الرؤيا غير الوحي وتفصيل رؤيا إبراهيم
في البحث عن الإسلام – بين الوحي والرؤيا الجزء الثالث – الرؤيا غير الوحي وتفصيل رؤيا إبراهيم

غالب غنيم في الأربعاء ٠٥ - أبريل - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

في البحث عن الإسلام – بين الوحي والرؤيا الجزء الثالث – الرؤيا غير الوحي وتفصيل رؤيا إبراهيم

بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد والشكر لله رب العالمين

(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر - 36

وأكرر ما قاله تعالى – يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وبعد،

______________

الرؤيا في القرءان الكريم:
وردت كلمة رؤيا في القرءان الكريم قليلا، ما يقارب السبع مرات فقط،  والرؤيا في نهاية المطاف حلم، والحلم لا يحدث إلا لنائم، والنائم لا يحاسب أثناء نومه ولا يسجل عليه عمل أو قول أو فعل، فكيف برؤيا حلم بها؟!
والحلم يكون رؤيا إن تكرر وظهر بوضوح تام كأنّك تراه بعينيك، أي ترى الحلم واضحا كرمز، والحلم لا تأويل له إن لم يكن رؤيا، ولهذا في قصة يوسف، حين لم يستطع من حول الملك أن يؤوّلوا رؤياه في البقرات، قالوا له " اضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين "، أي هذه أحلام مارقة لا تأويل لها وليست رؤيا، حتى أتى يوسف وسمعها فعلم تأويلها بإذن ربّه.
 
وفعل أرى يُستخدم للرؤيا والرؤية معا، ولكن من المساق نفهم أن أرى في الرؤية تحدث من خلال انعكاس الصورة في العين، أي نحتاج للعيون كي نرى الصورة، أما أرى في الرؤيا فهي تحدث في اللاوعي، حيث يكون الإنسان نائما، ولكن عقله الباطني – ونفسه – قادرة على تكوين الصور كما شرحت في المقال الأول عن المسّ والنفس، لهذا هي رؤية معنوية وليست عضوية باستخدام العين، ولهذا الرؤيا تحتاج لتأويل بينما الرؤية يتبعها إبصار لها، أي تحليل وإدراك كما فصلت في جزء سابق من هذا البحث، كما أنها رسما مختلفه، فرؤية العين رسمها "
أَرَى" بينما الرؤيا رسمها " أَرَىٰ".

إذا الرؤيا تحتاج لتأويل، فهي تأتي رمزا، والتأويل باختصار شديد هو "حدوث النبأ أو الرمز" أي ما سيؤول إليه الرمز كأحداث، ففي قصة يوسف الرمز كان سبع بقرات والحدث هو سبع سنين، والكواكب الأحدى عشر كرمز أصبحت حدثا في إخوته وأهله، وهكذا يتم تأويل الرمز إلى حدث، أي معرفة الحدث الذي سيحدث من خلال الرمز، أو ما سيؤول إليه الرمز، ولهذا يتم التنبؤ بالتأويل، أي هي عملية تنبؤ بتأويل الرمز، فليس كل من يؤوّل الرؤيا يعلم الحدث إلا من ملك هبة الله تعالى في التنبؤ بالحدث، وهذا بيّنٌ في الآيات التالية، حيث استخدم يوسف مفردة " نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ " :

(
وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّىٓ أَرَىٰنِىٓ أَعْصِرُ خَمْرًاوَقَالَ ٱلْءَاخَرُ إِنِّىٓ أَرَىٰنِىٓ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِۦٓ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ  * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَابِتَأْوِيلِهِۦ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّىٓ إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلْءَاخِرَةِ هُمْ كَٰفِرُونَ ) يوسف – 36:37

بداية نستعرض باختصار رؤيا النبيّ محمد :

فالرؤيا التي رآها النبيّ محمد ذكرها الله تعالى مرتين، مرة ذكرها اسما ومرة فصلها :
(
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَاٱلَّتِىٓ أَرَيْنَٰكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِى ٱلْقُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَٰنًا كَبِيرًا ) الإسراء – 60
وهنا علينا ان نفهم كلمة (
أَرَيْنَٰكَ) ، فهي اتت بصيغة المقامات جميعا وليس بصيغة الألوهية فقط، أي الجمع، اي هي لم تكن من الله مباشرة كوحي منه للرسول أبدا، بل هي تمت من خلال من هم في طاعة الله من ملائكة أو غيرهم، وأغلب الظن أنه الروح القدس، ثم علينا ان نفهم أنها تمت كرؤيا، اي ليس رؤية بل رؤيا، أي أن النبيّ كان نائما حين رآها، ولم يرها بعينيه بل نفسه التي اطّلعت عليها، فما هي هذه الرؤيا التي أراد الله تعالى أن يثبتها في القرءان لكي يطمئن النبي إلى أنها رؤيا تحمل نبأ غيب وستتم، أي سيتم تأويلها، ولنصل إليها علينا ترتيل الآيات؟

بداية يبشر الله تعالى النبي بفتح قريب (لَّقَدْ رَضِىَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَتَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَٰبَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) الفتح – 18
ثم ينبه إلى أخرى (
وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا۟ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَٱللَّهُ بِهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا  ) الفتح – 21
ونلاحظ هنا قوله تعالى (
قَدْ أَحَاطَٱللَّهُ بِهَا) الذي يتوافق مع مورد الإسراء أعلاه ( إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ  ) ، ففي مورد الإسراء ومورد الفتح حديث عن نفس الرؤيا.

ثم يذكر الله تعالى كيف أحاط بها (
وَهُوَ ٱلَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِمَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) الفتح – 24

حيث حدث هنالك احداث جدا دقيقة، كان يمكن من خلالها أن يؤذوا المؤمنات، ولا اريد هنا تفصيل الحدث، فله مقام آخر، ولكن الله تعالى أحاط بهم، وأنزل سكينته على المؤمنين، حين كان الذين كفروا في حمية الجاهلية، فكف أيديهم عنهم، وفصل الرؤيا التي رآها النبيّ في نومه (
لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَابِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا۟ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) الفتح – 27
الأحداث كثيرة في سورة الفتح، ولا اريد التفصيل بها، ولكن الزبدة وما نريده هنا من هذه الآيات هو أنّ الرؤيا التي رآها النبيّ في نومه، والتي جعلها الله تعالى فتنة للناس، حين ثبتها في القرءان الكريم، وتم إبلاغهم بها من خلال القرءان الكريم، فهو لم يروِها لهم شفويّا بل أصبحت نبوءة في القرءان الكريم!

الرؤيا لم تكن وحيا، بل رؤيا، وتم تثبيتها في القرءان، فلما علمها الناس من القرءان افتتنوا بها، فظهر المنافقين من غيرهم، ممن لم يصدّق بها، والمسألة في فهم الرؤيا بحد ذاتها، فهي رؤيا، أي حُلُم، ولكن تم تثبيتها وتصديقها من الله تعالى، فاصبحت بعد أن كانت حلما حقا!
الله تعالى يقول (
فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا۟)، أي أنه بعلمه صدَق رسوله بما رآه، - ولنتذكّر مفردة صَدَقَ لأنها مهمة لاحقا -  وثبّت رؤيته، بل وقام بتأويلها في القرءان الكريم، على أنها فتح قريب، فالله تعالى هو من تدخل هنا بعد إنتهاء الرؤيا!
هذا موقف دقيق جدا في فهم ترتيب الأحداث لكي نفقه الرؤيا عن الوحي!
الله تعالى قال : (
لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَابِٱلْحَقِّ) ، ولم يقل هنا أنه أوحى إليه أبدا، بل صَدَقَه بما رآه في نومه ولم يصدّقه كثيرون، فحدث تأويلها فأصبحت حقا، أي أن رؤيا الرسول ستصبح حقا فصدقه الله تعالى بها، وقام بتأويلها.

وهو نفس الذي قاله يوسف عن رؤياه التي ظن انها لن تؤوّل إلى ما علِم لاحقا :
(
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّوا۟ لَهُۥ سُجَّدًا وَقَالَ يَٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُءْيَٰىَمِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِىٓ إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلْبَدْوِ مِنۢ بَعْدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيْطَٰنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِىٓ إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ ) يوسف – 100
يوسف قال لأبيه فرحا (
هَٰذَا تَأْوِيلُ رُءْيَٰىَمِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا  ) ، رؤياي من قبل ، أي انها كانت رؤيا من قبل فقط، وهو طفل، وليست وحيا، ثم تحققت، أي حدث تأويلها كواقع، فاصبحت حقا.

______________

رؤيا النبيّ إبراهيم :

قال تعالى :
(
رَبِّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ* فَبَشَّرْنَٰهُ بِغُلَٰمٍحَلِيمٍ  * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْىَقَالَ يَٰبُنَىَّ إِنِّىٓ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّىٓ أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ  *  فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَٰدَيْنَٰهُأَن يَٰٓإِبْرَٰهِيمُ  * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّءْيَآ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ  * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلَٰٓؤُا۟ٱلْمُبِينُ  * وَفَدَيْنَٰهُ بِذِبْحٍعَظِيمٍ  * وَتَرَكْنَاعَلَيْهِ فِى ٱلْءَاخِرِينَ ) الصافات – 100:108

قبل أن نحلل الحدث هنا علينا فقه بعض الأساسيات التي لا بد لنا من ان نسلم بها!
- الله تعالى لا يأمر بالفحشاء والمنكر والبغي.
- والقتل بغير حق فحشاء ومنكر وبغي.
- الله تعالى لا يأمر بلسان البشر بل بأمره هو سبحانه، أي حين يبلغنا في القرءان أمرا ما فهو ينسبه لنفسه سبحانه وليس للبشر، ولم يدع للبشر مجالا بأن يأمروا باسمه أبدا، فأمر الله تعالى يأتي باسمه سبحانه (إنما أمره) ولا يجب أن يقول أي بشر أن أمر الله منسوبا له، بل يأتي أمر الله وحيا مباشرا منه سبحانه لذلك البشر.
- الوحي لا يأتي نائم غائب عن وعيه، وفاقد لمقومات وعيه من سمع وبصر وفؤاد، فالتكليف لا يكون لفاقد مقومات الوعي، والوحي تكليف، فلا يكلف النائم!
- ما يذكر في القرءان على لسان أحد فهو على لسان من قاله ولا يعني صحته من عدم صحته (فحين قال ابليس لله تعالى انه خلقه من نار وخلق آدم من طين فهذا لا يعني صدق إبليس، ولا يُثبِت حقيقة ان الله تعالى خلقه من نار، فهو قول إبليس! والله قال غير قوله، لم يقل أنه خلقه من نار بل قال " من نار السموم" والفرق بينهما كبير جدا، ولكن الله تعالى ينسخ ما تتمنى الشياطين في كتابه كي تبقى اقوالهم وأمانيهم عبرة لنا وتذكرة، كما نسخ ما قاله ابليس ووعوده وتهديده لنا)، وما يقوله فلان سواءا نبيا كان أو ليس بنبيّ فهو منسوب للقائل ولا يعني أبدا صحة ما قاله من عدم صحته، ويتم فهم ذلك من خلال المساق والترتيل للآيات لكي نفهم الصدق من القول من عدمه، ومن الأمثلة المشهورة والتي كثيرين يخلطون فيها ما قالته امراة عمران " وليس الذكر كالأنثى "، فهو قولها ومنسوب اليها وليس الى الله، أو ما قاله الذي آوى يوسف عن النساء " إن كيدكنّ عظيم " فهذا منسوب اليه وليس الى الله !

ومنه نبدأ فكّ الخلاف في فهم قضية إبراهيم وابنه :

فابراهيم حين ترك قومه دعا ربه أن يهب له من الصالحين، فوهب له ابنا ولم يهب له من بعد ذلك حتى أصبح شيخا كبيرا في السنّ، حيث نلاحظ أن له ابن حليم والآخر بشروه به وهو شيخ كبير سموه " غلام عليم "، بعد أن بوّأ له مكان البيت بوقت طويل، وهذا أمر لا ينتبه اليه كثيرون، فاسماعيل هو الحليم الابن البار الصادق، واسحاق هو العليم اللاحق المتأخر الذي من ذريته يعقوب ويوسف ، ومنه استجاب الله تعالى له، ووهب له غلام حليم، وحين وصفه الله تعالى ب (غلام حليم) فهو حق، أي ان هذا الغلام من الحُلُم أن لا يخالف أبيه أبدا، وكبر هذا الإبن، وبوّأ الله تعالى مكان البيت لإبراهيم، وطلب منه ومن ابنه أن يطهرا بيته من القواعد التي كانت فيه من الأوثان، فلما طهّرا البيت للناس، نادى ابراهيم لاحقا بالناس للحج، ومن الطبيعي أنه هو وابنه أول من أقاما شعائر الحج ومناسكه، ولكن لم يعلم إبراهيم مناسك الحج حينذاك، وقد فصلت بعض الأمور في بحث منفصل عن مفردة منسك ومناسك كيف رأى ابراهيم لاحقا ما طلبه من الله بعد أن طهّرا البيت ودعيا ربهما هو واسماعيل أن يريهما مناسكهما، ومنه، لما أنهيا الحج، وبلغا السعي، أي قضيا شعائر الحج، بقي أمر مهم جدا لم يعلماه بعد، وهو منسك الذبح، وحينذاك، قال ابراهيم لإبنه ما اخفاه في صدره من قبل اثناء الحج، حيث من المساق نفهم أن إبراهيم رأى رؤيا في منامه، وصمت طويلا حتى بلغا السعي، وبلوغهما السعي لا يعني بلوغهما مكان ما كما يقول مفسري التراث، بل مجمل سعيهما في الحج كاملا، فالسعي هو مجمل العمل، وتم ذكر كلمة (
إِنِّىٓ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ) لكي نتنبه ونعي الحدث جيدا، فلا نخلط فيه على أنه صحو!
فلا تكليف في المنام أبدا، بل هي رؤيا انتابت إبراهيم، وسكت عنها طويلا، حتى بلغ مع ابنه السعي، اي نهاية المطاف كما ظنّ إبراهيم في الحج، حيث قرر إبراهيم "إستشارة"  ابنه الحليم فيها، فقال له إني أرى في المنام أني أذبحك!!!
نتوقف هنا للحظة، الرؤيا رمز! فهل رؤيا إبراهيم أنه يذبح ابنه يجب تأويلها أنه عليه ذبح ابنه حقا؟!
من المؤكد النفي، بل كان يمكن تأويلها بشيء آخر، لم يعلمه إبراهيم، فهو لا يعلم تأويل الرؤى، وهنا كان تدخّل إلهيّ ليؤوّلها له، وليريه مناسكه!
الله تعالى أعلم بما تؤوَّل إليه الرؤيا، ولو كان إبراهيم يملك علم تأويل الرؤيا لأولها بذبح بهيمة ما، بعجل ما، أو غير ذلك مما غلا ثمنه، وزادت قيمته، فالرؤيا هنا تمسّ ابنه الوحيد الذي وهبه الله تعالى له!
فماذا كان رد الإبن الحليم؟ والإبن الذي كله حلم لا يعرف تأويل الرؤيا كما أباه، ولكنه اتّصف بالصدق أيضا والحلم، فظن مثل ظنّ أبيه، أن تأويل الرؤيا يتم بحصولها كما هي!
(
وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَٰبِ إِسْمَٰعِيلَ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِوَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا) مريم - 54
فهو صادق الوعد كما وصفه الله تعالى، فأجاب اباه بحلم وطاعة، وصدّقه، بل ظنّ هذا الفتى أنه أمر من الله، لأنه يصدّق أبيه، فقال له أن إفعل ما تُؤمر!!
فهل هذا قول الله تعالى أم قول ابن ابراهيم ؟!
لا يحق لنا، بل ومن خفّة الفكر أن ننسب الرد لله تعالى! إن تم ذكر القصة فهذا لا يعني أن الله تعالى أمر إبراهيم بقتل إبنه! فهذا بالفعل "ابتلاء" عظيم لو حدث! فالله تعالى لم يقل " ابتلاء" بل قال بلاء، لأنه لم يبتليه من الأساس، فتم قول الله تعالى بأن هذا لهو بلاء عظيم ابتلى به إبراهيم نفسه، فلما أسلما أمرهما وما توصلا إليه ، وقررا تنفيذ ما فهماه من تأويلهما للرؤيا، والذي هو تأويل ليس صحيح لها من الأساس، ووضع جبين ابنه للأرض يريد ذبحه، ناداه الله تعالى عن طريق رسله ليوقف ما يحدث من حدث غير صحيح!

نعم، لندقق أكثر في دقائق الحدث، هل تم تأويل الرؤيا حتى اللحظة؟ الجواب بالنفي، وأنه صدّق  الرؤيا – بشد الدال - ، أي أنك نفسك بنفسك يا إبراهيم أوّلتها كحدث وليس كرؤيا، وكفى تنفيذا لتأويلك لها فلقد صّدقتها، وليس من داع لتنفيذ ما فهمته منها، وهذا نستشفّه من مفردتين تم استخدامهما هنا :
(
وَنَٰدَيْنَٰهُ  أَن   يَٰٓإِبْرَٰهِيمُ   ) – فَ "أن" هنا للتعجّب واضحة كوضوح الشمس، وإلا لما استخدمها ولقال "وناديناه يا ابراهيم"، وفعلا الأمر يستحقّ التعجّب من تأويل إبراهيم لرؤياه، وهكذا يجب أن تُقرأ، بتعجّب واستنكار، وناديناه أن يا إبراهيم، وكأنك تنادي على شخص يرتكب أمرا منكرا فتقول له ما بالك يا رجل، ولهذا تم استخدام مفردة " أنْ " التنبيهيه والتي تحمل تعجّبا واستنكارا للحدث كله.

(
قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّءْيَآ  ) – لم يقل قد صَدَقْتَ هنا بل صدّقت – بشدّ الدال – فكما أعلاه قلنا ان الله تعالى صَدَقَ رسوله الرؤيا، بينما هنا لم يقل له قد صَدَقْتَ الرؤيا، فلو قالها لاختلف كل القرءان ولكان اقرارا من الله تعالى له بصحتها، فالله تعالى صَدَقَ رسوله ( لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَابِٱلْحَقِّ) ، أي أوّلها له كما يجب، وحدثت، أما هنا فالكلام عن إبراهيم ذاته، فإبراهيم لم يؤولها بل صَدّقها، أما تأويلها فكان بالذبح العظيم!

أي جائت الجملة استنكارية والتي تليها حتى الفداء، كلها أتت استنكاريّة تعجبيّة للحدث الخاطيء، فالله لا ولن يأمر بالفحشاء والقتل، ولهذا نقرأها " أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا ؟!!!"

ورفقا به بعد ذلك لأنه وابنه كانا من المحسنين، فالجملة التي بعدها تأتي كتعقيب على الموقف كله، وليس مدحا للحدث ذاته، أي أن التدخّل الإلهي هذا كان رفقا بهما من الله لأنهما من المحسنين (
إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ  )، فلولا التدخّل الإلهي هنا لأصبح إبراهيم قاتلا، فأشدّ ما يستنكره الله تعالى في كل القرءان هو قتل النفس بغير حق.
ثم تابع مستنكرا (
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلَٰٓؤُا۟ٱلْمُبِينُ  )، وهو عادة ما نقوله نحن حين نرى موقفا مشابها أمامنا، فكيف تبتلي نفسك بمثل هذا البلاء المبين الواضح أنه خطأ فادح، ومفردة مبين لا يستخدمها القرءان في الشيء الحسن فقط، فقد وردت 22 مره في القرءان كالنذير المبين والبلاغ المبين والفوز المبين وغيرها ولكن وردت كذلك في مثل ما حدث هنا تماما، أي بالمعنى السلبي لها وليس الإيجابيّ ( فَٱعْبُدُوا۟ مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِۦ قُلْ إِنَّ ٱلْخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ)  الزمر – 15 ، حيث الخسران يكون مبينا كما البلاء تماما.

(
وَفَدَيْنَٰهُ بِذِبْحٍعَظِيمٍ  ) وبديلا عن ذلك، الذي صدّقه إبراهيم، تمّ تأويل الرؤيا من الله الحق، وفديناه بذبح عظيم، أي كي لا تذبح ابنك وفدية لك عن ذلك الفهم الخاطيء اذبح الذبح العظيم، فيكون تأويل رؤياك، وبالطبع لن نترك مفردة وفديناه، لكونها محورية هنا، يستدلّ كثيرون منها اعتباطا أنها تؤيّد موقف وفهم إبراهيم لرؤياه، ولكنها أتت هنا بالذات لكي تدلّ على الآية التي تليها وعلى الحكم على الموقف كله، وهذا هو الهدف من استخدامها هنا بالذات، لكون الذبح من أسس انهاء الحج، ولكونه فدية لكثير من الأمور في الحج، وهنا لم يقل " ففديناه" ليدلّ على موافقة الله لفهم إبراهيم، بل قال " و" فديناه، أي تم تأويل رؤياه بأننا أريناهما مناسكهما في إنهاء الحج بالذبح.
كذلك من المهم جدا أن نفهم أن الفدية عادة تكون مقابل شيء خطأ أو لم نقم به وهو مطلوب منا، كما الصيام مثلا، فعلى الذين يطيقونه ولا يصومون " فدية طعام مسكين"، وهنا إبراهيم فهم وأوّل رؤياه بما يخالف شرع وقول الله تعالى، لهذا تم طرح الفداء، ثم أن الفهم الجمعي لهذه الاية يقول أن الله أرسل من السماء ذِبحا بديل عن الذي يقوم به إبراهيم، وهذا اتانا به التراث بالطبع، ولكنني ارى أن ذلك لم يحدث، بل هو توكيل لإبراهيم بأن يقوم بذَبح ذِبحٍ عظيم بديلا عمّا قام به من تأويل خاطيء، وليتم مناسكه، فكأنني أقرأها " وفهمنا إبراهيم أن تأويل رؤياك هو أن تذبح من الأنعام شيء عظيم كفدية لما قمت به من تأويل خاطيء لرؤياك ولنريكما ما طلبتماه من مناسك "
(
وَتَرَكْنَاعَلَيْهِ فِى ٱلْءَاخِرِينَ ) أي جعلنا هذا الأمر الذي قام به بديلا عن ذبح ابنه من بعده يقوم الناس به دوما، وهو الذبح عند البيت الحرام، وهو ما تم به السعي لإبراهيم وابنه، وأراهما به مناسكهما، كما فصلت في بحث النّسُك، وبهذا تمّ حجّهما كاملا، وربما لهذا حينما سالا الله أن " وأرنا مناسكنا" فكانت هذه الرؤيا!

أما من يقول بأن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ابنه فقد افترى على الله تعالى الكذب، بل افترى عليه المنكر والبغي! فالله تعالى لا يأمر بالفحشاء، والله تعالى في نهاية القصة يستنكر الموقف مجملا، فقال (
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلَٰٓؤُا۟ٱلْمُبِينُ  )، وبالفعل هو كذلك، فالله تعالى لا يؤكد الحدث على أنه تأويل قد تم، أو أنه أمر منه، أبدا، بل هو استنكار لهول الموقف الذي أوقع إبراهيم به نفسه وابنه، في فهمه وتأويله للرؤيا.

أما من يقول بأن ابنه قال افعل ما تؤمر، وكأنّ قول ابنه وحي من الله تعالى، فهو من غريب القول، فابنه قال رأيه بحكم كونه ابن مطيع حليم صادق، وليس بحكم وحي من الله تعالى إليه بأن يقول ذلك! هو قول ابن إبراهيم بفاهه وليس من أمر الله تعالى بشيء، ولا يُنسَب لله تعالى، بل يُنسَب لإبن إبراهيم وفهمه في زمنه في سنّه وعمره ذاك، لرؤيا أباه الرسول!

أما إبراهيم وتأويله لرؤياه، فعلى الأغلب، وهذا ظنّ مني، أنّ سبب تأويله لها على ذاك النحو، قلة الأبناء وانقطاعهم عنه لفترة طويلة من العمر، فليس عنده كما أظن من القرءان الا ابن واحد، حتى أصبح هاجسا عنده، فابنه الثاني اسحاق جاء بعد أن شاخ وهرم وليس وهو في قوته وشبابه، وحين أكرمه الله تعالى بإبنه الثاني اسحاق على كبر، من بعد اسماعيل، وانقطاع طويل حتى أن امرأته أصبحت عقيما لا تلد، لهذا صكّت وجهها استنكارا للولادة من جديد بعد إذ أصبحت عقيما، فقولها عقيم يدل على أنها ولدت من قبل، ومنه، شعر بحاجة لشكر الله تعالى عليه، حاجة اصبحت على ما يبدو هاجسا عنده حتى انتابته الرؤيا فيما يتحسس منه في داخله.

من كل ما سبق من رؤيا نرى العلاقة المشتركة بينها جميعا في كون تلك الرؤيا نوع من الهاجس المستمر المقلق لمن رأى الرؤيا في أمر ما!
فيوسف لا بد كان يحس ويشعر بغيظ إخوته منه وحسدهم له ورغبتهم في التخلص منه!
ومحمد كان دائم التفكر في البيت الحرام، الذي كان يحلم أن يزوره ويحجّ اليه!
وإبراهيم كان دائم التفكير في الأبناء بعد أن بلغ من العمر وأصبح بعلا!
ومن في السجن ممن هما مع يوسف احدهما كان يعمل ويفكر في الخمر دائما فرؤياه انه يعصر خمرا فكان ان عمل في سقاية الخمر لمن عمل عنده لاحقا!

من كل ما سبق، لا أرى أبدا أي دليل على فهم رؤيا إبراهيم كما يقال عادة بشكل إعتباطي، أن الله تعالى أمره بذبح ابنه، فهل رأينا في القرءان ما يثبت هذه الفكرة؟! الجواب بالنفي الأكيد، وواضح أن الرؤيا ليست ولن تكون وحيا أبدا، ويكفينا قوله تعالى العظيم (
مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفْسًۢا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَاقَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلْبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) المائدة - 32

ملاحظة : لن أناقش قضية اسماعيل واسحاق وما يدور حولهما من نقاشات عديدة هنا في هذا البحث، فهذا فهمي الشخصي للقرءان حولهما، ومن القرءان نفهم ان تطهير البيت والحج والسعي والمناسك وكل ما حدث حول البيت الحرام كان من ابراهيم ومعه ابنه اسماعيل!

إنتهى.

والله المستعان

ملاحظة: لا حقوق في الطبع والنشر لهذه الدراسة، وإن كنت لم أصل إلى مراد الله تعالى الذي نطمح كلنا إليه –فهو سبب تدبرنا – فعسى أن تصححوا خطاي وأكون لكم من الشاكرين.

مراجع :
* المرجع الرئيسي الأساسي الحق – كتاب الله تعالى – القرءان الكريم

 

اجمالي القراءات 8953