فى «الجماعة 2» تزييف الوعى أخطر من تزييف التاريخ

خالد منتصر في السبت ٠٣ - يونيو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

أن يقرر المؤرخ «حمادة» التحول إلى حمادة سلطان والاستظراف بإلقاء مونولوجات ونكت هابطة فى كباريه التأريخ المزيف، فهذا من حقه ولا يعنينى أمره فى شىء، لكن أن يقرر مبدع فى قامة وحيد حامد أن يكتب مجرد نمرة فى فقرات هذا الكباريه ويطلق عليها مسلسلاً تاريخياً فهذه هى الكارثة التى ليست من حقه، وأمرها يعنينا كلنا لأنها للأسف ستصبح وثيقة تاريخية ومرجعاً أكاديمياً ثابتاً راسخاً فى عقول شعب لا يقرأ، شعب صارت علاقته بالتاريخ هى الدراما، وعندما يتم تزييف وعى أمة لن يكون هناك مجال لكلمات وعبارات مدغدغة ومضللة هى مجرد أكليشيهات إذا تعارضت مع مصلحة هذا الوطن، عبارات من قبيل.. «معقول وحيد يعمل كده؟!»، أو «تاريخه وماضيه يثبتان عكس ذلك»، أو «هو بياخد باله من كل التفاصيل».. إلخ، أنا لم أعترض على قيمة وحيد حامد ككاتب، ولكنى الآن أناقش عملاً درامياً به أخطاء بل خطايا، وتشوهات بل سقطات، وكما أن الرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال، كذلك الدراماتورجى يعرف بالدراما وليس العكس، وحجم الصدمة يأتى من حجم وقيمة الكاتب، وهذا ما أحزننى وصدمنى وجعلنى أكتب هذا المقال عن هذا المسلسل الكارثة الذى اسمه «الجماعة 2»، لن أشغل بالى بالإجابة عن أسئلة من نوعية: ليه وحيد يعمل كده؟ وإزاى؟ ومعقول تصدق؟.. إلى آخر هذه الأسئلة التى تهم المخبرين أكثر من المحللين والنقاد والجمهور المتلقى للدراما، نحن نناقش العمل وليس صاحب العمل، الذى أمامنا على الشاشة هو هلاوس تاريخية سمعية وبصرية، وعته درامى، وكساح فنى على مستوى المضمون والشكل أيضاً، فبالطبع أفتقد لمسات المخرج العبقرى محمد ياسين فى الجزء الأول من الجماعة والمتعة البصرية التى أضفاها على العمل وتكويناته الفذة الآسرة الجذابة، وبالطبع ساعده ورق الجزء الأول الذى كان متوازناً لأنه كان يتحدث عن حقبة بعيدة لم يشتبك فيها الإخوان مع تنظيم ثورة 1952 التى كانت علامة فاصلة بين عهدين، عندما تصدى وحيد حامد فى الجزء الثانى لتلك العلاقة بدأ الاضطراب والخلل الدرامى فى الظهور، وأصبح جسد العمل بلغة الطب يعانى من علامات الموت الإكلينيكى، ودخل المسلسل غرفة العناية المركزة مصاباً بجلطة فى جذع المخ الدرامى لم تنفع معه أسطوانات أوكسجين البروباجندا الإعلانية ولا مجاملات أقلام الأصدقاء الإعلامية!، العمل الفنى خاصة عندما يكون متناولاً للإخوان فى مثل هذه الظروف لا أستطيع أن أناقشه ككادرات وزوايا تصوير وإيقاع أحداث فقط، ولكن الأهم هى الرسائل التى يحملها هذا العمل الفنى، دلالات ما وراء المكتوب وما هو بين السطور، ما هى الرسائل التى ينقلها إلينا هذا المسلسل، ومرة أخرى أنا لا «أدعبس» وأنبش فى النيات ولن أناقش حسن النية وسوء النية الذى صار موضوع الجدل، أنا أحاول أن أناقش بصرامة وحيادية ما يدعى أصحاب العمل أنه محض حيادية، التفاصيل التاريخية التى غرق فيها من كتبوا عن العمل شغلتهم عن رسائله التى للأسف زيفت وعى الكثيرين ولمستها بنفسى لدى بسطاء كثيرين يتساءلون بعد كل حلقة: هما الإخوان عملوا إيه عشان تزعلوا منهم؟ ما هم حلوين أهو ولطاف وظراف، ده انتم اللى مفتريين وخطفتوا منهم الثورة!!، هو نفس الكلام الذى قيل بعد يناير ويونيو من الكثيرين من عينة أن «الإخوان كانوا معانا فى الميدان وهما اللى حمونا ودافعوا عننا يوم موقعة الجمل والبلتاجى مبتسم والكتاتنى راجل طيب وانتم اللى سرقتوا الثورة منهم بعد ما عملوها..»، إلى آخر هذه الرطرطة المعتوهة التى قذفت بنا إلى الثقب الأسود للجحيم!، ليس تقبيل «النحاس» ليد الملك حتى وإن صح تاريخياً هو المشكلة، ولكن تشويه الليبرالية المصرية صاحبة أكبر تاريخ منذ برلمان زمن عرابى، تلك هى المشكلة، ليس انضمام «عبدالناصر» للإخوان هو القضية التى نختلف حولها ولكن انسحاق «عبدالناصر» تحت جناحهم هو القضية، ما هى الرسائل التى يريدها المسلسل من مثل هذا التجسيد والتكثيف والتلاعب والتركيز على أحداث وإهمال أحداث أخرى لصالح ترسيخ وتثبيت فكرة هى من أكثر الأفكار رداءة فى تاريخ مصر وهى أن الإخوان صناع الثورة؟!، محاولة إخراسنا بفزاعة المصادر التاريخية التى اعتمد عليها كاتب السيناريو ولن أقول المشرف إخوانى الهوى، هى محاولة فاشلة لأن العبرة ليست بكم المصادر ولكن أياً من تلك المصادر صارت مرجعك، انحياز المؤلف لمصادر الإخوان والاعتماد على رواياتهم وكأنها كتاب مقدس لا يمسه الباطل، يعتبر انحيازاً وترويجاً لفكرهم، وأيضاً إهمال التركيز على ضحايا الإخوان هو انحياز ثانٍ وإضافى، ألم تستحق منك عائلات «النقراشى» و«الخازندار» وكل ضحايا عصابة الإخوان الإجرامية ولو مشهداً ينصفهم كما أنصفت الملاك النورانى زينب الغزالى، التى اعتمد «وحيد» على مرجعها العجيب الملىء بالأكاذيب والضلالات النفسية التى هيأت لها كوابيسها تاريخاً وكبتها ملاحم وأساطير فتخيلت أن «عبدالناصر» يشرف بنفسه على اغتصابها؟!، جمعتها وهى صاحبة الصوت الخفيض والابتسامة الملائكية فى مشهد لا يتم إخراجه إلا فى فيلم عن الأنبياء والقديسين مع حسن البنا وهو يرتدى الأبيض فى الأبيض، وأعتقد أن ضغط العمل وضيق الوقت لم يسمحا للمخرج أن يركب ويلصق جناحين لفضيلة المرشد وهو يحاورها!، علامات استفهام كثيرة حول رسائل المسلسل ودلالاته، تزييف الوعى أخطر من تزييف التاريخ، تزييف الوعى بالمجتمع الإخوانى المخملى الذى يعزف فيه الإخوان على البيانو وتجلس فيه الإخوانيات بالجابونيز مع الإخوة فى الجماعة، بل وتجلس إحداهن على السيارة أمام الشيخ «الباقورى» وكأنها بنت روشة فى مارينا!!، «عبدالناصر» الذى يرتدى الدبلة الفضة فى مجتمع كان لا يعرف إلا الدبلة الذهب، يلف كعب داير وكأنه «عبيط القرية» ممسكاً بالطبلة متقمصاً دور المجذوب قائلاً لطوب الأرض «هييه أنا حاعمل انقلاب بس ماتقولش لحد»!!، تنزل الريالة أمام سيد قطب من قمة الانبهار به، وهو نفس الانبهار الذى قوبل به من موظف الجوازات الذى تعرف عليه فوراً وكأنه يوسف وهبى بالرغم من أن ابن عمه بيعرفه بالعافية!!، التكوين الدرامى الذى ظهر به سيد قطب فى صدارة المشهد وعليه بؤرة الإضاءة وحوله «عبدالناصر» والضباط الأحرار كالحواريين حول المسيح، مشهد قمة فى التزييف والتدليس والاستهانة بعقولنا للتسويق لتلك الفرية الإخوانية!، والمدهش أنه لو هبط كائن فضائى ليشاهد مسلسل «الجماعة 2» سيتساءل: هى البلد دى اسمها مصر ولا اسمها الجماعة؟!، بلد يحبس فيها الملك فى قصره غير قادر على الحراك خارج أسواره نتيجة الخوف من الإخوان، وأقوى حزب فيها وهو الوفد ترتعش أوصاله وتصطك أفكاكه (مشيها أفكاكه لضرورة الوزن) ويرتعد قادته من الإخوان، طالبين الود والقرب منهم، والعجيب أن هذا المارد الإخوانى المخيف لم يكسب واحد منهم أى انتخابات حتى ولو فى شارعهم!، كان «الوفد» من الممكن أن يرشح حجراً أمام الإخوانى بمنتهى الثقة أنه سيكسب، ولكن المسلسل يريد أن ينفخ فى الفأر فيحوله إلى ديناصور!، المسلسل هو محاولة فوتوشوب لتحويل البلطجى والمجرم الإخوانى إلى ولىّ نعمة وراقص باليه!، حكومة إبراهيم عبدالهادى تخصى الإخوان وتمارس السادية فى مقابل أن الإخوانى يستشهد فى قتاله ضد الإنجليز!، جمال عبدالناصر ليس متحسساً لطريقه السياسى وسط التيارات المختلفة، بل هو ابن بار للإخوان لدرجة أنه فى صالون الإخوان وهو يعرض عليهم بضاعة الانقلاب وكأنه يعرض ملابس داخلية للبيع بالتقسيط، يقول له أحد قيادات الجماعة قبل الثورة بأيام «يا جمال انت إخوانى وعارف!!»، لم يقل له «كنت إخوانى وعارف» ولم يرفض «جمال» ويقول «كنت إخوانى يا فلان»، بل سكت والسكوت علامة الرضا!.

الكاتب الكبير وحيد حامد يصر على الاستعانة بمؤرخ غير محايد عليه علامات استفهام، ويصر على أن ما يكتبه هو التاريخ وأنه مدقق محقق، إذا كان هذا هو التحقيق والتدقيق فما هو الذى سيوصف بالتلفيق إذا لم يكن هذا المسلسل؟!، وإذا كان هذا هو التاريخ فلنعتذر للإخوان ولنسعَ إلى التصالح ولنعتبرهم فصيلاً وطنياً وغلط وخلاص وإن الله يحب المحسنين المتسامحين، والصلح خير قوم نتصالح، وكمان قوم نتفرج على مسلسل تشويه الذاكرة المصرية وتصحيرها وتجفيفها، مسلسل «الجماعة 2».

اجمالي القراءات 7693