الدولة العميقة، أى جهاز الأمن الوطنى، أى مباحث أمن الدولة سابقاً، أن تُعطى أغلب النواب، الذين أتت بهم إلى المجلس منذ عامين، الأوامر أو التعليمات بإقرار مشروع القانون، الذى يُكبّل العمل الأهلى، ويجعل منه مُجرد امتداد باهت لوزارة التضامن الاجتماعى. من ذلك أن عدد المواد الناهية فى القانون لها الغلبة. من ذلك أن تبدأ معظم تلك المواد بكلمة يُحظر، أو لا يجوز، أو يُعاقب بالسجن، أو الغرامة أو بهما معاً، كل من خالف مادة من مواد ذلك القانون المعيب. فهل يُعقل أن يقوم مواطن صالح عاقل، بالمُجاذفة بتأسيس جمعية، وهو يُدرك أن أى هفوة أو خطأ يمكن أن يُعرضه للسجن أو لغرامة قد تصل إلى مليون جنيه مصرى؟!

والسؤال: لماذا كل هذه العداوة للمجتمع المدنى؟ مع أنه هو الظهير الأمين لأى دولة ديمقراطية حديثة.

ثالثاً، أحاول منذ ثلاث سنوات أن أغوص حول أسباب تلك العداوة الدفينة لأجهزة الدولة، تجاه المجتمع المدنى (أى الجمعيات والروابط والنقابات)، والتى نجحت فى تكبيل المجتمع المدنى فى الماضى، ويبدو أنها مُصمّمة على ذلك فى المستقبل. ولم أجد تفسيراً إلا أن فكرة وقيمة التطوع غير واردة بالمرة فى ثقافة وتفكير الموظف الحكومى. فهو نفسه يعمل بأجر أو راتب معلوم، ويتدرج طبقاً للأقدمية والامتثال للقواعد واللوائح. أى أنه ليس مطلوباً منه أن يبتكر، أو يُبدع، أو يُبادر، وإلا يُخطئ، فيُجازى أو يُعاقب. وذلكم هو ما خلق ثقافة الروتين، وجعل من الموظف العام عبداً للروتين. وتلك هى الثقافة التى تجعل أصحابها يشكّون ولا يثقون فيمن يُبادرون بأعمال تطوعية، مجّانية، بل قد يدفعون فى بعضها أو معظمها شيئاً من مالهم الخاص، إلى جانب مجهودهم الخاص. إنها نظرة الشك تلك، التى تجعل الموظف الحكومى، حتى لو كان وزيراً أو حتى رئيساً للوزراء، أو رئيساً للجمهورية، يجعله ينظر للمواطن كمُذنب، إلى أن يثبت العكس. بينما فى المجتمعات المُتقدمة ذات الثقافات العصرية المُنفتحة، فإن المواطن سيد جدير بالثقة والاحترام إلى أن يثبت العكس، وأن يكون ذلك العكس بحُكم قضائى بات ونهائى!.

وربما كانت تلك الثقافة الحكومية الطاغية فى المجتمع المصرى، هى التى جعلت قطاعاً كبيراً من المسؤولين يتشكّكون فيما حدث بين يومى ٢٥ يناير و١١ فبراير ٢٠١١، ويجعلهم يتحفظون على إطلاق لفظ ثورة على ما حدث، هذا رغم أن العالم كله شهد وانبهر بما كان يحدث فى مصر فى تلك الأيام الخالدة. وكان إعلام العالم الحُر فى أوروبا والأمريكيتين هو الذى أطلق على ذلك الحدث، ومن قبله ما وقع فى تونس وليبيا والبحرين، مُصطلح ثورات الربيع العربى.

وعلى الله قصد السبيل

اجمالي القراءات 8856